ثم وجه - سبحانه - نداء إلى الناس . بين فيه أن كل آلهة تعبد من دونه - عز وجل - فهى باطلة وهى أعجز من أن تدافع عن نفسها ، وأن كل عابد لها هو جاهل ظالم . فقال - تعالى - : { ياأيها الناس . . . } .
المثل : الشبيه والنظير ، ثم أطلق على القول السائر المعروف ، لمماثلة مضربه - وهو الذى يضرب - فيه - بمورده - وهو الذى ورد فيه أولا - ولا يكون إلا لما فيه غرابة .
وإنما تضرب الأمثال لإيضاح المعنى الخفى ، وتقريب الشىء المعقول من الشىء المحسوس ، وعرض الغائب فى صورة المشاهد ، فيكون المعنى الذى ضرب له المثل أوقع فى القلوب ، وأثبت فى النفوس .
وسمى الله - تعالى - ما ساقه فى هذه الآية الكريمة مثلا ، لأن ما يفعله المشركون من عبادتهم لآلهة عاجزة ، يشبه المثل فى غرابته وفى التعجب من فعله .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : الذى جاء به - سبحانه - ليس بمثل فكيف سماه مثلا ؟
قلت : قد سميت الصفة أو القصة الرائعة الملتقاة بالاستغراب مثلا ، تشبيها لها ببعض الأمثال المسيرة ، لكونها مستحسنة مستغربة عندهم .
والمعنى : يأيها الناس لقد بينا لكم قصة مستغربة وحالا عجيبة . لما يعبد من دون الله - تعالى - فاستمعوا إليها بتدبر وتعقل .
وقوله : { إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ . . } بيان للمثل وتفسير له .
والذباب : اسم جنس واحدة ذبابة - وهى حشرة معروفة بطيشها وضعفها وقذارتها .
أى : إن المعبودات الباطلة التى تعبدونها أيها المشركون ، لن تستطيع أن تخلق ذبابة واحدة ، حتى لو اشتركت جميعها فى محاولة خلق هذه الذبابة .
قال صاحب الكشاف : وهذا من أبلغ ما أنزله الله فى تجهيل قريش ، واستركاك عقولهم . والشهادة على أن الشيطان قد خزمهم بخزائمه - أى قد ربطهم برباطه ، حيث وصفوا بالإلهية - التى تقتضى الاقتدار على المقدورات كلها - صوروا وتماثيل ، يستحيل منها أن تقدر على أقل ما خلقه وأذله وأصغره وأحقره ، ولو اجتمعوا لذلك وتساندوا . . .
وقوله - سبحانه - { وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ } بيان لعجز تلك الآلهة الباطلة من أمر آخر سوى الخلق .
أى : وفضلا عن عجز تلك الأصنام مجتمعة عن خلق ذبابة ، فإنها إذا اختطف الذباب منها شيئا من الأشياء لا تستطيع استرداده منه لعجزها عن ذلك .
قال القرطبى : وخص الذباب لأربعة أمور تخصه : لمهانته وضعفه ، ولاستقذاره وكثرته ، فإذا كان هذا الذى هو أضعف الحيوان وأحقره ، لا يقدر من عبدوه من دون الله - تعالى - على خلق مثله ، ودفع أذيته ، فكيف يجوز أن يكونوا آلهة معبودين ، وأربابا مطاعين ، وهذا من أقوى حجة وأوضح برهان .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بما يدل على عجز الخاطف والمخطوف منه فقال : { ضَعُفَ الطالب والمطلوب } .
قال الآلوسى : والطالب : عابد غير الله - تعالى - والمطلوب : الالهة ، وكون عابد ذلك طالب لدعائه إياه ، واعتقاده نفعه ، وضعفه لطلبه النفع من غير جهته ، وكون الآخر مطلوبا ظاهرا كضعفه .
وقيل : " الطالب الذباب يطلب ما يسلبه من الآلهة ، والمطلوب : الآلهة على معنى المطلوب منه ما يسلب . . " .
وعلى آية حال فإن هذا التعليل يدل دلالة واضحة على عجز كل معبود باطل ، وأنه قد تساوى فى عجزه مع أضعف مخلوقات الله وأحقرها .
يقول تعالى منبها على حقارة الأصنام وسخافة عقول عابديها : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ } أي : لما يعبده الجاهلون بالله المشركون به ، { فَاسْتَمِعُوا لَهُ } أي : أنصتوا وتفهموا ، { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ } أي : لو اجتمع جميع ما تعبدون من الأصنام والأنداد على أن يقدروا على خلق ذباب واحد ما قدروا على ذلك . كما قال الإمام أحمد .
حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا شَرِيك ، عن عمارة بن القعقاع ، عن أبي زُرْعة ، عن أبي هريرة - رفع الحديث - قال : " ومن أظلم ممن خلق [ خلقا ]{[20415]} كخلقي ؟ فليخلقوا مثل خلقي ذَرّة ، أو ذبابة ، أو حَبَّة " {[20416]} .
وأخرجه صاحبا الصحيح ، من طريق عُمَارة ، عن أبي زُرْعةَ ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال الله عز وجل : " ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ؟ فليخلقوا ذرة ، فليخلقوا شعيرة " {[20417]} .
ثم قال تعالى أيضا : { وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ } أي : هم عاجزون عن خلق ذباب واحد ، بل أبلغ من ذلك عاجزون عن مقاومته والانتصار منه ، لو سلبها شيئًا من الذي عليها من الطيب ، ثم أرادت أن تستنقذه منه لما قدرت على ذلك . هذا والذباب من أضعف مخلوقات الله وأحقرها ولهذا [ قال : { ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ } ] {[20418]} .
قال ابن عباس : الطالب : الصنم ، والمطلوب : الذباب . واختاره ابن جرير ، وهو ظاهر السياق . وقال السدي وغيره : الطالب : العابد ، والمطلوب : الصنم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.