الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{إِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِأَهۡلِهِۦٓ إِنِّيٓ ءَانَسۡتُ نَارٗا سَـَٔاتِيكُم مِّنۡهَا بِخَبَرٍ أَوۡ ءَاتِيكُم بِشِهَابٖ قَبَسٖ لَّعَلَّكُمۡ تَصۡطَلُونَ} (7)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{إذ قال موسى لأهله} يعني: امرأته حين رأى النار {إني آنست نارا} يقول: إني رأيت نارا... {سئاتيكم منها بخبر} أين الطريق، وقد كان تحير وترك الطريق، ثم قال: فإن لم أجد من يخبرني الطريق، {أو آتيكم بشهاب قبس} يقول: آتيكم بنار قبسة مضيئة {لعلكم تصطلون} من البرد.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

"إذْ قال مُوسى" وإذ من صلة عليم. ومعنى الكلام: عليم حين قال موسى لأَهْلِهِ وهو في مسيره من مدين إلى مصر، وقد آذاهم بردُ ليلهم لما أصلد زَنْدُه: "إنّي آنَسْتُ نارا": أي أبصرت نارا أو أحسستها، فامكثوا مكانكم "سآتِيكُمْ مِنْها بِخَبرٍ" يعني من النار، والهاء والألف من ذكر النار "أوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ".

واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة: «بِشِهابِ قَبَسٍ» بإضافة الشهاب إلى القبس، وترك التنوين، بمعنى: أو آتيكم بشعلةِ نارٍ أقتبسها منها. وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة: بشِهابٍ قَبَسٍ بتنوين الشهاب وترك إضافته إلى القبس، يعني: أو آتيكم بشهاب مقتبس.

والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان في قَرَأة الأمصار، متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب...

وقوله: "لَعَلّكُمْ تَصْطَلُونَ" يقول: كي تصطلوا بها من البرد.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

ودل قوله تعالى: {لعلكم تصطلون} على أن الوقت وقت البرد وأيام الشتاء حين ذكر اصطلاء، وهو الاستدفاء، والله أعلم.

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

{إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} فيه وجهان: أحدهما: رأيت ناراً، قاله أبو عبيدة ومنه سمي الإنسان إنساً لأنهم مرئيون. الثاني: أحسست ناراً، قاله قتادة. والإيناس: الإحساس من جهة يؤنس بها.

{سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ} فيه وجهان:

أحدهما: سأخبركم عنها بعلم، قاله ابن شجرة.

الثاني: بخبر الطريق، لأنه قد كان ضل الطريق، قاله ابن عباس. {أَوْ آتِيكُم منها بِشهَابٍ قَبَسٍ} والشهاب الشعاع المضيء، ومنه قيل للكوكب الذي يمر ضوؤه في السماء شهاب،... والقبس هو القطعة من النار، ومنه اقتبست النارَ: إذا أخذت منها قطعة، واقتبست منه علماً إذا أخذت منه علماً، لأنك تستضيء به كما تستضيء بالنار.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{إِذ} منصوب بمضمر، وهو: اذكر، كأنه قال على أثر ذلك: خذ من آثار حكمته وعلمه قصة موسى... وروي أنه لم يكن مع موسى عليه السلام غير امرأته، وقد كنى الله عنها بالأهل، فتبع ذلك ورود الخطاب على لفظ الجمع، وهو قوله: {امكثوا} [طه: 10]. الشهاب: الشعلة. والقبس: النار المقبوسة، وأضاف الشهاب إلى القبس لأنه يكون قبساً وغير قبس... والخبر: ما يخبر به عن حال الطريق، لأنه كان قد ضله.

فإن قلت: سآتيكم منها بخبر، ولعلي آتيكم منها بخبر: كالمتدافعين: لأنّ أحدهما ترجّ والآخر تيقن. قلت: قد يقول الراجي إذا قوي رجاؤه: سأفعل كذا، وسيكون كذا مع تجويزه الخيبة.

فإن قلت: كيف جاء بسين التسويف؟ قلت: عدة لأهله أنه يأتيهم به وإن أبطأ، أو كانت المسافة بعيدة.

فإن قلت: فلم جاء بأو دون الواو؟ قلت بنى الرجاء على أنه إن لم يظفر بحاجتيه جميعاً لم يعدم واحدة منهما: إمّا هداية الطريق؛ وإما اقتباس النار، ثقة بعادة الله أنه لا يكاد يجمع بين حرمانين على عبده، وما أدراه حين قال ذلك أنه ظافر على النار بحاجتيه الكليتين جميعاً، وهما العزَّان: عز الدنيا، وعز الآخرة.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

أما قوله: {إني آنست نارا} فالمعنى أنهما كانا يسيران ليلا، وقد اشتبه الطريق عليهما والوقت وقت برد وفي مثل هذا الحال تقوى النفس بمشاهدة نار من بعد لما يرجى فيها من زوال الحيرة في أمر الطريق، ومن الانتفاع بالنار للاصطلاء فلذلك بشرها فقال: {إني آنست نارا}..

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

... ولما كان تعلق "إذ "باذكر من الوضوح في حد لا يخفى على أحد، قال دالاً على حكمته وعلمه: {إذ} طاوياً لمتعلقه لوضوح أمره فصار كأنه {قال}: اذكر حكمته وعلمه حين قال: {موسى لأهله} أي زوجه وهو راجع من مدين إلى مصر، قيل: ولم يكن معه غيرها: {إني آنست} أي أبصرت إبصاراً حصل لي الأنس، وأزال عني الوحشة والنوس {ناراً} فعلم بما في هذه القصة من الأفعال المحكمة المنبئة عن تمام العلم اتصافه بالوصفين علماً مشاهداً، وقدم ما الحكمة فيه أظهر لاقتضاء الحال التأمين من نقص ما يؤمر به من الأفعال.

ولما كان كأنه قيل: فماذا تصنع؟ قال آتياً بضمير المذكر المجموع للتعبير عن الزوجة المذكورة بلفظ "الأهل" الصالح للمذكر والجمع صيانة لها وستراً. جازماً بالوعد للتعبير بالخير الشامل للهدى وغيره، فكان تعلق الرجاء به أقوى من تعلقه بخصوص كونه هدى، ولأن مقصود السورة يرجع إلى العلم، فكان الأليق به الجزم، ولذا عبر بالشهاب الهادي لأولي الألباب: {سآتيكم} أي بوعد صادق وإن أبطأت {منها بخبر} أي ولعل بعضه يكون مما نهتدي به في هذا الظلام إلى الطريق، وكان قد ضلها {أو آتيكم بشهاب} أي شعلة من نار ساطعة {قبس} أي عود جاف مأخوذ من معظم النار فهو بحيث قد استحكمت فيه النار فلا ينطفئ... وعلل إتيانه بذلك إفهاماً لأنها ليلة باردة بقوله: {لعلكم تصطلون} أي لتكونوا في حال من يرجى أن يستدفئ بذلك، أي يجد به الدفء لوصوله معي فيه النار.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

تعرض هذه الحلقة السريعة من قصة موسى -عليه السلام- بعد قوله تعالى في هذه السورة: (وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم).. وكأنما ليقول لرسول الله [صلى الله عليه وسلم] إنك لست بدعا في هذا التلقي. فها هو ذا موسى يتلقى التكليف، وينادى ليحمل الرسالة إلى فرعون وقومه. وليس ما تلقاه من قومك بدعا في التكذيب. فها هم أولاء قوم موسى تستيقن نفوسهم بآيات الله، ولكنهم يجحدون بها ظلما وعلوا. (فانظر كيف كان عاقبة المفسدين) ولينتظر قومك عاقبة الجاحدين المكابرين!

(إذ قال موسى لأهله: إني آنست نارا. سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون).

وقد ذكر هذ الموقف في سورة طه. وهو في طريق عودته من أرض مدين إلى مصر، ومعه زوجه بنت شعيب عليه السلام. وقد ضل طريقه في ليلة مظلمة باردة. يدل على هذا قوله لأهله: (سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون). وكان ذلك إلى جانب الطور. وكانت النيران توقد في البرية فوق المرتفعات لهداية السالكين بالليل؛ فإذا جاءوها وجدوا القرى والدفء، أو وجدوا الدليل على الطريق.

(إني آنست نارا) فقد رآها على بعد، فشعر لها بالطمأنينة والأنس. وتوقع أن يجد عندها خبر الطريق، أو أن يقبس منها ما يستدفى ء به أهله في قر الليل في الصحراء.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

... الجملة استئناف ابتدائي، ومناسبة موقعها إفادة تنظير تلقي النبي صلى الله عليه وسلم القرآن بتلقّي موسى عليه السلام كلامَ الله إذ نودي {يا موسى إنّه أنا الله العزيز الحكيم} [النمل: 9].

وذلك من بديع التخلص إلى ذكر قصص هؤلاء الأنبياء عقب التنويه بالقرآن، وأنه من لدن حكيم عليم. والمعنى: أن الله يقصّ عليك من أنباء الرسل ما فيه مَثَل لك ولقومك وما يثبت به فؤادك.

وفي ذلك انتقال لنوع آخر من الإعجاز وهو الإخبار عن المغيبات...

وجملة: {قال موسى لأهله} إلى آخرها تمهيد لجملة {فلما جاءها نُودي أن بُورك مَن في النّار} [النمل: 8] إلخ. وزمانُ قول موسى لأهله هذه المقالة هو وقت اجتلابه للمبادرة بالوحي إليه. فهذه القصة مثَل ضربه الله لِحال رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومه، ابتدئت بما تقدم رسالة موسى من الأحوال إدماجاً للقصة في الموعظة.

والأهل: مراد به زوجه، ولم يكن معه إلا زوجه وابنان صغيران. والمخاطب بالقول زوجه، ويكنى عن الزوجة بالأهل. وفي الحديث: « والله ما علمتُ على أهلي إلا خَيراً»

ولم تظهر النار إلا لموسى دون غيره من أهله لأنها لم تكن ناراً معتادة، لكنها من أنوار عالم الملكوت جلاّه الله لموسى فلا يراه غيره. ويؤيد هذا تأكيده الخبر ب (إن) المشير إلى أن زوجهُ ترددت في ظهور نار لأنها لم ترها.

والإيناس: الإحساس والشعور بأمر خفي، فيكون في المرئيات وفي الأصوات...

والمراد بالخبر خبر المكان الذي تلوح منه النار. ولعله ظن أن هنالك بيتاً يرجو استضافتهم إياه وأهله تلك الليلة، وإن لم يكن أهل النار أهل بيت يستضيفون بأن كانوا رجالاً مقوين يأت منهم بجمرة نار ليوقد أهله ناراً من حطب الطريق للتدفُّئ بها.

والشهاب: الجمر المشتعل. والقبس: جمرة أو شعلة نار تُقبس، أي يُؤخذ اشتعالها من نار أخرى ليُشعل بها حطب أو ذُبالة نار أو غيرهما...

والاصطلاء: افتعال من الصلي وهو الشيُّ بالنار. ودلت صيغة الافتعال أنه محاولة الصلي فصار بمعنى التدفُّئ بوهج النار.