التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلٗا} (23)

ثم أضاف - سبحانه إلى هذا المديح لهم ، مديحا آخر فقال : { مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } والنحب : النذر ، وهو أن يلتزم الانسان الوفاء بأمر تعهد به .

وقضاؤه : الفراغ منه ، والوفاء به على أكمل وجه .

وكان رجال من الصحابة قد نذروا ، أنهم إصا صاحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حرب ، أن يثبتوا معه ، وأن لا يفروا عنه .

والمعنى : من المؤمنين رجال كثيرون ، وفوا أكمل وفاء بما عاهدوا الله - تعالى - عليه ، من التأييد لرسوله صلى الله عليه وسلم ومن الثبات معه فى كل موطن .

{ فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ } أى : فمنهم من وفى بوعده حتى أدركه أجله فمات شهيدا - كحمزة بن عبد المطلب ، ومصعب ابن عمير وغيرهما - رضى الله عنهم أجمعين - .

{ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ } أى : ومنهم من هو مستمر على الوفاء ، وينتظر الشهادة فى سبيل الله - تعالى - فى الوقت الذى يريده - سبحانه - ويختاره ، كبقية اليالصحابة ن نزلت هذه الآية وهم ما زالو على قيد الحياة .

قال الامام ابن كثير : قال الامام أحمد : حدثنا هاشم من القاسم ، حدثنا سليمان بن المغيرة ، عن ثابت قال أنس : غاب عمى أنس بن النضر - سُمِّيتُ به - لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، فشق عليه وقال : أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه ، لئن أرانى الله مشهدا فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليَريَّن الله ما أصنع . قال : فهاب أن يقول غيرها . فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد .

فاستقبل سعد بن معاذ ، فقال له أنس : يا ابا عمرو ، أين واهاً لريح الجنة أجده دون أحد .

قال : فقاتلهم حتى قتل : فوُجِدَ فى جسده بضْعُ وثمانون من ضربة وطعنة ورمية فقالت أخته - عمتى الرُّبَيِّع ابنة النضر - فما عرفت أخى إلا ببنانه .

قال : فنزلت هذه الآية : { مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ } فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفى أصحابه - رضى الله عنهم ، ورواه مسلم والترمذى والنسائى من حديث سليمان بن المغيرة .

وقوله - تعالى - : { وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } معطوف على { صَدَقُواْ } أى : هؤلاء الرجال صدقوا صدقا تاما فى عهودهم مع الله - تعالى - حتى آخر لحظة من لحظات حياتهم ، وما غيروا ولا بدلوا شيئا مما عاهدوا الله - تعالى - عليه .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلٗا} (23)

9

وهذا هو التوازن الذي صاغ ذلك النموذج الفريد في صدر الإسلام . النموذج الذي يذكر عنه القرآن الكريم مواقفه الماضية وحسن بلائه وجهاده ، وثباته على عهده مع الله ، فمنهم من لقيه ، ومنهم من ينتظر أن يلقاه :

( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه . فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر . وما بدلوا تبديلا ) . .

هذا في مقابل ذلك النموذج الكريه . نموذج الذين عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار . ثم ولم يوفوا بعهد الله : ( وكان عهد الله مسؤولا ) . .

روى الإمام أحمد - بإسناده - عن ثابت قال : " عمي أنس بن النضر - رضي الله عنه - سميت به - لم يشهد مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يوم بدر ، فشق عليه ، وقال : أول مشهد شهده رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] غبت عنه ! لئن أراني الله تعالى مشهدا فيما بعد مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ليرين الله عز وجل ما أصنع . قال : فهاب أن يقول غيرها . فشهد مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يوم أحد . فاستقبل سعد بن معاذ - رضي الله عنه - فقال له أنس - رضي الله عنه - يا أبا عمرو . أين واها لريح الجنة ! إني أجده دون أحد . قال : فقاتلهم حتى قتل - رضي الله عنه - قال : فوجد في جسده بضع وثمانون بين ضربة وطعنة ورمية . فقالت أخته - عمتي الربيع ابنة النضر - : فما عرفت أخي إلا ببنانه . قال : فنزلت هذه الآية : من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه . . . الخ قال : فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه رضي الله عنهم . [ ورواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث سليمان بن المغيرة ] .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلٗا} (23)

ثم أثنى الله على رجال من المؤمنين عاهدوا الله تعالى على الاستقامة التامة فوفوا وقضوا نحبهم ، أينذرهم وعهدهم ، و «النحب » في كلام العرب النذر ، والشيء الذي يلتزمه الإنسان ، ويعتقد الوفاء به ، ومنه قول الشاعر :

«قضى نحبه في ملتقى القوم هوبر{[9484]} »

المعنى أنه التزم الصبر إلى موت أو فتح فمات ومن ذلك قول جرير : [ الطويل ]

بطخفة جالدنا الملوك وخيلنا . . . عشية بسطام جرين على نحب{[9485]}

أي على أمرعظيم التزم القيام ، كأنه خطر عظيم وشبهه ، وقد يسمى الموت نحباً ، وبه فسر ابن عباس هذه الآية ، وقال الحسن { قضى نحبه } مات على عهد ، ويقال للذي جاهد في أمر حتى مات قضى في نحبه ، ويقال لمن مات قضى فلان نحبه ، وهذا تجوز كأن الموت أمر لا بد للإنسان أن يقع به فسمي نحباً ، لذلك فممن سمى المفسرون أنه أشير إليه بذلك أنس بن النضر عم أنس بن مالك ، وذلك أنه غاب عن بدر فساءه ذلك وقال : لئن شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهداً ليرين الله ما أصنع ، فلما كانت أحد أبلى بلاء حسناً حتى قتل ووجد فيه نيف على ثمانين جرحاً{[9486]} ، فقالت فرقة : إن هذه الإشارة هي إلى أنس بن النضر ونظرائه من استشهد في ذات الله تعالى ، وقال مقاتل والكلبي الرجال الذين { صدقوا ما عاهدوا الله عليه } هم أهل العقبة السبعون أهل البيعة ، وقالت فرقة : الموصوفون بقضاء النحب هم جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفوا بعهود الإسلام على التمام ، فالشهداء منهم ، والعشرة الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة منهم ، إلى من حصل في هذه المرتبة من لن ينص عليه ، ويصحح هذه المقالة ما روي

«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على المنبر فقال له أعرابي : يا رسول الله من الذي قضى نحبه ؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ساعة ، ثم دخل طلحة بن عبيد الله على باب المسجد وعليه ثوبان أخضران فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أين السائل ؟ فقال : ها أنا ذا يا رسول الله ، قال : هذا ممن قضى نحبه{[9487]} »

قال القاضي أبو محمد : فهذا أدل دليل على أن النحب ليس من شروطه الموت ، وقال معاوية بن أبي سفيان : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «طلحة ممن قضى نحبه »{[9488]} ، وروت هذا المعنى عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم{[9489]} ، وقوله تعالى : { ومنهم من ينتظر } يريد ومنهم من ينتظر الحصول في أعلى مراتب الإيمان والصلاح وهو بسبيل ذلك { وما بدلوا } وما غيروا ، ثم أكد بالمصدر ، وقرأ ابن عباس على منبر البصرة «ومنهم من بدل تبديلاً » ، رواه عنه أبو نصرة ، وروى عنه عمرو بن دينار «ومنهم من ينتظر وآخرون بدلوا تبديلاً »{[9490]} .


[9484]:هذا عجز بيت قاله ذو الرومة، والبيت بتمامه: عشية فر الحارثيون بعدما قضى نحبه في ملتقى القوم هوبر وهوبر: اسم رجل هو يزيد بن هوبر، وهو من بني الحارث بن كعب، والبيت في (اللسان-هبر)،قال:"الهوبر:الفهد- عن كراع-، وهوبر: اسم رجل، قال ذو الرمة: عشية فرّ...البيت"، وذكره أبو عبيدة في(مجاز القرآن) عند تفسير قوله تعالى:{فمنهم من قضى نحبه} أي: نذره الذي كان، كما قال، والشاهد في البيت هنا أن النحب هو الشيء الذي يلتزم به الإنسان حتى لو دفع حياته ثمنا له.
[9485]:البيت في(اللسان-نَحَبَ)، وفي(مجاز القرآن)لأبي عبيدة.وفي(التاج-نَحَب)، وطفخة:جبل أحمر طويل في ديار بني تميم، كانت به رقعة بين بني يربوع وقابوس بن النعمان، وكان ذلك حين بعث النعمان جيشا بقيادة ابنه قابوس وأخيه حسان، فهزمت بني يربوع الجيش بطخفة، وأسروا ابن الملك وأخاه، ثم منوا عليهما بعد ذلك، وهذا ما أراده جرير، وتضبط الطاء في(طخِفة) بالفتح والكسر كما جاء في معجم البكري. وهناك كثير من الشواهد على أن النحب هو النذر أو الشيء الذي يلتزم به الإنسان،(والموت نحب لأنه شيء مفروض على الإنسان ولا بد من الوفاء به)، ومنها قول الشاعر: يا عمرو بن الأكرمين نسبا قد نحب المجد علينا نحبا وقول لبيد في بيته المشهور: ألا لا تسألان المرء ماذا يحاول أنحب فيقضى أم ضلال وباطل؟ وقول حسان بن ثابت: مساميح أبطال يرجون للندى يرون عليهم فعل آبائهم نحبا
[9486]:أخرجه ابن سعد، وأحمد، ومسلم،والترمذي، والنسائي، والبغوي في معجمه، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الدلائل، عن أنس رضي الله عنه.(الدر المنثور)، وروى الحديث أيضا البخاري في المغازي ولم يذكر سبب النزول، ورواه في التفسير مقتصرا على سبب النزول. وقال الحافظ بن حجر:"في رواية ثابت، فقالت عمتي الربيع بنت النضر أخته: فما عرفت أخي إلا ببنانه، قال: وزاد النسائي من هذا الوجه: وكان حسن البنان".
[9487]:أخرجه ابن أبي عاصم، والترمذي وحسنه، وأبو يعلى، وابن جرير، والطبراني، وابن مردويه، عن طلحة رضي الله عنه، وفيه أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا لأعرابي جاهل: سله عمن قضى نحبه من هو؟وكانوا لا يجترئون على سؤاله يوقرونه ويهابونه، وفيه أيضا:"ثم انطلقت من باب المسجد".(الدر المنثور).
[9488]:أخرجه الترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن معاوية رضي الله عنه.(الدر المنثور).
[9489]:أخرجه الحاكم عن عائشة رضي الله عنها، قالت: دخل طلحة على النبي صلى الله عليه وسلم فقال:(يا طلحة أنت ممن قضى نحبه). (الدر المنثور).
[9490]:قال أبو بكر الأنباري:"وهذا الحديث عند أهل العلم مردود، لخلافه الإجماع، ولأن فيه طعنا على المؤمنين والرجال الذين مدحهم الله تعالى وشرفهم بالصدق والوفاء، فما يعرف فيهم مغير، وما وجد من جماعتهم مبدل رضي الله عنهم".