التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞وَقَيَّضۡنَا لَهُمۡ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡ وَحَقَّ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقَوۡلُ فِيٓ أُمَمٖ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِم مِّنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِۖ إِنَّهُمۡ كَانُواْ خَٰسِرِينَ} (25)

ثم بين - سبحانه - جانبا من الأسباب التى أوقعتهم فى هذا المصير الأليم ، ومن الأقوال السيئة التى كانوا يتواصون بها فيما بينهم ، وعن عاقبة هذا التواصى الأثيم فقال - تعالى - :

{ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ . . . } .

قال الجمل ما ملخصه : قوله : { وَقَيَّضْنَا . . . } أى : سببنا وهيأنا وبعثنا لهم قرناء يلازمونهم ويستولون عليهم استيلاء القيض على البيض . والقيضص قشر البيض . .

والتقييض - أيضا - التيسير والتهيئة ، تقول قيضت لفلان الشئ ، أى : هيأته ويسرته له . .

والقرناء : جمع قرين ، وهو الصديق الملازم للشخص الذى لا يكاد يفارقه ، وله تأثير عليه والمراد بما بين أيديهم : شهوات الدنيا وسيئاتها . والمراد بما خلفهم : ما يتعلق بالآخرة من بعث وحساب وثواب وعقاب .

والمعنى : إن حكمتنا قد اقتضت أن نهيئ ونسبب لهؤلاء المشركين قرناء سوء ، هؤلاء القرناء يزينون لهم القبيح من أعمال الدنيا التى يعيشون فيها ، كما يزينون لهم إنكار ما يتعلق بما خلفهم من أمور الآخرة ، كتكذيبهم بالبعث والحساب والجزاء .

وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ . وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السبيل وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } وقوله - تعالى - : { وَحَقَّ عَلَيْهِمُ القول في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الجن والإنس . . . } بيان لما ترتب على استجابتهم لقرناء السوء ، وانقيادهم لهم انقياد التابع للمتبوع .

أى : وثبت عليهم القول الذى قاله - سبحانه - لإبليس ، وتحقق مقتضاه وهو قوله - تعالى - : { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } وقوله : { في أُمَمٍ } فى محل نصب على الحال من الضمير فى { عَلَيْهِمُ } أى : وثبت عليهم العذاب . حالة كونهم داخلين فى جملة أمم كافرة جاحدة ، قد مضت من قبلهم ، وهذه الأمم منها ما هو من الجن ، ومنها ما هو من الإِنس .

وجملة { إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ } تعليل لاستحقاقهم العذاب . والضمير لكفار قريش ولغيرهم من الأمم السابقة التى هلكت على الكفر .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞وَقَيَّضۡنَا لَهُمۡ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡ وَحَقَّ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقَوۡلُ فِيٓ أُمَمٖ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِم مِّنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِۖ إِنَّهُمۡ كَانُواْ خَٰسِرِينَ} (25)

ثم يكشف لهم كذلك عن سلطان الله في قلوبهم ، وهم بعد في الأرض ، يستكبرون عن الإيمان بالله . فالله قد قيض لهم - بما اطلع على فساد قلوبهم - قرناء سوء من الجن ومن الأنس ، يزينون لهم السوء ، وينتهون بهم إلى مواكب الذين كتب عليهم الخسران ، وحقت عليهم كلمة العذاب :

( وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم ، وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس ، إنهم كانوا خاسرين ) . .

فلينظروا كيف هم في قبضة الله الذي يستكبرون عن عبادته . وكيف أن قلوبهم التي بين جنوبهم تقودهم إلى العذاب والخسارة وقد قيض الله وأحضر قرناء يوسوسون لهم ، ويزينون لهم كل ما حولهم من السوء ، ويحسنون لهم أعمالهم فلا يشعرون بما فيها من قبح . وأشد ما يصيب الإنسان أن يفقد إحساسه بقبح فعله وانحرافه ، وأن يرى كل شيء من شخصه حسنا ومن فعله ! فهذه هي المهلكة وهذا هو المنحدر الذي ينتهي دائماً بالبوار .

وإذا هم في قطيع السوء . في الأمم التي حق عليها وعد الله من قبلهم من الجن والإنس . قطيع الخاسرين ( إنهم كانوا خاسرين ) .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞وَقَيَّضۡنَا لَهُمۡ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡ وَحَقَّ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقَوۡلُ فِيٓ أُمَمٖ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِم مِّنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِۖ إِنَّهُمۡ كَانُواْ خَٰسِرِينَ} (25)

عطف على جملة { ويَوْمَ نَحْشُر أَعْدَاءَ الله } [ فصلت : 19 ] ، وذلك أنه حُكي قولهم المقتضي إعراضهم عن التدبر في دعوة الإيمان ثم ذكر كفرهم بخالق الأكوان بقوله قُل أينكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين [ فصلت : 9 ] ثم ذكر مصيرهم في الآخرة بقوله ويوم نحشر أعداء الله ثم عقب ذلك بذكر سبب ضلالهم الذي نشأتْ عنه أحوالهم بقوله : وَقَيَّضنا لَهُم قُرَنَاءَ } . وتخلل بين ما هنالك وما هنا أفانين من المواعظ والدلائل والمنن والتعاليم والقوارع والإيقاظ .

وَقَيَّض : أَتاح وهيَّأ شيئاً للعمل في شيء . والقرناء جَمْعُ : قرين ، وهو الصاحب الملازم ، والقرناء هنا : هم الملازمون لهم في الضلالة : إمَّا في الظاهر مثلُ دعاة الكفر وأيمتِه ، وإما في باطن النفُوس مثلُ شياطين الوسواس الذين قال الله فيهم : { ومن يعش عن ذكر الرحمان نقيض له شيطاناً فهو له قرين } ويأتي في سورة الزخرف ( 36 ) . ومعنى تقييضهم لهم : تَقديرهم لهم ، أي خَلْق المناسبات التي يتسبب عليها تقارن بعضهم مع بعض لتناسب أفكار الدعاةِ والقابلين كما يقول الحُكماء « استفادة القابل من المبدإ تتوقف على المناسبة بينهما » . فالتقييض بمعنى التقدير عبارة جامعة لمختلف المؤثرات والتجمعات التي توجب التآلف والتحابّ بين الجماعات ، ولمختلف الطبائع المكوَّنَةِ في نفوس بعض الناس فيقتضي بعضها جاذبيةَ الشياطين إليها وحدوثَ الخواطر السيئة فيها . وللإِحاطة بهذا المقصود أُوثر التعبير هنا ب { قيضنا } دون غيره من نحو : بَعثنا ، وأرسلنا .

والتزيين : التحسين ، وهو يشعر بأن المزيَّن غير حسن في ذاته . و { مَّا بَيْنَ أيْدِيهِم } يستعار للأمور المشاهدة ، وما خلفهم يستعار للأمور المغيبة .

والمراد ب { مَّا بَيْنَ أيْدِيهِم } أمور الدنيا ، أي زينوا لهم ما يعملونه في الدنيا من الفساد مثل عبادة الأصنام ، وقتل النفس بلا حق ، وأكل الأموال ، والعدول على الناس باليد واللسان ، والميسر ، وارتكاب الفواحش ، والوأد . فعوّدوهم باستحسان ذلك كله لما فيه من موافقة الشهوات والرغبات العارضة القصيرة المدى ، وصرفوهم عن النظر فيما يحيط بأفعالهم تلك من المفاسد الذاتية الدائمة .

والمراد ب { ما خلفهم } الأمور المغيبة عن الحس من صفات الله ، وأمور الآخرة من البعث والجزاء مثل الشرك بالله ونسبة الولد إليه ، وظنهم أنه يخفى عليه مستور أعمالهم ، وإحالتهم بعثة الرسل ، وإحالتهم البعث والجزاء . ومعنى تزيينهم هذا لهم تلقينهم تلك العقائد بالأدلة السفسطائية مثل قياس الغائب على الشاهد ، ونفي الحقائق التي لا تدخل تحت المدركات الحسية كقولهم : { أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون } [ الصافات : 16 ، 17 ] .

و { حق عليهم } أي تحقق فيهم القول وهو وعيد الله إياهم بالنار على الكفر ، فالتعريف في { القَوْل } للعهد . وفي هذا العهد إجمال لأنه وإن كان قد ورد في القرآن ما يُعهد منه هذا القول مثل قوله : { أفمن حق عليه كلمة العذاب } [ الزمر : 19 ] وقوله : { فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون }

[ الصافات : 31 ] ، فإنه يمكن أن لا تكون الآيات المذكورة قد سبقت هذه الآية .

وقوله : { فِي أُمَمٍ } حال من ضمير { عَلَيْهِم } ، أي حق عليهم حالة كونهم في أمم أمثالهم قد سبقوهم . والظرفية هنا مجازية ، وهي بمعنى التبعيض ، أي هم من أمم قد خلت من قبلهم حق عليهم القول . ومثل هذا الاستعمال قول عمرو بن أُذينة :

إن تَك عَن أَحسن الصنيعة مأفو *** كاً ففي آخرينَ قد أُفِكوا

أي فأنت من جملة آخرين قد صُرفوا عن أحسن الصنيعة .

و { مِن } في قوله : { مِنَ الجِنِّ والإنْسِ } بيانية ، فيجوز أن يكون بياناً ل { أُمَمٍ } ، أي من أمم من البشر ومن الشياطين فيكون مثل قوله تعالى : { قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } [ ص : 84 ، 85 ] ، وقوله : { قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار } [ الأعراف : 38 ] ويجوز أن يكون بياناً ل { قُرَنَاءَ } أي ملازمين لهم ملازمة خفية وهي ملازمة الشياطين لهم بالوسوسة وملازمة أيمة الكفر لهم بالتشريع لهم ما لم يأذن به الله .

وجملة { إنَّهُم كَانُوا خاسرين } يجوز أن تكون بياناً للقول مثل نظيرتها { فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون } في سورة الصافات ( 31 ) ، ويجوز أن تكون مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن جملة { وحَقَّ عَلَيهِم القَوْلُ في أُمَمٍ } والمعنيان متقاربان .