ثم أضاف - سبحانه إلى هذا المديح لهم ، مديحا آخر فقال : { مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } والنحب : النذر ، وهو أن يلتزم الانسان الوفاء بأمر تعهد به .
وقضاؤه : الفراغ منه ، والوفاء به على أكمل وجه .
وكان رجال من الصحابة قد نذروا ، أنهم إصا صاحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حرب ، أن يثبتوا معه ، وأن لا يفروا عنه .
والمعنى : من المؤمنين رجال كثيرون ، وفوا أكمل وفاء بما عاهدوا الله - تعالى - عليه ، من التأييد لرسوله صلى الله عليه وسلم ومن الثبات معه فى كل موطن .
{ فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ } أى : فمنهم من وفى بوعده حتى أدركه أجله فمات شهيدا - كحمزة بن عبد المطلب ، ومصعب ابن عمير وغيرهما - رضى الله عنهم أجمعين - .
{ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ } أى : ومنهم من هو مستمر على الوفاء ، وينتظر الشهادة فى سبيل الله - تعالى - فى الوقت الذى يريده - سبحانه - ويختاره ، كبقية اليالصحابة ن نزلت هذه الآية وهم ما زالو على قيد الحياة .
قال الامام ابن كثير : قال الامام أحمد : حدثنا هاشم من القاسم ، حدثنا سليمان بن المغيرة ، عن ثابت قال أنس : غاب عمى أنس بن النضر - سُمِّيتُ به - لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، فشق عليه وقال : أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه ، لئن أرانى الله مشهدا فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليَريَّن الله ما أصنع . قال : فهاب أن يقول غيرها . فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد .
فاستقبل سعد بن معاذ ، فقال له أنس : يا ابا عمرو ، أين واهاً لريح الجنة أجده دون أحد .
قال : فقاتلهم حتى قتل : فوُجِدَ فى جسده بضْعُ وثمانون من ضربة وطعنة ورمية فقالت أخته - عمتى الرُّبَيِّع ابنة النضر - فما عرفت أخى إلا ببنانه .
قال : فنزلت هذه الآية : { مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ } فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفى أصحابه - رضى الله عنهم ، ورواه مسلم والترمذى والنسائى من حديث سليمان بن المغيرة .
وقوله - تعالى - : { وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } معطوف على { صَدَقُواْ } أى : هؤلاء الرجال صدقوا صدقا تاما فى عهودهم مع الله - تعالى - حتى آخر لحظة من لحظات حياتهم ، وما غيروا ولا بدلوا شيئا مما عاهدوا الله - تعالى - عليه .
وهذا هو التوازن الذي صاغ ذلك النموذج الفريد في صدر الإسلام . النموذج الذي يذكر عنه القرآن الكريم مواقفه الماضية وحسن بلائه وجهاده ، وثباته على عهده مع الله ، فمنهم من لقيه ، ومنهم من ينتظر أن يلقاه :
( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه . فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر . وما بدلوا تبديلا ) . .
هذا في مقابل ذلك النموذج الكريه . نموذج الذين عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار . ثم ولم يوفوا بعهد الله : ( وكان عهد الله مسؤولا ) . .
روى الإمام أحمد - بإسناده - عن ثابت قال : " عمي أنس بن النضر - رضي الله عنه - سميت به - لم يشهد مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يوم بدر ، فشق عليه ، وقال : أول مشهد شهده رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] غبت عنه ! لئن أراني الله تعالى مشهدا فيما بعد مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ليرين الله عز وجل ما أصنع . قال : فهاب أن يقول غيرها . فشهد مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يوم أحد . فاستقبل سعد بن معاذ - رضي الله عنه - فقال له أنس - رضي الله عنه - يا أبا عمرو . أين واها لريح الجنة ! إني أجده دون أحد . قال : فقاتلهم حتى قتل - رضي الله عنه - قال : فوجد في جسده بضع وثمانون بين ضربة وطعنة ورمية . فقالت أخته - عمتي الربيع ابنة النضر - : فما عرفت أخي إلا ببنانه . قال : فنزلت هذه الآية : من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه . . . الخ قال : فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه رضي الله عنهم . [ ورواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث سليمان بن المغيرة ] .
أعقب الثناء على جميع المؤمنين الخلص على ثباتهم ويقينهم واستعدادهم للقاء العدوّ الكثير يومئذ وعزمهم على بذل أنفسهم ولم يقدر لهم لقاؤه كما يأتي في قوله { وكفى الله المؤمنين القتال } [ الأحزاب : 25 ] بالثناء على فريق منهم كانوا وَفَّوْا بما عاهدوا الله عليه وفاءً بالعمل والنية ، ليحصل بالثناء عليهم بذلك ثناء على إخوانهم الذين لم يتمكنوا من لقاء العدوّ يومئذ ليعلم أن صدق أولئك يؤذن بصدق هؤلاء لأن المؤمنين يدٌ واحدة .
والإخبار عنهم برجال زيادة في الثناء لأن الرجُل مشتق من الرِّجْل وهي قوة اعتماد الإنسان كما اشتق الأيد من اليَد ، فإن كانت هذه الآية نزلت مع بقية آي السورة بعد غزوة الخندق فهي تذكير بما حصل من المؤمنين من قبل ، وإن كانت نزلت يوم أُحُد فموضعها في هذه السورة إنما هو بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم فهو تنبيه على المعنى الذي ذكرناه على تقدير : أنها نزلت مع سورة الأحزاب . وأيَّا مَّا كان وقتُ نزول الآية فإن المراد منها : رجال من المؤمنين ثبتوا في وجه العدو يوم أُحُد وهم : عثمان بن عفان ، وأنس بن النضر ، وطلحة بن عبيد الله ، وحمزة ، وسعيد بن زيد ، ومصعب بن عمير . فأما أنس بن النضر وحمزة ومصعب بن عمير فقد استُشهدوا يومَ أُحُد ، وأما طلحة فقد قُطِعت يده يومئذ وهو يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما بقيتهم فقد قاتلوا ونجوا . وسياق الآية وموقعها يقتضيان أنها نزلت بعد وقعة الخندق . وذكر القرطبي رواية البيهقي عن أبي هريرة : « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من أُحُد مرّ على مصعب بن عمير وهو مقتول على طريقه فوقف ودعا له ثمّ تلا { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه الآية } .
ومعنى { صدقوا ما عاهدوا الله عليه } أنهم حققوا ما عاهدوا عليه فإن العهد وعد وهو إخبار بأنه يفعل شيئاً في المستقبل فإذا فعله فقد صدق . وفعل الصدق يستعمل قاصراً وهو الأكثر ، ويستعمل متعدياً إلى المخبَر بفتح الباء يقال : صدقه الخبر ، أي قال له الصدق ، ولذلك فإن تعديته هنا إلى { ما عاهدوا الله عليه } إنما هو على نزع الخافض ، أي : صدقوا فيما عاهدوا الله عليه ، كقولهم في المثل : صدقني سنَّ بَكْرِه ، أي : في سن بكره .
والنحب : النذر وما يلتزمه الإنسان من عهد ونحوه ، أي : من المؤمنين مَن وفّى بما عاهد عليه من الجهاد كقول أنس بن النضرْ حين لم يشهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبُر ذلك عليه وقال : أولُ مشهد شَهده رسول الله غبت عنه ، أما والله لئن أراني الله مَشهداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بعد ليرَيَّن الله ما أصنع فشهد أُحُداً وقاتل حتى قُتل .
ومثل الذين شهدوا أيام الخندق فإنهم قَضَوْا نحبهم يوم قريظة .
وقد حمل بعض المفسرين { قضَى نحبه } في هذه الآية على معنى الموت في الجهاد على طريقة الاستعارة بتشبيه الموت بالنذر في لزوم الوقوع ، وربما ارتقى ببعض المفسرين ذلك إلى جعل النحب من أسماء الموت ، ويمنع منه ما ورد في حديث الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في طلحة بن عبيد الله : « إنه ممن قَضَى نَحْبَه » وهو لم يمت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأما قوله { وما بدلوا تبديلاً } فهو في معنى { صدقُوا ما عاهدوا الله عليه } وإنما ذكر هنا للتعريض بالمنافقين الذين عاهدوا الله لا يولُّون الأدبار ثم ولوا يوم الخندق فرجعوا إلى بيوتهم في المدينة . وانتصب { تبديلاً } على أنه مفعول مطلق موكِّد ل { بدّلوا } المنفي . ولعل هذا التوكيد مسوق مساق التعريض بالمنافقين الذين بدّلوا عهد الإيمان لما ظنوا أن الغلبة تكون للمشركين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.