التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٞ} (23)

ثم بين - سبحانه - حال السعداء والأشقياء يوم القيامة فقال : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ . إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ . وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ . تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } .

وقوله : { ناضرة } اسم فاعل من النَّضْرة - بفتح النون المشددة وسكون الضاد - وهى الجمال والحسن . تقول : وجه نضير ، إذا كان حسنا جميلا .

وقوله : { باسرة } من البسور وهو شدة الكلوح والعبوس ، ومنه قوله - تعالى - { ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ } يقال : بسَر فلان يبسُر بسُورا ، إذا قبض ما بين عينيه كراهية للشئ الذى يراه .

والفاقرة : الداهية العظمية التى لشدتها كأنها تقصم فقار الظهر . يقال : فلان فقرته الفاقرة ، أى : نزلت به مصيبة شديدة أقعدته عن الحركة ، وأصل الفَقْر : الوسم على أنف البعير بحديدة أو نار حتى يخلُصَ إلى العظم أو ما يقرب منه .

والمراد بقوله : { يومئذ } : يوم القيامة الذى تكرر ذكره فى السورة أكثر من مرة .

والجملة المقدرة المضاف إليها " إذ " والمعوض عنها بالتنووين تقديرها يوم إذ برق البصر .

والمعنى : يوم القيامة ، الذى يبرق فيه البصر ، ويخسف القمر . . تصير وجوه حسنة مشرقة ، ألا وهى وجوه المؤمنين الصادقين . . وهذه الوجوه تنظر إلى ربها فى هذا اليوم نظرة سرور وحبور ، بحيث تراه - سبحانه - على ما يليق بذاته ، وكما يريد أن تكون رؤيته - عز وجل - بلا كيفية ، ولا جهة ، ولا ثبوت مسافة .

وهناك وجوه أخرى تصير فى هذا اليوم كالحة شديدة العبوس ، وهى وجوه الكافرين والفاسقين عن أمر ربهم ، وهذه الوجوه { تَظُنُّ } أى : تعتقد أو تتوقع ، أن يفعل بها فعلا يهلكها ، ويقصم ظهورها لشدته وقسوته .

وجاء لفظ " وجوه " فى الموضعين منكرا ، للتنويع والتقسيم ، كما فى قوله - تعالى - { فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير } وكما فى قول الشاعر :

فيوم علينا ويوم لنا . . . ويوم نُسَاءُ ويوم نُسَر

وقد أخذ العلماء من قوله - تعالى - : { إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } أن الله - تعالى - يتكرم على عباده المؤمنين فى هذا اليوم ، فيربهم ذاته بالكيفية التى يريدها - سبحانه - .

ومنهم من فسر { نَّاضِرَةٌ } بمعنى منتظرة ، أى : منتظرة ومتوقعة ما يحكم الله - تعالى - به عليها .

قال الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات : وقد ثبتت رؤية المؤمنين لله - عز وجل - فى الدار الآخرة ، فى الأحاديث الصحاح ، من طرق متواترة عند أئمة الحديث ، لا يمكن دفعها ولا منعها . لحديث أبى سعيد وأبى هريرة - وهما فى الصحيحين - " أن ناسا قالوا : يا رسول الله ، هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال : " هل تضارون فى رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب " قالوا : لا ، قال : " فإنكم ترون ربكم كذلك " " .

وفى الصحيحين عن جرير بن عبد الله قال : " نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القمر ليلة البدر فقال : " إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر " " .

ثم قال ابن كثير - رحمه الله - : وهذا - بحمد الله - مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة . كما هو متفق عليه بين أئمة الإِسلام ، وهداة الأنام .

ومن تأول { إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } فقال : تنتظر الثواب من ربها . . فقد أبعد هذا القائل النجعة ، وأبطل فيما ذهب إليه . وأين هو من قوله - تعالى - { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } قال الشافعى : ما حجَب الفجار إلا وقد علم أن الأبرار يرونه - عز وجل - .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٞ} (23)

ثم نخلص إلى الموقف الذي يرسمه هذا النص القرآني الفريد :

( وجوه يومئذ ناضرة . إلى ربها ناظرة ) . .

إن هذا النص ليشير إشارة سريعة إلى حالة تعجز الكلمات عن تصويرها ؛ كما يعجز الإدراك عن تصورها بكل حقيقتها . ذلك حين يعد الموعودين السعداء بحالة من السعادة لا تشبهها حالة . حتى لتتضاءل إلى جوارها الجنة بكل ما فيها من ألوان النعيم !

هذه الوجوه الناضرة . . نضرها أنها إلى ربها ناظرة . .

إلى ربها . . ? ! فأي مستوى من الرفعة هذا ? أي مستوى من السعادة ?

إن روح الإنسان لتستمتع أحيانا بلمحة من جمال الإبداع الإلهي في الكون أو النفس ، تراها في الليلة القمراء . أو الليل الساجي . أو الفجر الوليد . أو الظل المديد . أو البحر العباب . أو الصحراء المنسابة . أو الروض البهيج . أو الطلعة البهية . أو القلب النبيل . أو الإيمان الواثق . أو الصبر الجميل . . إلى آخر مطالع الجمال في هذا الوجود . . فتغمرها النشوة ، وتفيض بالسعادة ، وترف بأجنحة من نور في عوالم مجنحة طليقة . وتتوارى عنها أشواك الحياة ، وما فيها من ألم وقبح ، وثقلة طين وعرامة لحم ودم ، وصراع شهوات وأهواء . .

فكيف ? كيف بها وهي تنظر - لا إلى جمال صنع الله - ولكن إلى جمال ذات الله ?

ألا إنه مقام يحتاج أولا إلى مد من الله . ويحتاج ثانيا إلى تثبيت من الله . ليملك الإنسان نفسه ، فيثبت ، ويستمتع بالسعادة ، التي لا يحيط بها وصف ، ولا يتصور حقيقتها إدراك !

( وجوه يومئذ ناضرة . . إلى ربها ناظرة ) . .

ومالها لا تتنضر وهي إلى جمال ربها تنظر ?

إن الإنسان لينظر إلى شيء من صنع الله في الأرض . من طلعة بهية ، أو زهرة ندية ، أو جناح رفاف ، أو روح نبيل ، أو فعل جميل . فإذا السعادة تفيض من قلبه على ملامحه ، فيبدو فيها الوضاءة والنضارة . فكيف بها حين تنظر إلى جمال الكمال . مطلقا من كل ما في الوجود من شواغل عن السعادة بالجمال ? فما تبلغ الكينونة الإنسانية ذلك المقام ، إلا وقد خلصت من كل شائبة تصدها عن بلوغ ذلك المرتقى الذي يعز على الخيال ! كل شائبة لا فيما حولها فقط ، ولكن فيها هي ذاتها من دواعي النقص والحاجة إلى شيء ما سوى النظر إلى الله . .

فأما كيف تنظر ? وبأي جارحة تنظر ? وبأي وسيلة تنظر ? . . فذلك حديث لا يخطر على قلب يمسه طائف من الفرح الذي يطلقه النص القرآني ، في القلب المؤمن ، والسعادة التي يفيضها على الروح ، والتشوف والتطلع والانطلاق !

فما بال أناس يحرمون أرواحهم أن تعانق هذا النور الفائض بالفرح والسعادة ? ويشغلونها بالجدل حول مطلق ، لا تدركه العقول المقيدة بمألوفات العقل ومقرراته ? !

إن ارتقاء الكينونة الإنسانية وانطلاقها من قيود هذه الكينونة الأرضية المحدودة ، هو فقط محط الرجاء في التقائها بالحقيقة الطليقة يومذاك . وقبل هذا الانطلاق سيعز عليها أن تتصور - مجرد تصور - كيف يكون ذلك اللقاء .

وإذن فقد كان جدلا ضائعا ذلك الجدل الطويل المديد الذي شغل به المعتزلة أنفسهم ومعارضيهم من أهل السنة والمتكلمين حول حقيقة النظر والرؤية في مثل ذلك المقام .

لقد كانوا يقيسون بمقاييس الأرض ؛ ويتحدثون عن الإنسان المثقل بمقررات العقل في الأرض ؛ ويتصورون الأمر بالمدارك المحدودة المجال .

إن مدلول الكلمات ذاته مقيد بما تدركه عقولنا وتصوراتنا المحدودة . فإذا انطلقت وتحررت من هذه التصورات فقد تتغير طبيعة الكلمات . فالكلمات ليست سوى رموز يختلف ما ترمز إليه بحسب التصورات الكامنة في مدارك الإنسان . فإذا تغيرت طاقته تغير معها رصيده من التصورات ، وتغيرت معها طبيعة مدلول الكلمات ونحن نتعامل في هذه الأرض بتلك الرموز على قدر حالنا ! فما لنا نخوض في أمر لا يثبت لنا منه حتى مدلول الكلمات ? !

فلنتطلع إلى فيض السعادة الغامر الهادئ ، وفيض الفرح المقدس الطهور ، الذي ينطلق من مجرد تصورنا لحقيقة الموقف على قدر ما نملك . ولنشغل أرواحنا بالتطلع إلى هذا الفيض ؛ فهذا التطلع ذاته نعمة . لا تفوقها إلا نعمة النظر إلى وجهه الكريم . .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٞ} (23)

وقوله تعالى : { إلى ربها ناظرة } جملة هي في موضع خبر بعد خبر ، وقال بعض النحويين : { ناضرة } نعت ل { وجوه } ، و { إلى ربها ناظرة } خبر عن { وجوه } ، فعلى هذا كثر تخصص الوجوه فحسن الابتداء بها . و { ناضرة } معناه ناعمة ، والنضرة النعمة وجمال البشرة ، قال الحسن : وحق لها أن تنضر وهي تنظر إلى الخالق ، وقوله تعالى : { إلى ربها ناظرة } حمل هذه الآية أهل السنة على أنها متضمنة رؤية المؤمنين لله تعالى ، وهي رؤية دون محاذاة ولا تكييف ولا تحديد كما هو معلوم ، موجود لا يشبه الموجودات كذلك هو لا يشبه المرئيات في شيء ، فإنه ليس كمثله شيء لا إله إلا هو ، وروى عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «حدثتكم عن الدجال أنه أعور وأن ربكم ليس بأعور وأنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا »{[11479]} ، وقال صلى الله عليه وسلم : «إنكم ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته »{[11480]} ، وقال الحسن : تنظرون إلى الله تعالى بلا إحاطة ، وأما المعتزلة الذين ينفون رؤية الله تعالى ، فذهبوا في هذه الآية إلى أن المعنى إلى رحمة ربها ناظرة أو إلى ثوابه أو ملكه ، فقدروا مضافاً محذوفاً ، وهذا وجه سائغ في العربية كما تقول ، فلا ناظر إليك في كذا ، أي إلى صنعك في كذا ، والرواية إنما تثبتها بأدلة قاطعة غير هذه الآية ، فإذا ثبتت حسن تأويل أهل السنة في هذه الآية وقوي ، وذهب بعض المعتزلة في هذه الآية إلى أن قوله { إلى } ليست بحرف الجر وإنما هي إلى واحد الآلاء فكأنه قال نعمة ربها منتظرة ، أو { ناظرة } من النظر بالعين ، ويقال نظرتك بمعنى انتظرتك ، ومنه قول الحطيئة : [ البسيط ]

وقد نظرتكم أبناء عائشة*** للخمس طال بها حبسي وتبساسي{[11481]}

والتبساس أن يقال للناقة بس بس لتدر على الحالب ، وفسر أبو عبيدة في غريبه هذا البيت على رواية أخرى وهي : طال بها حوزي وتنساسي بالنون وهو السير الشديد فتأمله .


[11479]:أخرجه البخاري في التوحيد وفي حجة الوداع، ومسلم وابن ماجه في الفتن، وأبو داود في الملاحم، وأحمد في مسنده (2/33، 37 و 5/38)، ولفظه كما في البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما: قال: كنا نتحدث بحجة الوداع والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا ولا ندري ما حجة الوداع، فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر المسيح الدجال فأطنب في ذكره، وقال: ما بعث الله من نبي إلا أنذر أمته، أنذره نوح والنبيون من بعده، وإنه يخرج فيكم، فما خفي عليكم من شأنه فليس يخفى عليكم أن ربكم ليس على ما يخفى عليكم –ثلاثا- إن ربكم ليس بأعور، وإنه أعور عين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية، ألا إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم ...الحديث)، وهو طويل.
[11480]:روى جرير بن عبد الله قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوسا، فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: (إنكم سترون ربكم عيانا. كما ترون هذا القمر، لا تضامون رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا)، ثم قرأ: {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب). متفق عليه، وخرجه أيضا أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة أن ناسا قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: هل تضارون في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب؟ قالوا: لا، قال: إنكم ترون ربكم كذلك، وقد أخرج هذا الحديث أيضا الدارقطني عن أبي هريرة، وأخرجه أحمد، وعبد بن حميد، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي عن أبي سعيد الخدري.
[11481]:اختلفت رواية هذا البيت في كثير من المصادر ، فيروى: "أبناء" بدلا من "إيناء"، و "غاشية" بدلا من "صادرة" ويروى "للورد" بدلا من "للخمس"، ويروى "تنساسي" بالنون بدلا من "تبساسي" بالباء، ويروى "طار" بدلا من طال"، وقد استشهد به صاحب اللسان في كثير من الأماكن، وكذلك أكثر المفسرون من الاستشهاد به، و "نظرتكم" هنا معناها: انتظرتكم، وهذا هو موضع الاستشهاد هنا، والإيناء: الانتظار ، والصادرة، الإبل الراجعة عن الماء، يقول: انتظرتكم كما تنتظر الإبل الصادرة عن الماء التي ترد الخمس ثم تسقى لتصدر، وكان من عادة العرب أن الإبل ترد الماء فتشرب يوم وردها وتصدر في ذلك اليوم أي تبتعد عن الماء، وتظل بعد ذلك في المرعى ثلاثة أيام بعد يوم الصدر، وترد اليوم الرابع وهو في الحقيقة الخامس، فهذا هو الخمس الذي تنتظره الإبل، والحوز: السوق الهاديء، والتنساس: السوق الشديد. وقد قيل: إن الحوز هو السير الشديد، وأن الرواية التبساس ومعناه أن يقول الحالب للإبل: بس بس لتدر اللبن، وبعد هذا البيت يقول الحطيئة: لما بدا لي منكم عيب أنفسكم ولم يكن لجراحي عندكم آسي أزمعت أمرا مريحا من نوالكم ولن ترى طاردا للمرء كالياس هذا وقد قيل: إن تأويل "نظر" بمعنى "انتظر" مدخول ، لأن العرب إذا أرادت بالنظر الانتظار قالوا: نظرته، ولا يقولون: نظرت إليه، ومنه قوله تعالى: (هل ينظرون إلا الساعة)، و (هل ينظرون إلا تأويله)، (ما ينظرون إلا صيحة واحدة)، فالمعنى فيها: ينتظرون، أما إذا أراد العرب النظر بالعين جاءوا بـ "إلى" وقد ذكرت "إلى" هنا، وذكر معها الوجوه فقيل: (وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناضرة)،قال ابن أبي ربيعة: نظرت إليها بالمحصب من منى ولي نظر لولا التحرج عارم وقال امرؤ القيس: نظرت إليها والنجوم كأنها مصابيح رهبان تشب لقفال فإذا أراد بالنظر الفكر والتأمل قرنوه بحرف الجر "في" فقالوا: نظر في الأمر، بمعنى فكر فيه وتأمل.