ثم أمر - سبحانه - المؤمنين باعداد وسائل القوة التي بها يصلون إلى النصر ، وغلى بعث الرعب في قلوبهم أعدائهم . . فقال - عز وجل - : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ . . . } .
وقوله : { وَأَعِدُّواْ } معطوف على ما قبله ، وهو من الإِعداد بمعنى تهيئة الشئ للمستقبل ، والخطاب لكافة المؤمنين .
والرباط في الأصل مصدر ربط ، أي شد ، ويطلق ، بمعنى المربوط مطلقا ، وكثر استعماله في الخيل التي تربط في سبيل الله ، فالإِضافة إما باعتبار عموم المفهوم الأصلى ، أو بملاحظة كون الربط مشتركا بين معان آخر كملازمة الثغور ، والمواظبة على الأمر ، فإضافته لأحد معانيه للبيان .
قال صاحب الكشاف : والرباط : اسم للخيل التي تربط في سبيل الله ، ويجوز أن يسمى بالرباط الذي هو بمعنى المرابطة ، ويجوز أن يكون جمع ربيط كفصيل وفصال - يقال نعم الربيط هذا ، لما يرتبط من الخيل .
والمعنى : عليكم - أيها المؤمنون - أن تعدوا لقتال أعدائكم ما تستطيعون إعداه من وسائل القولة على اختلاف صنوفها وألوانها وأسبابها .
وجاء - سبحانه - بلفظ { قُوَّةٍ } منكراً ، ليشمل كل ما يتقوى به في الحرب كائنا ما كان .
قال الجمل : وقوله { مِّن قُوَّةٍ } في محل نصب على الحال ، وفى صاحبها وجهان : أحدهما أنه الموصول . والثانى : أنه العائد عليه ، إذ التقدير ما استطعتموه حال كونه بعض القوة ، ويجوز أن تكون { مِن } لبيان الجنس .
وقوله : { وَمِن رِّبَاطِ الخيل } معطوف على ما قبله من عطف الخاص على العام .
أى : أعدوا لقتال أعدائكم ، ما أمكنكم من كل ما يتقوى به عليهم في الحرب ، من نحو : حصون وقلاع وسلاح . ومن رباط الخيل للغزو والجهاد في سبيل الله .
وخص رباط الخيل بالذكر من بين ما يتقوى به ، لمزيد فضلها وغنائها في الحرب ، ولأن الخيل كانت الأداة الرئيسية في القتال في العهد النبوى ، وقوله : { تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ } بيان للمقصود من الأمر بإعداد ما يمكنهم إعداده من قوة .
وقوله : { تُرْهِبُونَ } من الرهبة وهى مخافة مع ترحز واضطراب .
والضمير المجرور - وهو قوله { بِهِ } - يعود إلى الإِعداد المأخوذ من قوله { وَأَعِدُّواْ } .
أى : أعدوا ما استطعتم من قوة ، حال كونكم مرهبين بهذا الإِعداد عدو الله وعدوكم ، من كل كافر ومشرك ومنحرف عن طريق الحق ، وعلى رأس هؤلاء جميعا ، كفار مكة الذين أخرجوكم من دياركم بغير حق ، ويهود المدينة الذين لم يتركوا وسيلة للإِضرار بكم إلا فعلوها .
وقوله { وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ } معطوف على ما قبله .
أى : ترهبون بهذا الإِ عداد أعداء معروفين لكم - كمشركى مكة ويهود المدينة ، وترهبون به أيضاً أعداء آخرين غيرهم أنتم لا تعرفونهم لأنهم يخفون عداوتهم لكم ، ولكن الله - تعالى - الذي لا يخفى عليه شئ يعلمهم ، وسيحبط أعمالهم .
وقد اختلف المفسرون في المراد بهؤلاء الأعداء الذين عبر الله عنهم بقوله لا تعلمونهم الله يعلمهم ، فمنهم من قال : المراد بهم بنو قريظة ومنهم من قال : المراد بهم أهل فارس والروم .
ورجح ابن جرير أن المراد بهم : كفار الجن . . لأن المؤمنين كانوا عالمين بمداراة بنى قريضة وفارس والروم لهم . . والمعنى ترهبون بذلك الإِعداد عدو الله وعدوكم من بنى آدم الذين علمتم عداوتهم ، وترهبون به جنسا آخر من غير بنى آدم لا تعلمون أماكنهم وأحوالهم : الله يعلمهم دونكم ، لأن بنى آدم لا يرونهم .
ورجح الفخر الرازى أن المراد بهم المنافقون ، قال : لأن المنافقين من عادته أن يتربص ظهور الآفات ، ويحتال في إلقاء الإِفساد والتفريق بين المسلمين - بطرق قد لا تعرف ، فإذا شاهد كون المسلمين في غاية القوة خافهم وترك الأفعال المذمومة .
ولعل ما رجحه الفخر الرازى هو الأقرب إلى الصواب ، لأن عداوة المنافقين للمؤمنين كثيراً ما تكون خافية ، ويشهد لهذا قوله - تعالى - في آية أخرى : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأعراب مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المدينة مَرَدُواْ عَلَى النفاق لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } ثم ختم - سبحانه الآية الكريمة بالدعوة إلى الإِنفاق في سبيله ، وبشر المنفقين بسحن الجزاء فقال : { وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ الله يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } .
أى : { وَمَا تُنفِقُواْ } - أيها المؤمنون - { مِن شَيْءٍ } قل أو أكثر هذا المنفق { فِي سَبِيلِ الله } أي في وجوه الخيرات التي من أجَلِّها الجهاد لإِعلاء كلمة الدين { يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } أى : يصل إليكم عوضه في الدنيا وأجره في الآخرة { وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } أى : لا تنقصون شيئاً من العوض أو الأجر .
قال : والتعبير بالظلم - مع أن الأعمال غير موجبة للثواب حتى يكون ترك ترتيبه عليها ظلما - لبيان كمال نزاهته - سبحانه - عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه - تعالى - من القبائح ، وإبراز الإِثابة في معرض الأمور الواجبة عليه - تعالى - .
هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتى :
1- وجوب إعداد القوة الحربية للدفاع عن الدين وعن الوطن وعن كل ما يجب الدفاع عنه ، لأن أعداء الإِسلام إذا ما علموا أن أتباعه أقوياء هابوهم ، وخافوا بأسهم ، ولم يجرؤوا على مهاجمتهم .
قال القرطبى : وقوله - تعالى - { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ } . أمر الله المؤمنين بإعداد القوة للأعداء ، بعد أن أكد تقدمه التقوى . فإن الله - تعالى - لو شاء لهزمهم بالكلام والتفل في وجوههم ، وبحفنة من تراب ، كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولكن أراد أن يبتلى بعض الناس ببعض بعلمه السابق وقضائه النافذ . .
وقال بعض العلماء : دلت هذه الآية على وجوب إعداد القوة الحربية ، اتقاء بأس العدو وهجومه ، ولما عمل الأمراء بمقتضى هذه الآية أيام حضاره الإِسلام ، كان الإِسلام عزيزاً ، عظيماً ، أبي الضيم ، قوي القنا ، جليل الجاه ، وفير السنا ، إذ نشر لواء سلطته على منبسط الأرض ، فقبض على ناصية الأقطار والأمصار .
أما اليوم فقد ترك المسلمون العمل بهذه الآية الكريمة ، ومالوا إلى النعيم والترف ، فأهملوا فرضاً من فروض الكفاية ، فأصحبت جميع الأمة آثمة بترك هذا الفرض ، ولذا تعانى اليوم من غصته ما تعانى .
وكيف لا يطمع العدو في بلاد الإِسلام ، وهو لا يرى فيها معامل للأسلحة ، وذخائر الحرب ، بل كلها مما يشترى من بلاط العدو ؟
أما آن لها أن تتنبه من غفلتها ، فتعد العدة التي أمر الله بها لأعدائه ، وتتلافى ما فرطت قبل أن يداهم العدو ما بقى منها بخيله ورجله . . ؟
إن القوة التي طلب الله من المؤمنين إعدادها لإرهاب الأعداء ، تتناول كل ما من شأنه أن يجعل المؤمنين أقوياء . كإعداد الجيوش المدربة ، والأسلحة المتنوعة التي تختلف بحسب الأزمنة والأمكنة .
وما روى من تفسيره القوة - التي وردت في الآية - بالرمي ، فإنما هو على سبيل المثال ، ولأن الرمي كان في ذلك الوقت أقوى ما يتقوى به .
قال الفخر الرازى عند تفسيره للآية ، والمراد بالقوة هنا ما يكون سبباً لحصول القوة ، وذكروا فيه وجوها :
الأول : المراد من القوة أنواح الأسلحة .
الثانى : روى أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ هذه الآية على المنبر وقال : " ألا إن القوة الرمي " قالها ثلاثاً .
الثالث : قال بعضهم : القوة هي الحصون .
الرابع : قال أصحاب المعانى : الأولى أن يقال : هذا عام في كل ما يتقوى به على حرب العدو ، وكل ما هو آلة للغزو والجهاد فهو من جملة القوة ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " القوة هى الرمي " لا ينفى كون غير الرمى معتبراً . كما أن قوله - صلى الله عليه وسلم - " الحج عرفه " " والندم توبة " لا ينفى اعتبار غيره . بل يدل على أن هذا المذكور جزء شريف من المقصود فكذا هنا .
وهذه الآية تدل على أن الاستعداد للجهاد بالنبل ، والسلاح ، وتعليم الفروسية ، والرمي فريضة إلا أنه من فرض الكفايات .
إن رباط الخيل للجهاد في سبيل الله فضله عظيم ، وثوابه كبير فقد كانت الخيل هى خير ما عرف العرب من وسائل الانتقال في الحرب وأسرعها ، وما زالت الخيل لها قيمتها في بعض أنواع الحروب .
قال القرطبى ، فإن قيل : إن قوله { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ } كان يكفى ، فلماذا خص الخيل بالذكر ؟
قيل له : إن الخيل لما كانت أصل الحرب وأوزارها التي عقد الخير في نواصيها ، وهى أقوى القوة ، وأشد العدة ، وحصون الفرسان ، وبها يجال في الميدان ، لما كانت كذلك خصها بالذكر تشريفاً ، وأقسم بغبارها تكريماً ، فقال : { والعاديات ضَبْحاً } وقال الإِمام ابن العربى : وأما رباط الخيل هو فضل عظيم ومنزلة شريفة .
روى الأئمة عن أبى هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :
" الخيل ثلاثة ، لرجل ستر ، ولرجل أجر ، وعلى رجل وزر . فأما الذي هى عليه وزر رجل ربطها رياء وفخراً ونواء لأهل الإِسلام - أى : مناوأة ومعاداة - فهى عليه وزر " .
وأما الذي هى له أجر فرجل ربطها في سبيل الله ، فأطال لها في مرج أو روضة ، فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة من شئ إلا كتب الله له عدد ما أكلت حسنات . .
وروى البخارى ومسلم عن جابر بن عبد الله قال : " رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلوى ناصية فرس بأصبعيه وهو يقول : " الخير معقود في نواصى الخيل إلى يوم القيامة " " .
4- أن المقصود من إعداد العدة في الإِسلام إنما هو إرهاب الأعداء حتى لا يفكروا في الاعتداء على المسلمين ، وحتى يعيش أتباع هذا الدين آمنين مطمئنين في ديارهم ، وحتى يستطيعوا أن يبلغوا رسالة الله إلى خلقه من الناس دون أن يخشوا أحداً سواه - عز وجل . .
وليس المقصود بأعداد العدة إرهاب المسالمين ، أو العدوان على الآمنين ، أو القهر والإِذلال للناس واستغلالهم فيما يغضب الله - تعالى - .
ولذلك وجدنا الآية صريحة في بيان المقصود من هذا الإِعداد ، وهو - كما عبرت عنه { تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ } .
وهناك آيات أخرى صريحة في بيان سبب مشروعيته القتال في الإِسلام ومن ذلك قوله - تعالى - : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين } وقوله - تعالى - : { وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدين للَّهِ فَإِنِ انتهوا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظالمين } والخلاصة : أن من تتبع آيات القرآن الواردة في القتال يجدها جميعها تقرر أن سبب القتال في الإِسم ينحصر في رد العدوان ، وحماية الدعوة الإِسلامية من التطاول عليها وتثبيت حرية العقيدة ، وتطهير الأرض من الظلم والطغيان .
5- وجوب الإِنفاق في سبيل الله ، ومن أشرف وجوه الإِنفاق في سبيل الله أن يبذل المسلم ما يستطيع بذله في الجهاد الذي هو ذروة سنام الإِسلام ، والذى ما تركه قوم إلا ذلوا . . وألقوا بأنفسهم في التهلكة . .
ولقد بشرت الآية الكريمة المنفقين في سبيل الله ، بأنه - سبحانه - سيجازيهم على إنفاقهم جزاء وافيا لا نقص معه ولا ظلم .
قال - تعالى - { وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ الله يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } وفى الحديث الشريف الذي رواه الترمذى عن أبى يحيى قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من أنفق نفقة في سبيل الله كتب له سبعمائة ضعف " .
ولكن الإسلام يتخذ للنصر عدته الواقعية التي تدخل في طوق العصبة المسلمة ؛ فهو لا يعلق أبصارها بتلك الآفاق العالية إلا وقد أمن لها الأرض الصلبة التي تطمئن عليها أقدامها ؛ وهيأ لها الأسباب العملية التي تعرفها فطرتها وتؤيدها تجاربها ؛ وإلا إذا أعدها هي للحركة الواقعية التي تحقق هذه الغايات العلوية :
( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ، ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم . وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ) .
فالاستعداد بما في الطوق فريضة تصاحب فريضة الجهاد ؛ والنص يأمر بإعداد القوة على اختلاف صنوفها وألوانها وأسبابها ؛ ويخص ( رباط الخيل )لأنه الأداة التي كانت بارزة عند من كان يخاطبهم بهذا القرآن أول مرة . . ولو أمرهم بإعداد أسباب لا يعرفونها في ذلك الحين مما سيجد مع الزمن لخاطبهم بمجهولات محيرة - تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا - والمهم هو عموم التوجيه :
( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) . .
إنه لا بد للإسلام من قوة ينطلق بها في " الأرض " لتحرير " الإنسان " . . وأول ما تصنعه هذه القوة في حقل الدعوة : أن تؤمن الذين يختارون هذه العقيدة على حريتهم في اختيارها ؛ فلا يصدوا عنها ، ولا يفتنوا كذلك بعد اعتناقها . . والأمر الثاني : أن ترهب أعداء هذا الدين فلا يفكروا في الاعتداء على " دار الإسلام " التي تحميها تلك القوة . . والأمر الثالث : أن يبلغ الرعب بهؤلاء الأعداء أن لا يفكروا في الوقوف في وجه المد الإسلامي ، وهو ينطلق لتحرير " الإنسان " كله في " الأرض " كلها . . والأمر الرابع : أن تحطم هذه القوة كل قوة في الأرض تتخذ لنفسها صفة الألوهية ، فتحكم الناس بشرائعها هي وسلطانها ؛ ولا تعترف بأن الألوهية لله وحده ؛ ومن ثم فالحاكمية له وحده سبحانه . .
إن الإسلام ليس نظاماً لاهوتياً يتحقق بمجرد استقراره عقيدة في القلوب ، وتنظيماً للشعائر ، ثم تنتهي مهمته ! إن الإسلام منهج عملي واقعي للحياة ؛ يواجه مناهج أخرى تقوم عليها سلطات وتقف وراءها قوى مادية . فلا مفر للإسلام - لإقرار منهجه الرباني - من تحطيم تلك القوى المادية ، وتدمير السلطات التي تنفذ تلك المناهج الأخرى ، وتقاوم المنهج الرباني . .
وينبغي للمسلم ألا يتمتم ولا يجمجم وهو يعلن هذه الحقيقة الكبيرة . . ينبغي ألا يستشعر الخجل من طبيعة منهجه الرباني . ينبغي أن يذكر أن الإسلام حين ينطلق في الأرض إنما ينطلق لإعلان تحرير الإنسان بتقرير ألوهية الله وحده وتحطيم ألوهية العبيد ! إنه لا ينطلق بمنهج من صنع البشر ؛ ولا لتقرير سلطان زعيم ، أو دولة ، أو طبقة ، أو جنس ! إنه لا ينطلق لاسترقاق العبيد ليفلحوا مزارع الأشراف كالرومان ؛ ولا لاستغلال الأسواق والخامات كالرأسمالية الغربية ؛ ولا لفرض مذهب بشري من صنع بشر جاهل قاصر كالشيوعية وما إليها من المذاهب البشرية . . إنما ينطلق بمنهج من صنع الله العليم الحكيم الخبير البصير ، ولتقرير ألوهية الله وحده وسلطانه لتحرير " الإنسان " في " الأرض " من العبودية للعبيد . .
هذه هي الحقيقة الكبيرة التي يجب أن يدركها المهزومون الذين يقفون بالدين موقف الدفاع ؛ وهم يتمتمون ويجمجمون للاعتذار عن المد الإسلامي ! والجهاد الإسلامي .
ويحسن أن نعرف حدود التكليف بإعداد القوة . فالنص يقول :
( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) . .
فهي حدود الطاقة إلى أقصاها . بحيث لا تقعد العصبة المسلمة عن سبب من أسباب القوة يدخل في طاقتها . كذلك يشير النص إلى الغرض الأول من إعداد القوة :
( ترهبون به عدو الله وعدوكم ، وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ) . .
فهو إلقاء الرعب والرهبة في قلوب أعداء الله الذين هم أعداء العصبة المسلمة في الأرض . الظاهرين منهم الذين يعلمهم المسلمون ؛ ومن وراءهم ممن لا يعرفونهم ، أو لم يجهروا لهم بالعداوة ، واللّه يعلم سرائرهم وحقائقهم . وهؤلاء ترهبهم قوة الإسلام ولو لم تمتد بالفعل إليهم . والمسلمون مكلفون أن يكونوا أقوياء ، وأن يحشدوا ما يستطيعون من أسباب القوة ليكونوا مرهوبين في الأرض ؛ ولتكون كلمة اللّه هي العليا ، وليكون الدين كله للّه .
ولما كان إعداد العدة يقتضي أموالا ، وكان النظام الإسلامي كله يقوم على أساس التكافل ، فقد اقترنت الدعوة إلى الجهاد بالدعوة إلى إنفاق المال في سبيل الله :
( وما تنفقوا من شيء - في سبيل الله - يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ) . .
وهكذا يجرد الإسلام الجهاد والنفقة في سبيله ، من كل غاية أرضية ، ومن كل دافع شخصي ؛ ومن كل شعور قومي أو طبقي ، ليتمحض خالصا للّه " في سبيل اللّه " لتحقيق كلمة اللّه ، ابتغاء رضوان اللّه .
ومن ثم ينفي الإسلام من حسابه - منذ الوهلة الاولى - كل حرب تقوم على أمجاد الأشخاص والدول . وكل حرب تقوم للاستغلال وفتح الأسواق . وكل حرب تقوم للقهر والإذلال . وكل حرب تقوم لتسويد وطن على وطن ، أو قوم على قوم ، أو جنس على جنس ، أو طبقة على طبقة . . ويستبقي نوعاً واحداً من الحركة . . حركة الجهاد في سبيل الله . . والله - سبحانه - لا يريد تسويد جنس ولا وطن ولا قوم ولا طبقة ولا فرد ولا شعب . إنما يريد أن تسود ألوهيته وسلطانه وحاكميته . وهو غني عن العالمين . ولكن سيادة ألوهيته هي وحدها التي تكفل الخير والبركة والحرية والكرامة للعالمين .
المخاطبة في هذه الآية لجميع المؤمنين ، والضمير في قوله { لهم } عائد على الذين ينبذ إليهم العهد ، أو على الذين لا يعجزون على تأويل من تأول ذلك في الدنيا ، ويحتمل أن يعيده على جميع الكفار المأمور بحربهم في ذلك الوقت ثم استمرت الآية في الأمة عامة ، إذ الأمر قد توجه بحرب جميع الكفار وقال عكرمة مولى ابن عباس : «القوة » ذكور الخيل و «الرباط » إناثها ، وهذا قول ضعيف ، وقالت فرقة : القوة الرمي واحتجت بحديث عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي{[5433]} » ثلاثاً ، وقال السدي : القوة السلاح ، وذهب الطبري إلى عموم اللفظة ، وذكر عن مجاهد أنه رئي يتجهز وعنده جوالق{[5434]} فقال : هذا من القوة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا هو الصواب ، و { الخيل } والمركوب في الجملة والمحمول عليه من الحيوان والسلاح كله والملابس الباهتة والآلات والنفقات كلها داخلة في القوة ، وأمر المسلمون بإعداد ما استطاعوا من ذلك ، ولما كانت الخيل هي أصل الحروب وأوزارها والتي عقد الخير في نواصيها وهي أقوى القوة وحصون الفرسان خصها الله بالذكر تشريفاً على قوله { من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل }{[5435]} وعلى نحو قوله { فاكهة ونخل ورمان }{[5436]} وهذا كثير ، ونحوه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً »{[5437]} هذا في البخاري وغيره ، وقال في صحيح مسلم «جعلت لي الأرض مسجداً وترابها طهوراً » ، فذكرت التراب على جهة التحفي به إذ هو أعظم أجزاء الأرض مع دخوله في عموم الحديث الآخر ، ولما كانت السهام من أنجع ما ُيتعاطى في الحرب ، وأنكاه في العدو ، وأقربه تناولاً للأرواح ، خصها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذكر والتنبيه عليها ، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن الله تعالى يدخل بالسهم الواحد الثلاثة من المسلمين الجنة ، صانعة والذي يحتسب في صنعته والذي يرمي به »{[5438]} ، وقال عمرو بن عنبة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «من رمى بسهم في سبيل الله أصاب العدو أو أخطأ فهو كعتق رقبة »{[5439]} ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «ارموا واركبوا ، وأن ترموا أحب إليّ من أن تركبوا »{[5440]} و { رباط الخيل } جمع ربط ككلب وكلاب ، ولا يكثر ربطها إلا وهي كثيرة ، ويجوز أن يكون الرباط مصدراً من ربط كصاح صياحاً ونحوه لأن مصادر الثلاثي غير المزيد لا تنقاس{[5441]} ، وإن جعلناه مصدراً من رابط فكأن ارتباط الخيل واتخاذها يفعله كل واحد لفعل آخر له فترابط المؤمنون بعضهم بعضاً ، فإذا ربط كل واحد منهم فرساً لأجل صاحبه فقد حصل بينهم رباط ، وذلك الذي حض في الآية عليه ، وقد قال صلى الله عليه وسلم :
«من ارتبط فرساً في سبيل الله فهو كالباسط يده بالصدقة لا يقبضها »{[5442]} ، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ، وقرأ الحسن وعمرو بن دينار وأبو حيوة «من رُبُط » بضم الراء والباء وهو جمع رباط ككتاب وكُتُب ، كذا نصبه المفسرون وفي جمعه وهو مصدر غير مختلف نظر{[5443]} .
و{ ترهبون } معناه تفزعون وتخوفون ، والرهبة الخوف ، قال طفيل الغنوي : [ البسيط ]
ويلُ أم حيّ دفعتم في نحورهمُ*** بني كلاب غداة الرعب والرهب{[5444]}
ومنه راهب النصارى ، يقال رهب إذا خاف ، ف { ترهبون } معدى بالهمزة ، وقرأ الحسن ويعقوب «تُرَهّبون » بفتح الراء وشد الهاء معدى بالتضعيف ، ورويت عن أبي عمرو بن العلاء قال أبو حاتم : وزعم عمرو أن الحسن قرأ «يرهبون » بالياء من تحت وخففها ، فهو على هذا المعدى بالتضعيف ، وقرأ ابن عباس وعكرمة «تخزون به عدو الله » .
قال القاضي أبو محمد : ذكرها الطبري تفسيراً لا قراءة ، وأثبتها أبو عمرو الداني قراءة ، وقوله { عدو الله وعدوكم } ذكر الصفتين وإن كانت{[5445]} متقاربة إذ هي متغايرة المنحى ، وبذكرهما يتقوى الذم وتتضح وجوه بغضنا لهم وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي «عدواً لله » بتنوين عدو وبلام في المكتوبة{[5446]} ، والمراد بهاتين الصفتين من قرب وصاقب{[5447]} من الكفار وكانت عداوته متحركة بعد ، ويجوز أن يراد بها جميع الكفار ويبين هذا من اختلافهم في قوله { وآخرين من دونهم } الآية ، قال مجاهد الإشارة بقوله { وآخرين } إلى قريظة ، وقال السدي : إلى أهل فارس ، وقال ابن زيد : الإشارة إلى المنافقين ، وقالت فرقة : الإشارة إلى الجن ، وقالت فرقة : هم كل عدو للمسلمين غير الفرقة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يشرد بهم من خلفهم .
قال القاضي أبو محمد : وهذا الخلاف إنما ينبغي أن يترتب على ما يتوجه من المعنى في قوله { لا تعلمونهم } فإذا حملنا قوله { لا تعلمونهم } على عمومه ونفينا علم المؤمنين بهذه الفرقة المشار إليها جملة واحدة كان العلم بمعنى المعرفة لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد لم يثبت من الخلاف في قوله { آخرين } إلا قول من قال الإشارة إلى المنافقين وقول من قال : الإشارة إلى الجن ، وإذا جعلنا قوله { لا تعلمونهم } محاربين أو نحو هذا مما تفيد به نفي العلم عنهم حسنت الأقوال ، وكان العلم متعدياً إلى مفعولين .
قال القاضي أبو محمد : هذا الوجه أشبه عندي ، ورجح الطبري أن الإشارة إلى الجن وأسند في ذلك ما روي من أن صهيل الخيل ينفر الجن وأن الشيطان لا يدخل داراً فيها فرس الجهاد ونحو هذا ، وفيه على احتماله نظر ، وكان الأهم في هذه الآيات أن يبزر معناها في كل ما يقوي المسلمين على عدوهم من الإنس وهم المحاربون والذين يدافعون على الكفر ورهبتهم من المسلمين على عدوهم من الإنس وهم المحاربون والذين يدافعون على الكفر ورهبتهم من المسلمين هي النافعة للإسلام وأهله ورهبة الجن وفزعهم لا غناء له في ظهور الإسلام ، بل هو تابع لظهور الإسلام وهو أجنبي جداً والأولى أن يتأول المسلمين إذا ظهروا وعزوا هابهم من جاورهم من العدو المحارب لهم ، فإذا اتصلت حالهم تلك بمن بعد من الكفار داخلته الهيبة وإن لم يقصد المسلمون إرهابهم فأولئك هم الآخرون{[5448]} ، ويحسن أن يقدر قوله { لا تعلمونهم } بمعنى لا تعلمونهم فازعين راهبين ولا تظنون ذلك بهم ، والله تعالى يعلمهم بتلك الحالة ، ويحسن أيضاً أن تكون الإشارة إلى المنافقين على جهة الطعن عليهم والتنبيه على سوء حالهم وليستريب بنفسه كل من يعلم منها نفاقاً إذا سمع الآية ، ولفزعهم ورهبتهم غناء كثير في ظهور الإسلام وعلوه ، وقوله { من دونهم } بمنزلة قولك دون أن يكون هؤلاء ف «دون » في كلام العرب و «من دون » يقتضي عدم المذكور بعدها من النازلة التي هي فيها القول ، ومنه المثل : " وأمر دون عبيدة الوذم " {[5449]} تفضل تعالى بعدة المؤمنين على إنفاقهم في سبيل الله بأن النفقة لا بد أن توفى أي تجازى ويثاب عليها ، ولزوم هذا هو في الآخرة ، وقد يمكن أن يجازي الله تعالى بعض المؤمنين في الدنيا مجازاة مضافة إلى مجازاة الآخرة .
عطف جملة : { وأعدوا } على جملة : { فإما تثقفنهم في الحرب } [ الأنفال : 57 ] أو على جملة : { ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا } [ الأنفال : 59 ] ، فتفيد مفاد الاحتراس عن مُفادها ، لأنّ قوله : { ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا } يُفيد توهيناً لشأن المشركين ، فتعقيبه بالأمر بالاستعداد لهم : لئلا يحسب المسلمون أنّ المشركين قد صاروا في مكنتهم ، ويلزم من ذلك الاحتِراسسِ أنّ الاستعداد لهم هو سبب جعْل اللَّهِ إيّاهم لا يُعجزون اللَّهَ ورسوله ، لأنّ الله هيّأ أسباب استئصالهم ظاهرها وباطنها .
والإعداد التهيئة والإحضار ، ودخل في { ما استطعتم } كلّ ما يدخل تحت قدرة الناس اتّخاذه من العُدّة .
والخطاب لجماعة المسلمين ووُلاَة الأمر منهم ، لأنّ ما يراد من الجماعة إنّما يقوم بتنفيذه وُلاَة الأمور الذين هم وكلاء الأمّة على مصالحها .
والقوة كمال صلاحية الأعضاء لعملها وقد تقدّمت آنفاً عند قوله : { إن الله قوي شديد العقاب } [ الأنفال : 52 ] وعند قوله تعالى : { فخذها بقوة } وتطلق القوة مجازاً على شدّة تأثير شيء ذي أثر ، وتطلق أيضاً على سبب شدّة التأثير ، فقوة الجيش شدة وقعه على العدوّ ، وقوته أيضاً سلاحه وعتاده ، وهو المراد هنا ، فهو مجاز مرسل بواسطتين ، فاتّخاذ السيوف والرماح والأقواس والنبال من القوة في جيوش العصور الماضية ، واتّخاذ الدبابات والمدافع والطيارات والصواريخ من القوّة في جيوش عصرنا . وبهذا الاعتبار يُفسر ما روى مسلم والترمذي عن عقبة بن عامر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية على المنبر ثم قال « ألاَ إنّ القوة الرمي » قالها ثلاثاً ، أي أكمل أفراد القوة آلةُ الرمي ، أي في ذلك العصر . وليس المراد حصر القوة في آلة الرمي .
وعطف { رباط الخيل } على { القوة } من عطف الخاصّ على العام ، للاهتمام بذلك الخاصّ .
و { الرباط } صيغة مفاعلة أُتِيَ بها هنا للمبالغة لتدلّ على قصد الكثرة من ربط الخيل للغزو ، أي احتباسها وربطها انتظاراً للغزو عليها ، كقول النبي صلى الله عليه وسلم « من ارتبط فرساً في سبيل الله كان روثُها وبولها حسنات له » الحديث . يقال : ربط الفرس إذا شدّه في مكان حفظه ، وقد سَمَّوا المكان الذي ترتبط فيه الخيل رباطاً ، لأنّهم كانوا يحرسون الثغور المخوفة راكبين على أفراسهم ، كما وصف ذلك لبيد في قوله :
ولقد حمَيت الحَي تحملُ شِكَّتي *** فُرُطٌ وِشَاحِي إنْ ركبتُ زمامُها
حتّى إذا ألْقَتْ يداً في كافــر *** وأجَنَّ عوراتِ الثغور ظَلامها
أسْهلتُ وانتصبت كجِذْع مُنيفة *** جرداءَ يَحْصَر دونها جُرَّامها
ثم أُطلق الرباط على مَحرس الثغر البحري ، وبه سَمَّوا رِباط ( دمياط ) بمصر ، ورباط ( المُنستير ) بتونس ، ورباط ( سَلا ) بالمغرب الأقصى .
وقد تقدّم شيء من هذا عند قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا } في سورة [ آل عمران : 200 ] .
وجملة : ترهبون به عدو الله وعدوكم } إمّا مستأنفة استئنافاً بيانياً ، ناشئاً عن تخصيص الرباط بالذكر بعد ذكر ما يعمّه ، وهو القوة ، وإمّا في موضع الحال من ضمير { وأعدّوا } .
وعدو الله وعدوهم : هم المشركون فكان تعريفهم بالإضافة ، لأنّها أخصر طريق لِتعريفهم ، ولما تتضمنه من وجه قتالهم وإرهابهم ، ومن ذمّهم ، أن كانوا أعداء ربّهم ، ومن تحريض المسلمين على قتالهم إذ عُدُّوا أعداءً لهم ، فهم أعداء الله ؛ لأنّهم أعداء توحيده وهم أعداء رسوله صلى الله عليه وسلم لأنّهم صارحوه بالعداوة ، وهم أعداء المسلمين ، لأن المسلمين أولياء دين الله والقائمون به وأنصاره ، فعطف { وعَدوَّكم } على { عدوَّ الله } من عطف صفة موصوف واحد مثل قول الشاعر ، وهو من شواهد أهل العربية :
إلى الملك القرم وابن الهما *** م ولَيْثِ الكتيبة في المزدحم
والإرهاب جعل الغير راهباً ، أي خائفاً ، فإنّ العدوّ إذَا علم استعداد عدوّه لقتاله خافه ، ولم يجرأ عليه ، فكان ذلك هناء للمسلمين وأمناً من أن يغزوهم أعداؤهم ، فيكون الغزو بأيديهم : يَغزون الأعداء متى أرادوا ، وكانَ الحال أوفق لهم ، وأيضاً ذا رهبوهم تجنّبوا إعانة الأعداء عليهم .
والمراد ب { الآخرين من دونهم } أعداء لا يعرفهم المسلمون بالتعيين ولا بالإجمال ، وهم من كان يضمر للمسلمين عداوة وكيداً ، ويتربّص بهم الدوائر ، مثل بعض القبائل . فقوله : { لا تعلمونهم } أي لم تكونوا تعلمونهم قبل هذا الإعلام ، وقد علمتموهم الآن إجمالاً ، أو أريد : لا تعلمونهم بالتفصيل ، ولكنّكم تعلمُون وجودهم إجمالاً مثل المنافقين ، فالعلم بمعنى المعرفة ، ولهذا نصب مفعولاً واحداً .
وقوله : { من دونهم } مؤذن بأنّهم قبائل من العرب كانوا ينتظرون ما تنكشف عنه عاقبة المشركين من أهل مكة من حربهم مع المسلمين ، فقد كان ذلك دأب كثير من القبائل كما ورد في السيرة ، ولذلك ذكر { من دونهم } بمعنى : من جهات أخرى ، لأنّ أصل ( دون ) أنّها للمكان المخالف ، وهذا أولى من حمله على مطلق المغايرة التي هي من إطلاقات كلمة ( دون ) لأنّ ذلك المعنى قد أغنى عنه وصفهم ب { آخرين } .
وجملة { اللَّه يعلمهم } تعريض بالتهديد لهؤلاء الآخرَين ، فالخبر مستعمل في معناه الكنائي ، وهو تعقُّبهم والإغراءُ بهم ، وتعريض بالامتنان على المسلمين بأنّهم بمحل عناية الله فهو يُحصي أعداءهم وينبّههم إليهم .
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي : للتقوّي ، أي تحقيق الخبر وتأكيده ، والمقصود تأكيد لازم معناه ، أمّا أصل المعنى فلا يحتاج إلى التأكيد إذ لا ينكره أحد ، وأمّا حمل التقديم هنا على إرادة الاختصاص فلا يحسن للاستغناء عن طريق القصر بجملة النفي في قوله : { لا تعلمونهم } فلو قيل : ويعلّمهم الله لحصل معنى القصر من مجموع الجملتين .
وإذ قد كان إعداد القوَّةِ يستدعي إنفاقاً ، وكانت النفوس شحيحة بالمال ، تكفّل الله للمنفقين في سبيله بإخلاف ما أنفقوه والإثابة عليه ، فقال : { وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم } فسبيل الله هو الجهاد لإعلاء كلمته .
والتوفية : أداء الحقّ كاملاً ، جعل الله ذلك الإنفاق كالقرض لله ، وجعل على الإنفاق جزاء ، فسمّى جزاءَه توفية على طريقة الاستعارة المكنية ، وتدلّ التوفية على أنّه يشمل الأجرَ في الدنيا مع أجر الآخرة ، ونقل ذلك عن ابن عباس .
وتعدية التوفية إلى الإنفاق بطريق بناء للفعل للنائب ، وإنّما الذي يوفّى هو الجزاء على الإنفاق في سبيل الله ، للإشارة إلى أنّ الموفَّى هو الثواب . والتوفية تكون على قدر الإنفاق وأنّها مثله ، كما يقال : وفَّاه دينه ، وإنّما وفّاه مماثلاً لديْنه . وقريب منه قولهم : قَضى صلاة الظهر ، وإنّما قضى صلاة بمقدارها فالإسناد : إمّا مجاز عقلي ، أو هو مجاز بالحذف .
والظلم : هنا مستعمل في النقص من الحقّ ، لأنّ نقص الحقّ ظلم ، وتسمية النقص من الحقّ ظلماً حقيقة . وليس هو كالذي في قوله تعالى : { كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً } [ لكهف : 33 ] .