التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞وَقِيلَ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ مَاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمۡۚ قَالُواْ خَيۡرٗاۗ لِّلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ فِي هَٰذِهِ ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٞۚ وَلَدَارُ ٱلۡأٓخِرَةِ خَيۡرٞۚ وَلَنِعۡمَ دَارُ ٱلۡمُتَّقِينَ} (30)

فقوله - سبحانه - : { وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً . . } بيان لما رد به المؤمنون الصادقون ، على من سألهم عما أنزله الله - تعالى - على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم .

وهو معطوف على ما قبله ، للمقابلة بين ما قاله المتقون ، وما قاله المستكبرون .

ووصفهم بالتقوى ، للاشعار بأن صيانتهم لأنفسهم عن ارتكاب ما نهى الله - تعالى - عنه ، وخوفهم منه - سبحانه - ومراقبتهم له ، كل ذلك حملهم على أن يقولوا هذا القول السديد . وكلمة { خيرا } مفعول لفعل محذوف أى : أنزل خيرا . أى : رحمة وبركة ونورا وهداية ، إذ لفظ { خيرا } من الألفاظ الجامعة لكل فضيلة .

قال صاحب الكشاف : فان قلت لم نصب هذا ورفع الأول ؟ .

قلت : فَصْلاً بين جواب المقر وجواب الجاحد ، يعنى أن هؤلاء لما سئلوا لم يتلعثموا وأطبقوا الجواب على السؤال بينا مكشوفا مفعولا للإِنزال ، فقالوا خيرا . أى أنزل خيرا . وأولئك عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا : هو أساطير الأولين وليس من الإِنزال فى شئ .

وقوله - سبحانه - : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ } جملة مستأنفة لبيان ماوعدهم به - تعالى - على أعمالهم الصالحة من أجر وثواب .

أى : هذه سنتنا فى خلقنا أننا نجازى الذين يعملون الصالحات بالجزاء الحسن الكريم ، دون أن نضيع من أعمالهم شيئا .

وقوله { حسنة } صفة لموصوف محذوف أى : مجازاة حسنة بسبب أعمالهم الصالحة .

كما قال - تعالى - فى آية أخرى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ثم بين - سبحانه - جزاءهم فى الآخرة فقال : { وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين } . والمراد بدار المتقين : الجنة ونعيمها .

و { خير } صيغة تفضيل ، حذفت همزتها لكثرة الاستعمال على سبيل التخفيف ، كما قال ابن مالك :

وغالبا أغناهم خير وشر . . . عن قولهم أخير منه وأشر

ونعم : فعل ماض لإِنشاء المدح ، وهو ضد بئس .

والمعنى : ولدار الآخرة ومافيها من عطاء غير مقطوع ، خير لهؤلاء المتقين مما أعطيناهم فى الدنيا ، ولنعم دارهم هذه الدار . قال - تعالى - : { بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا والآخرة خَيْرٌ وأبقى } ووصفها - سبحانه - بالآخرة ، لأنها آخر المنازل ، فلا انتقال عنها إلى دار أخرى ، كما قال - تعالى - : { خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً } والمخصوص بالمدح محذوف لتقدم ما يدل عليه ، والتقدير : ولنعم دار المتقين ، دار الآخرة .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞وَقِيلَ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ مَاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمۡۚ قَالُواْ خَيۡرٗاۗ لِّلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ فِي هَٰذِهِ ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٞۚ وَلَدَارُ ٱلۡأٓخِرَةِ خَيۡرٞۚ وَلَنِعۡمَ دَارُ ٱلۡمُتَّقِينَ} (30)

22

وعلى الجانب الآخر . . الذين اتقوا . . يقابلون المتكبرين المستكبرين في المبدأ والمصير :

( وقيل للذين اتقوا : ماذا أنزل ربكم ؟ قالوا : خيرا . للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ، ولدار الآخرة خير ، ولنعم دار المتقين . جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار ، لهم فيها ما يشاءون ، كذلك يجزي الله المتقين . الذين تتوفاهم الملائكة طيبين ، يقولون : سلام عليكم ، ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ) . .

إن المتقين يدركون أن الخير هو قوام هذه الدعوة ، وقوام ما أنزل ربهم من أمر ونهي وتوجيه وتشريع . فيلخصون الأمر كله في كلمة : قالوا : خيرا ثم يفصلون هذا الخير حسبما علموا مما أنزل الله : ( للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ) حياة حسنة ومتعة حسنة ، ومكانة حسنة . ( ولدار الآخرة خير ) من هذه الدار الدنيا ( ولنعم دار المتقين ) . .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞وَقِيلَ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ مَاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمۡۚ قَالُواْ خَيۡرٗاۗ لِّلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ فِي هَٰذِهِ ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٞۚ وَلَدَارُ ٱلۡأٓخِرَةِ خَيۡرٞۚ وَلَنِعۡمَ دَارُ ٱلۡمُتَّقِينَ} (30)

{ وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا }

لمّا افتتحت صفة سيّئات الكافرين وعواقبها بأنّهم إذا قيل لهم { ماذا أنزل ربكم } [ سورة النحل : 24 ] قالوا : { أساطير الأولين } [ سورة النحل : 24 ] ، جاءت هنا مقابلة حالهم بحال حسنات المؤمنين وحسن عواقبها ، فافتتح ذلك بمقابل ما افتتحت به قصّة الكافرين ، فجاء التنظير بين القصّتين في أبدع نظم .

وهذه الجملة معطوفة على الجمل التي قبلها ، وهي معترضة في خلال أحوال المشركين استطراداً . ولم تقترن هذه الجملة بأداة الشرط كما قرنت مقابلتها بها وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم } ، لأن قولهم : { أساطير الأولين } لما كان كذبا اختلقوه كان مظنة أن يقلع عنه قائلهُ وأن يرعوي إلى الحقّ وأن لا يجمع عليه القائلون ، قرن بأداة الشرط المقتضية تكرّر ذلك للدّلالة على إصْرارهم على الكفر ، بخلاف ما هنا فإن الصّدق مظنّة استمرار قائله عليه فليْس بحاجة إلى التّنبيه على تكرّره منه .

والذين اتّقوا : هم المؤمنون لأن الإيمان تقوى الله وخشية غضبه . والمراد بهم المؤمنون المعهودون في مكّة ، فالموصول للعهد .

والمعنى أنّ المؤمنين سئُلوا عن القرآن ، ومن جاء به ، فأرشدوا السائلين ولم يتردّدوا في الكشف عن حقيقة القرآن بأوجز بيان وأجمعه ، وهو كلمة { خيراً } المنصوبة ، فإن لفظها شامل لكلّ خير في الدّنيا وكلّ خير في الآخرة ، ونصبَها دال على أنّهم جعلوها معمولة ل { أنزل } الواقع في سؤال السائلين ، فدل النّصب على أنّهم مصدّقون بأنّ القرآن منزل من عند الله ، وهذا وجه المخالفة بين الرفع في جواب المشركين حين قيل لهم : { ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين } [ سورة النحل : 24 ] بالرّفع وبين النصب في كلام المؤمنين حين قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا خيراً } بالنّصب . وقد تقدم ذلك آنفاً عند قوله تعالى : { قالوا أساطير الأولين } .

{ للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين } .

مستأنفة ابتدائية ، وهي كلامٌ من الله تعالى مثل نظيرها في آية { قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة } في سورة الزمر ( 10 ) ، وليست من حكاية قول الذين اتّقوا .

والّذين أحسنوا : هم المتقون فهو من الإظهار في مقام الإضمار توصّلا بالإتيان بالموصول إلى الإيماء إلى وجه بناء الخبر ، أي جزاؤهم حسنة لأنهم أحسنوا .

وقوله تعالى : { في هذه الدنيا } يجوز أن يتعلق بفعل { أحسنوا } . ويجوز أن يكون ظرفاً مستقرّاً حالاً من { حسنة } . وانظر ما يأتي في نظر هذه الآية من سورة الزمر من نكتة هذا التوسيط .

ومعنى { ولدار الآخرة خير } أنّها خير لهم من الدّنيا فإذا كانت لهم في الدنيا حسنة فلهم في الآخرة أحسن ، فكما كان للّذين كفروا عذاب الدّنيا وعذاب جهنّم كان للّذين اتّقوا خيرُ الدّنيا وخير الآخرة .

فهذا مقابل قوله تعالى في حقّ المشركين { ليحملوا أوزارهم كاملة } [ سورة النحل : 25 ] وقوله تعالى : { وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون } [ سورة النحل : 26 ] .

وحسنة الدّنيا هي الحياة الطيّبة وما فتح الله لهم من زهرة الدنيا مع نعمة الإيمان . وخير الآخرة هو النّعيم الدّائم ، قال تعالى : { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حياة طيّبة ولنجزيّنهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } [ سورة النحل : 97 ] .

وقوله تعالى : { ولنعم دار المتقين جنات عدن يدخلونها } مقابل قوله تعالى في ضدّهم { فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين } [ سورة النحل : 29 ] .

وقد تقدّم آنفاً وجه تسمية جهنّم مثوى والجنّة داراً .

و ( نِعم ) فعل مدح غير متصرّف ، ومرفوعُهُ فاعل دالّ على جنس الممدوح ، ويذكر بعده مرفوع آخر يسمّى المخصوص بالمدح ، وهو مبتدأ محذوف الخبر ، أو خبر محذوفُ المبتدإ . فإذا تقدّم ما يدلّ على المخصوص بالمدح لم يذكر بعد ذلك كما هنا ، فإنّ تقدم { ولدار الآخرة } دلّ على أنّ المخصوص بالمدح هو دار الآخرة . والمعنى : ولنعم دار المتّقين دار الآخرة .