التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَٱصۡبِرۡ لِحُكۡمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ ٱلۡحُوتِ إِذۡ نَادَىٰ وَهُوَ مَكۡظُومٞ} (48)

وما دام الأمر كما ذكرنا لك { فاصبر } أيها الرسول الكريم - لحكم ربك ، ولقضائه فيك وفيهم ، وسر فى طريقك التى كلفناك به ، وهو تبليغ رسالتنا إلى الناس . . وستكون العاقبة لك ولأتباعك .

{ وَلاَ تَكُن } - أيها الرسول الكريم - { كَصَاحِبِ الحوت } وهو يونس - عليه السلام - .

أى : لا يوجد منك ما وجد منه ، من الضجر ، والغضب على قومه الذين لم يؤمنوا ، ففارقهم دون أن يأهذ له ربه بمفارقتهم . .

والظرف فى قوله : { إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ } منصوب بمضاف محذوف ، وجملة { وَهُوَ مَكْظُومٌ } فى محل نصب على الحال من فاعل " نادى " .

والمكظوم - بزنة مفعول - : المملوء غضبا وغيظا وكربا ، مأخوذ من كظم فلان السقاء إذا ملأه ، وكظم الغيظ إذا حبسه وهو ممتلئ به .

أى : لا يكن حالك كحال صاحب الحوت ، وقت ندائه لربه - عز وجل - وهو مملوء غيظا وكربا ، لما حدث له مع قومه ، ولما أصابه من بلاء وهو فى بطن الحوت .

وهذا النداء قد أشار إليه - سبحانه - فى آيات منها قوله - تعالى - :

{ وَذَا النون إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فنادى فِي الظلمات أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين . فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم وكذلك نُنجِي المؤمنين }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَٱصۡبِرۡ لِحُكۡمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ ٱلۡحُوتِ إِذۡ نَادَىٰ وَهُوَ مَكۡظُومٞ} (48)

وبذلك التعبير العجيب الموحي الرعيب : ( فذرني ومن يكذب بهذا الحديث ) . . وبالإعلان عن خطة المعركة والكشف عن سنة الحرب بين الله وأعدائه المخدوعين . . بهذا وذلك يخلي الله النبي [ صلى الله عليه وسلم ] والمؤمنين من المعركة بين الإيمان والكفر . وبين الحق والباطل . فهي معركته - سبحانه - وهي حربه التي يتولاها بذاته .

والأمر كذلك في حقيقته ، مهما بدا أن للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] وللمؤمنين دورا في هذه الحرب أصيلا . إن دورهم حين ييسره الله لهم هو طرف من قدر الله في حربه مع أعدائه . فهم أداة يفعل الله بها أو لا يفعل . وهو في الحالين فعال لما يريد . وهو في الحالين يتولى المعركة بذاته وفق سنته التي يريد .

وهذا النص نزل والنبي [ صلى الله عليه وسلم ] في مكة ، والمؤمنون معه قلة لا تقدر على شيء . فكانت فيه الطمأنينة للمستضعفين ، والفزع للمغترين بالقوة والجاه والمال والبنين . ثم تغيرت الأحوال والأوضاع في المدينة . وشاء الله أن يكون للرسول ومن معه من المؤمنين دور ظاهر في المعركة . ولكنه هنالك أكد لهم ذلك القول الذي قاله لهم وهم في مكة قلة مستضعفون . وقال لهم وهم منتصرون في بدر : ( فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ، وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ، وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا ، إن الله سميع عليم ) . .

وذلك ليقر في قلوبهم هذه الحقيقة . حقيقة أن المعركة معركته هو سبحانه . وأن الحرب حربه هو سبحانه . وأن القضية قضيته هو سبحانه . وأنه حين يجعل لهم فيها دورا فإنما ذلك ليبليهم منه بلاء حسنا . وليكتب لهم بهذا البلاء أجرا . أما حقيقة الحرب فهو الذي يتولاها . وأما حقيقة النصر فهو الذي يكتبها . . وهو سبحانه يجريها بهم وبدونهم . وهم حين يخوضونها أداة لقدرته ليست هي الأداة الوحيدة في يده !

وهي حقيقة واضحة من خلال النصوص القرآنية في كل موضع ، وفي كل حال ، وفي كل وضع . كما أنها هي الحقيقة التي تتفق مع التصور الإيماني لقدرة الله وقدره ، ولسنته ومشيئته ، ولحقيقة القدرة البشرية التي تنطلق لتحقيق قدر الله . . أداة . . ولن تزيد على أن تكون أداة . .

وهي حقيقة تسكب الطمأنينة في قلب المؤمن ، في حالتي قوته وضعفه على السواء . ما دام يخلص قلبه لله ، ويتوكل في جهاده على الله . فقوته ليست هي التي تنصره في معركة الحق والباطل والإيمان والكفر ، إنما هو الله الذي يكفل له النصر . وضعفه لا يهزمه لأن قوة الله من ورائه وهي التي تتولى المعركة وتكفل له النصر . ولكن الله يملي ويستدرج ويقدر الأمور في مواقيتها وفق مشيئته وحكمته ، ووفق عدله ورحمته .

كما أنها حقيقة تفزع قلب العدو ، سواء كان المؤمن أمامه في حالة ضعف أم في حالة قوة . فليس المؤمن هو الذي ينازله ، إنما هو الله الذي يتولى المعركة بقوته وجبروته . الله الذي يقول لنبيه ( فذرني ومن يكذب بهذا الحديث )وخل بيني وبين هذا البائس المتعوس ! والله يملي ويستدرج فهو في الفخ الرعيب المفزع المخيف ، ولو كان في أوج قوته وعدته . فهذه القوة هي ذاتها الفخ وهذه العدة هي ذاتها المصيدة . . ( وأملي لهم إن كيدي متين ) ! أما متى يكون . فذلك علم الله المكنون ! فمن يأمن غيب الله ومكره ? وهل يأمن مكر الله إلا القوم الفاسقون ?

وأمام هذه الحقيقة يوجه الله نبيه [ صلى الله عليه وسلم ] إلى الصبر . الصبر على تكاليف الرسالة . والصبر على التواءات النفوس . والصبر على الأذى والتكذيب . الصبر حتى يحكم الله في الوقت المقدر كما يريد . ويذكره بتجربة أخ له من قبل ضاق صدره بهذه التكاليف ، فلولا أن تداركته نعمة الله لنبذ وهو مذموم :

( فاصبر لحكم ربك ، ولا تكن كصاحب الحوت . إذ نادى وهو مكظوم . لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم . فاجتباه ربه فجعله من الصالحين ) . .

وصاحب الحوت هو يونس - عليه السلام - كما جاء في سورة الصافات . وملخص تجربته التي يذكر الله بها محمدا [ صلى الله عليه وسلم ] لتكون له زادا ورصيدا ، وهو خاتم النبيين ، الذي سبقته تجارب النبيين أجمعين في حقل الرسالة ، ليكون هو صاحب الحصاد الأخير ، وصاحب الرصيد الأخير ، وصاحب الزاد الأخير . فيعينه هذا على عبئه الثقيل الكبير . عبء هداية البشرية جميعها لا قبيلة ولا قرية ولا أمة . وعبء هداية الأجيال جميعها لا جيل واحد ولا قرن واحد كما كانت مهمة الرسل قبله . وعبء إمداد البشرية بعده بكل أجيالها وكل أقوامها بمنهج دائم ثابت صالح لتلبية ما يجد في حياتها من أحوال وأوضاع وتجارب . وكل يوم يأتي بجديد . .

ملخص تلك التجربة أن يونس بن متى - سلام الله عليه - أرسله الله إلى أهل قرية . قيل اسمها نينوى بالموصل . فاستبطأ إيمانهم ، وشق عليه تلكؤهم ، فتركهم مغاضبا قائلا في نفسه : إن الله لن يضيق علي بالبقاء بين هؤلاء المتعنتين المعاندين ، وهو قادر على أن يرسلني إلى قوم آخرين ! وقد قاده الغضب والضيق إلى شاطئ البحر ، حيث ركب سفينته ، فلما كانوا في وسط اللج ثقلت السفينة وتعرضت للغرق . فأقرعوا بين الركاب للتخفف من واحد منهم لتخف السفينة . . فكانت القرعة على يونس . فألقوه في اليم . فابتلعه الحوت .

عندئذ نادى يونس - وهو كظيم - في هذا الكرب الشديد في الظلمات في بطن الحوت ، في وسط اللجة ، نادى ربه : ( لا إله إلا أنت سبحانك ! إني كنت من الظالمين )فتداركته نعمة من ربه ، فنبذه الحوت على الشاطئ . . لحما بلا جلدا . . ذاب جلده في بطن الحوت . وحفظ الله حياته بقدرته التي لا يقيدها قيد من مألوف البشر المحدود !

وهنا يقول : إنه لولا هذه النعمة لنبذه الحوت وهو مذموم . أي مذموم من ربه . . على فعلته . وقلة صبره . وتصرفه في شأن نفسه قبل أن يأذن الله له . ولكن نعمة الله وقته هذا ، وقبل الله تسبيحه واعترافه وندمه . وعلم منه ما يستحق عليه النعمة والاجتباء . ( فاجتباه ربه فجعله من الصالحين ) . .

هذه هي التجربة التي مر بها صاحب الحوت . يذكر الله بها رسوله محمدا [ صلى الله عليه وسلم ] في موقف العنت والتكذيب . بعد ما أخلاه من المعركة كما هي الحقيقة ، وأمره بتركها له يتولاها كما يريد . وقتما يريد . وكلفه الصبر لحكم الله وقضائه في تحديد الموعد ، وفي مشقات الطريق حتى يحين الموعد المضروب !

إن مشقة الدعوة الحقيقية هي مشقة الصبر لحكم الله ، حتى يأتي موعده ، في الوقت الذي يريده بحكمته . وفي الطريق مشقات كثيرة . مشقات التكذيب والتعذيب . ومشقات الالتواء والعناد . ومشقات انتفاش الباطل وانتفاخه . ومشقات افتتان الناس بالباطل المزهو المنتصر فيما تراه العيون . ثم مشقات امساك النفس على هذا كله راضية مستقرة مطمئنة إلى وعد الله الحق ، لا ترتاب ولا تتردد في قطع الطريق ، مهما تكن مشقات الطريق . . وهو جهد ضخم مرهق يحتاج إلى عزم وصبر ومدد من الله وتوفيق . . أما المعركة ذاتها فقد قضى الله فيها ، وقدر أنه هو الذي يتولاها ، كما قدر أنه يملي ويستدرج لحكمة يراها . كذلك وعد نبيه الكريم ، فصدقه الوعد بعد حين .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَٱصۡبِرۡ لِحُكۡمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ ٱلۡحُوتِ إِذۡ نَادَىٰ وَهُوَ مَكۡظُومٞ} (48)

ثم أمر تعالى نبيه بالصبر لحكمه ، وأن يمضي لما أمر به من التبليغ واحتمال الأذى والمشقة ، ونهى عن الضجر والعجلة التي وقع فيها يونس صلى الله عليه وسلم ، ثم اقتضبت القصة ، وذكر ما وقع في آخرها من ندائه من بطن الحوت { وهو مكظوم } ، أي غيظه في صدره . وحقيقة الكظم : هو الغيظ والحزن والندم فحمل المكظوم عليه تجوزاً ، وهو في الحقيقة كاظم ، ونحو هذا قول ذي الرمة : [ البسيط ]

وأنت من حب مني مضمر حزناً . . . عاني الفؤاد قريح القلب مكظوم{[11267]}

وقال النقاش : المكظوم ، الذي أخذ بكظمه وهو مجاري القلب ، ومنه سميت الكاظمة وهي القناة في جوف الأرض{[11268]} .


[11267]:الحزن والحزن بمعنى واحد، قال تعالى: (وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن)، وقد فرق بعض اللغويين بينهما تفرقة لا تخرجهما عن أن المعنى فيهما ضد الفرح، والمكظوم: الحزين الذي يخفي حزنه ويكتمه فيسبب له ألما أكثر، وهو موضع الاستشهاد هنا. وقد كثر الكلام في معنى القرح وفي التفريق بينه وبين الجرح، والمعنى في النهاية واحد.
[11268]:هكذا جاءت كلمة "الكاظمة" في الأصول، والذي في لسان العرب أن "الكاظمة" موضع قال امرؤ القيس: إذا هن أقساط كرجل الدبى أو كقطا كاظمة الناهل أما القناة التي في جوف الأرض فتسمى "الكظامة" قال في اللسان: "قناة في باطن الأرض يجري فيها الماء، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى كظامة قوم فتوضأ منها ومسح على خفيه، الكظامة كالقناة، وجمعها كظائم".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَٱصۡبِرۡ لِحُكۡمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ ٱلۡحُوتِ إِذۡ نَادَىٰ وَهُوَ مَكۡظُومٞ} (48)

تفريع على ما تقدم من إبطال مزاعم المشركين ومطاعنهم في القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم وما تبعه من تكفل الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بعاقبة النصر ، وذلك أن شدته على نفس النبي صلى الله عليه وسلم من شأنها أن تُدخل عليه يَأْساً من حصول رغبته ونجاح سعيه ، ففرع عليه تثبيتهُ وحثه على المصابرة واستمراره على الهَدْي ، وتعريفه بأن ذلك التثبيت يرفع درجته في مقام الرسالة ليكون من أولي العزم ، فذكَّره بمثَل يونس عليه السلام إذْ استعجل عن أمر ربّه ، فأدبه الله ثم اجتباه وتاب عليه وجعله من الصالحين تذكيراً مراداً به التحذير .

والمراد بحكم الربّ هنا أمره وهو ما حُمله إياه من الإِرسال والاضطلاع بأعباء الدعوة . وهذا الحكم هو المستقرأ من آيات الأمر بالدعوة التي أولها { يا أيها المدثر قم فأنذر } إلى قوله : { ولربك فاصبر } [ المدثر : 17 ] فهذا هو الصبر المأمور به في هذه الآية أيضاً . ولا جرم أن الصبر لذلك يستدعي انتظار الوعد بالنصر وعدم الضجر من تأخره إلى أمده المقدر في علم الله .

وصاحب الحوت : هو يونس بن متَّى ، وقد تقدم ذكره عند قوله تعالى : { ووهبنا له إسحاق } إلي قوله : { ويونس } في سورة الأنعام ( 84 86 ) .

والصاحب : الذي يصحب غيره ، أي يكون معه في بعض الأحوال أو في معظمها ، وإطلاقه على يونس لأن الحوت التقمه ثم قذفه فصار ( صاحبُ الحوت ) لقباً له لأن تلك الحالة معيَّة قوية .

وقد كانت مؤاخذةُ يونس عليه السلام على ضجره من تكذيب قومه وهم أهل نِينَوى كما تقدم في سورة الصافات .

و { إذْ } طرف زمان وهو وجملته متعلق باستقرار منصوب على الحال أي في حالة وقت ندائه ربّه ، فإنه ما نادى ربّه إلاّ لإِنقاذه من كربه الذي وقع فيه بسبب مغاضبته وضجره من قومه ، أي لا يكن منك ما يلجئك إلى مثل ندائه .

والمكظوم : المحبوس المسدود عليه يقال : كظم الباب أغلقَه وكظَم النهر إذا سده ، والمعنى : نادى في حال حبسه في بطن الحوت .

وجيء بهذه الحال جملة اسمية لدلالتها على الثبات ، أي هو في حبس لا يرجى لمثله سراح ، وهذا تمهيد للامتنان عليه بالنجاة من مثل ذلك الحبس .