التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِأَهۡلِهِۦٓ إِنِّيٓ ءَانَسۡتُ نَارٗا سَـَٔاتِيكُم مِّنۡهَا بِخَبَرٍ أَوۡ ءَاتِيكُم بِشِهَابٖ قَبَسٖ لَّعَلَّكُمۡ تَصۡطَلُونَ} (7)

وبعد أن بين - سبحانه - أن هذا القرآن ، قد تلقاه الرسول صلى الله عليه وسلم من لدن حكيم عليم أتبع ذلك بجانب من قصة موسى - عليه السلام - لتكون بمثابة التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عن موقف كفار مكة منه - عليه الصلاة والسلام - فقال - تعالى - : { إِذْ قَالَ موسى لأَهْلِهِ . . . } .

هذا جانب من قصة موسى - عليه السلام - كما جاءت فى هذه السورة ، وقد جاءت فى سور أخرى بصورة أوسع ، كسور : البقرة ، والأعراف ، ويونس ، والشعراء ، والقصص . . .

وقد افتتحت هنا بقوله - تعالى : { إِذْ قَالَ موسى لأَهْلِهِ إني آنَسْتُ نَاراً } .

والظرف " إذ " متعلق بمحذوف تقديره : اذكر .

و " موسى " - عليه السلام - هو ابن عمران ، وينتهى نسبه إلى يعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم - عليه السلام - ، وكانت بعثته - على الراجح - فى القرن الحادى عشر أو الثانى عشر قبل الميلاد .

والمراد بأهله : زوجته ، وهى ابنة الشيخ الكبير الذى قال له - بعد أن سقى لابنتيه غنمهما- : { قَالَ إني أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي هَاتَيْنِ على أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ . . . } قال الإمام ابن كثير ما ملخصه : " وكان ذلك بعد أن قضى موسى الأجل الذى بينه وبين صهره ، فى رعاية الغنم ، وسار بأهله ، قيل : قاصداً بلاد مصر بعد ما طالت الغيبة عنها أكثر من عشر سنين ، ومعه زوجته فأضل الطريق ، وكانت ليلة شاتية ، ونزل منزلاً بين شعاب وجبال . . . فبينما هو كذلك إذ آنس من جانب الطور ناراً . . . " .

وقوله : { آنَسْتُ } من الإيناس ، بمعنى الإبصار الواضح الجلى يقال : آنس فلان الشىء إذا أبصره وعلمه وأحس به .

أى : واذكر - أيها الرسول الكريم - وذكر أتباعك ليعتبروا و يتعظوا ، وقت أن قال موسى لأهله ، وهو فى طريقه من جهة مدين إلى مصر .

إنى أبصرت - إبصاراً لا شبهة فيه - ناراً . فامكثوا فى مكانكم ، فإنى { سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ } أى : سآتيكم من جهتها بخبر ينفعنا فى رحلتنا هذه ، وتسترشد به فى الوصول إلى أهدى الطرق التى توصلنا إلى المكان الذى نريده .

و { أَوْ } فى قوله - سبحانه - : { آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } مانعة خلو .

قال القرطبى : ما ملخصه : " قرأ عاصم وحمزة والكسائى : { بِشِهَابٍ قَبَسٍ } بتنوين { شِهَابٍ } وقرأ الباقون بدون تنوين على الإضافة ، أى : بشعلة نار ، من إضافة النوع إلى جنسه كخاتم فضة . والشهاب : كل ذى نور ، نحو الكواكب ، والعود الموقد . والقبس : اسم لما يقتبس من جمر وما أشبهه ، فالمعنى بشهاب من قبس . . . ومن قرأ { بِشِهَابٍ قَبَسٍ } ، بالتنوين جعله بدلاً منه ، أو صفة له . على تأويله بمعنى المقبوس . . " .

وقوله : { تَصْطَلُونَ } أى : تستدفئون ، والاصطلاء : الدنو من النار لتدفئة البدن عند الشعور بالبرد . قال الشاعر :

النار فاكهة الشتاء فمن يرد . . . أكل الفواكه شاتيا فليصطل

والمعنى : قال موسى - عليه السلام - لأهله عندما شاهد النار : امكثوا فى مكانكم ، فإنى ذاهب إليها ، لكى آتيكم من جهتها بخبر فى رحلتنا فإن لم يكن ذلك ، فإنى آتيكم بشعلة مقتطعة منها ومقتبسة من أصلها ، لعلم تستدفئون بها فى تلك الليلة الشديدة البرودة .

قال صاحب الكشاف : " فإن قلت : - قوله - تعالى - : هنا { سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ } مع قوله - تعالى - فى سورة القصص { لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ } كالمتدافعين . لأن أحدهما ترج ، والآخر تيقن . قلت : قد يقول الراجى إذا قوى رجاؤه : سأفعل كذا ، وسيكون كذا ، مع تجويزه الخيبة .

فإن قلت : كيف جاء بسين التسويف - هنا - ؟ قلت : عدة لأهله أنه يأتيهم وإن أبطأ ، أو كانت المسافة بعيدة .

فإن قلت : فلم جاء بأو دون الواو ؟ قلت : بنى الرجاء على أنه إن لم يظفر بحاجتيه جميعاً لم يعدم واحدة منهما : إما هداية الطريق ، وإما اقتباس النار ، ثقة بعادة الله أنه لا يكاد يجمع بين حرمانين على عبده . . . " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِأَهۡلِهِۦٓ إِنِّيٓ ءَانَسۡتُ نَارٗا سَـَٔاتِيكُم مِّنۡهَا بِخَبَرٍ أَوۡ ءَاتِيكُم بِشِهَابٖ قَبَسٖ لَّعَلَّكُمۡ تَصۡطَلُونَ} (7)

تعرض هذه الحلقة السريعة من قصة موسى - عليه السلام - بعد قوله تعالى في هذه السورة : ( وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم ) . . وكأنما ليقول لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إنك لست بدعا في هذا التلقي . فها هو ذا موسى يتلقى التكليف ، وينادى ليحمل الرسالة إلى فرعون وقومه . وليس ما تلقاه من قومك بدعا في التكذيب . فها هم أولاء قوم موسى تستيقن نفوسهم بآيات الله ، ولكنهم يجحدون بها ظلما وعلوا . ( فانظر كيف كان عاقبة المفسدين )ولينتظر قومك عاقبة الجاحدين المكابرين !

( إذ قال موسى لأهله : إني آنست نارا . سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون ) .

وقد ذكر هذ الموقف في سورة طه . وهو في طريق عودته من أرض مدين إلى مصر ، ومعه زوجه بنت شعيب عليه السلام . وقد ضل طريقه في ليلة مظلمة باردة . يدل على هذا قوله لأهله : ( سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون ) . وكان ذلك إلى جانب الطور . وكانت النيران توقد في البرية فوق المرتفعات لهداية السالكين بالليل ؛ فإذا جاءوها وجدوا القرى والدفء ، أو وجدوا الدليل على الطريق .

( إني آنست نارا )فقد رآها على بعد ، فشعر لها بالطمأنينة والأنس . وتوقع أن يجد عندها خبر الطريق ، أو أن يقبس منها ما يستدفى ء به أهله في قر الليل في الصحراء .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِأَهۡلِهِۦٓ إِنِّيٓ ءَانَسۡتُ نَارٗا سَـَٔاتِيكُم مِّنۡهَا بِخَبَرٍ أَوۡ ءَاتِيكُم بِشِهَابٖ قَبَسٖ لَّعَلَّكُمۡ تَصۡطَلُونَ} (7)

ثم قص تعالى خبر موسى ، والتقدير اذكر { إذْ قال موسى } وكان من أمر موسى عليه السلام أنه حين خرج بزوجه بنت شعيب عليه السلام يريد مصر وقد قرب وقت نبوته مشوا{[8980]} في ليلة ظلماء ذات برد ومطر ففقدوا النار ومسهم البرد واشتدت عليهم الظلمة وضلوا الطريق وأصلد{[8981]} زناد موسى عليه السلام ، فبينما هو في هذه الحالة إذ رأى ناراً على بعد ، و { أنست } معناه رأيت ، ومنه قول حسان بن ثابت : [ المنسرح ]

انظر خليلي بباب جِلَّقَ هل تؤنس . . . دون البلقاء من أحد{[8982]}

فلما رأى موسى ذلك قال لأهله ما في الآية .

ومشى نحوها لما دنا منها رأى النار في شجرة سمر خضراء وهي لا تحرقها ، وكلما قرب هو منها بعدت هي منه ، وكان ذلك نوراً من نور الله عز وجل ولم يكن ناراً في نفسها لكن ظنه موسى ناراً فناداه الله عز وجل عند ذلك ، وسمع موسى عليه السلام النداء من جهة الشجرة وأسمعه الله كلامه والخبر الذي رجاه موسى عليه السلام هو الإعلام بالطريق ، وقوله { بشهاب قبس } شبه النار التي تؤخذ في طرف عود أو غيره ب «الشهاب » ثم خصصه بأنه مما اقتبس ، إذ الشهب قد تكون من غير اقتباس ، و «القبس » اسم لقطعة النار تقتبس في عود أو غيره كما القبض اسم ما يقبض ومنه قول أبي زيد : [ المنسرح ]

في كفة صعدة مثقفة . . . فيها سنان كشعلة القبسِ{[8983]}

ومنه قول الآخر : «من شاء من نار الجحيم اقتبسا »{[8984]} وأصل الشهاب الكوكب المنقض في أثر مسترق السمع ، وكل من يقال له شهاب من المنيرات فعلى التشبيه ، قال الزجاج : كل أبيض ذي نور فهو شهاب وكلامه معترض ، و «القبس » يحتمل أن يكون اسماً غير صفة ويحتمل أن يكون صفة ، فعلى كونه اسماً غير صفة أضاف إليه بمعنى بشهاب اقتبسته أو اقتبسه ، وعلى كونه صفة يكون ذلك كإضافة الدار إلى الآخرة{[8985]} والصلاة إلى الأولى وغير ذلك ، وقرأ الجمهور بإضافة «شهاب » إلى «قبس » وهي قراءة الحسن وأهل المدينة ومكة والشام ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «بشهابٍ قبس » بتنوين «شهاب » فهذا على الصفة .

ويجوز أن يكون «القبس » مصدر قبس يقبس كما الجلب مصدر جلب يجلب وقال أبو الحسن : الإضافة أجود وأكثر في القراءة كما تقول دار آجر وسوار ذهب حكاه أبو علي ، و { تصطلون } معناه تستدفئون من البرد .


[8980]:جاء الضمير في كلام ابن عطية للجمع، لأن الظاهر أن قول الله تعالى: [لأهله] يدل على الجمع لقوله سبحانه بعد ذلك: [سآتيكم] و [تصطلون] هذا وقد قيل: لم يكن معه غير زوجته، وهذا واضح من كلام ابن عطية حين بدأ يقص قصة موسى عليه السلام، وقيل: كانت امرأته قد ولدت له ولدا وهو عند شعيب عليه السلام فكان هذا الولد مع أمه، ويمكن أن يكون الكلام من باب التعظيم والإكرام باستعمال ضمير الجمع.
[8981]:يقال: أصلد الزند: صوت ولم يور.
[8982]:البيت في الديوان،و في اللسان، وقد وردت الرواية: (ببطن جلق)، ويروى : (انظر نهارا)، ويروى: (انظر حبيبي)، وهي رواية ابن دريد، وجاءت في تاريخ ابن عساكر: 4/133. وجلق بفتح اللام المشددة وبكسرها: دمشق، والبلقاء: من أعمال دمشق، والشاهد فيه هنا أن (تؤنس) بمعنى: ترى.
[8983]:البيت من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن، قال: "{بشهاب قبس} أي: بشعلة نار". والصعدة: القناة ، وقيل: القناة المستوية تنبت كذلك لا تحتاج إلى التثقيف، والمثقفة: التي أقيم وأصلح ما فيها من اعوجاج، والشاهد في البيت إضافة (الشعلة) إلى (القبس)، أي: شعلة مقتبسة من نار، فهي كقوله تعالى: {بشهاب قبس} في قراءة من قرأ بالإضافة.
[8984]:الجحيم: النار الشديدة التأجج، وكل نار توقد على نار فهي جحيم، والاقتباس: الأخذ من النار، واستقبسا: طلب الاقتباس من النار، والقابس: طالب النار، ويقال: قبست منه نارا أقبس قبسا فأقبسني، وكذلك اقتبست منه.
[8985]:في قوله تعالى في الآية 109 من سورة يوسف: {ولدار الآخرة خير للذين اتقوا}.