ثم ختم - سبحانه - هذه النعم بقوله { وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ . . }
أى : وأعطاكم - فضلا عما تقدم من النعم - بعضا من جميع ما سألتموه إياه من نعم ، على حسب ما تقتضيه إرادته وحكمته التى لا تعلمونها كما قال - تعالى - { وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض ولكن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ } قال الجمل ما ملخصه " قوله { وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } أى : كل نوع أو كل صنف سألتموه أى : شأنكم أن تسألوه لاحتياجكم إليه ، وإن لم تسألوه بالفعل .
وفى " من " قولان : أحدهما أنها زائدة فى المفعول الثانى ، أى : آتاكم كل ما سألتموه .
والثانى أن تكون تبعيضية أى : وآتاكم بعض جميع ما سألتموه وعلى هذا فالمفعول محذوف تقديره : وآتاكم شيئسا من كل ما سألتموه ، وهو رأى سيبويه . . "
وجملة { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا } مؤكدة لمضمون ما قبلها .
أى : وإن تحاولوا عد نعم الله عليكم ، وتحاولوا تحديد هذا العدد ، لن تستطيعوا ذلك لكثرة هذه النعم ، وخفاء بعضه عليكم .
والإِحصاء : ضبط العدد وتحديده ، مأخوذ من الحصا وهو صغار الحجارة لأن العرب كانوا يعدون الأعداد الكثيرة بالحصى تجنبا للخطأ .
قال ابن كثير : " يخبر - سبحانه - عن عجز العباد من تعداد نعمه فضلا عن القيام بشكرها ، كما قال طلق بن حبيب - رحمه الله - : إن حق الله أثقل من أن يقوم به العباد وإن نعم الله أكثر من يحصيها العباد ولكن أصبحوا توابين وأمسوا توابين " .
وفى صحيح البخاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : " لك الحمد غير مكفى - أى لم يكفه غيره بل هو - سبحانه - يكفى غيره - ولا مودع - أى متروك حمده - ، ولا مستغنى عنه ربنا - أى هو الذى يحتاج إليه الخلق . . " .
والمراد بالإِنسان فى قوله { إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } نوع معين منه وهو الكافر كما فى قوله - تعالى - { وَيَقُولُ الإنسان أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً } أى : إن الإِنسان الكافر لشديد الظلم لنفسه بعبادته لغير الله - تعالى - ، ولشديد الجحود والكفران لنعمه - عز وجل .
قال الشوكانى : قوله - سبحانه : { إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ } أى لنفسه بإغفاله لشكر نعم الله عليه ، وظاهره شمول كل إنسان ، وقال الزجاج : إن الإِنسان هنا اسم جنس يقصد به الكافر خاصة ، كما فى قوله - تعالى - { والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ } " كفار " أى : شديد كفران نعم الله عليه ، جاحد لها ، غير شاكر لله عليها كما ينبغى ويجب عليه .
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد ابتدأت ببيان سوء عاقبة الذين بدلوا نعمة الله كفرا ، وثنت بأمر النبى - صلى الله عليه وسلم - بأن يحض المؤمنين الصادقين على الاستزادة من إقامة الصلاة ومن الانفاق فى سبيل الله .
ثم ساقت عشر نعم تدل دلالة واضحة على وحدانية الله - تعالى - وعلمه وقدرته ، وهذه النعم هى خلق السموات والأرض ، وإنزال المطر من السماء ، وإخراج الثمرات به ، وتسخير الفلك فى البحار ، وتسخير الأنهار ، وتسخير الليل والنهار .
ثم ختمت ببيان أنه - سبحانه - قد أعطى الناس - فضلا عن كل ذلك - جميع ما يحتاجون إليه فى مصالحهم على حسب حكمته ومشيئته ولكن الناس - إلا من عصم الله - لا يقابلون نعمه - سبحانه - بما تستحقه من شكر ، لشدة ظلمهم وكثرة جحودهم .
وليست هذه سوى الخطوط العريضة في صفحة الآلاء المديدة . ففي كل خط من النقط ما لا يحصى . ومن ثم يضم إليها على وجه الإجمال المناسب للوحة المعروضة وللجو الشامل :
( وآتاكم من كل ما سألتموه ) . . من مال وذرية وصحة وزينة ومتاع . . . ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) . .
فهي أكبر وأكثر من أن يحصيها فريق من البشر ، أو كل البشر . وكلهم محدودون بين حدين من الزمان : بدء ونهاية . وبين حدود من العلم تابعة لحدود الزمان والمكان . ونعم الله مطلقة - فوق كثرتها - فلا يحيط بها إدراك إنسان . .
وبعد ذلك كله تجعلون لله أندادا ، وبعد ذلك كله لا تشكرون نعمة الله بل تبدلونها كفرا . . ( إن الإنسان لظلوم كفار ) ! ! !
{ وآتاكم من كل ما سألتموه } أي بعض جميع ما سألتموه يعني من كل شيء سألتموه شيئا ، فإن الموجود من كل صنف بعض ما في قدرة الله تعالى ، ولعل المراد ب { ما سألتموه } ما كان حقيقيا بأن يسأل لاحتياج الناس إليه سئل أو لم يسأل ، وما يحتمل أن تكون موصولة وموصوفة ومصدرية ويكون المصدر بمعنى المفعول . وقرئ { من كل } بالتنوين أي وآتاكم من كل شيء ما احتجتم إليه وسألتموه بلسان الحال ، ويجوز أن تكون " ما " نافية في موقع الحال أي وآتاكم من كل شيء غير سائليه . { وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها } لا تحصروها ولا تطيقوا عد أنواعها فضلا عن إفرادها ، فإنها غير متناهية . وفيه دليل على أن المفرد يفيد الاستغراق بالإضافة . { إن الإنسان لظلوم } يظلم النعمة بإغفال شكرها ، أو بظلم نفسه بأن يعرضها للحرمان . { كفّار } شديد الكفران . وقيل ظلوم في الشدة يشكو ويجزع كفار في النعمة يجمع ويمنع .
وقوله : { وآتاكم } للجنس من البشر ، أي إن الإنسان بجملته قد أوتي من كل ما شأنه أن يسأل وينتفع به ، ولا يطرد هذا في واحد من الناس وإنما تفرقت هذه النعم في البشر ، فيقال -بحسب هذا - للجميع أُوتيتم كذا - على جهة التعديد للنعمة - وقيل المعنى : { وآتاكم من كل ما سألتموه } أن لو سألتموه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قريب من الأول .
و { ما } في قوله : { ما سألتموه } يصح أن تكون مصدرية ، ويكون الضمير في قوله : { سألتموه } عائداً على الله تعالى : ويصح أن يكون { ما } بمعنى الذي ، ويكون الضمير عائداً على الذي .
وقرأ الضحاك بن مزاحم{[7085]} «من كلٍّ ما سألتموه » بتنوين { كل } وهي قراءة الحسن وقتادة وسلام ، ورويت عن نافع ، المعنى : وآتاكم من كل هذه المخلوقات المذكورات قبل . ما من شأنه أن يسأل لمعنى الانتفاع به . ف { ما } في قوله : { ما سألتموه } مفعول ثان ب { آتاكم } وقال بعض الناس : { ما } نافية على هذه القراءة أي أعطاكم من كل شيء لم يعرض له .
قال القاضي أبو محمد : وهذا تفسير الضحاك . وأما القراءة الأولى بإضافة { كل } إلى { ما } - فلا بد من تقدير المفعول الثاني جزءاً أو شيئاً ونحو هذا .
وقوله : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } أي لكثرتها وعظمها في الحواس والقوى والإيجاد بعد العدم والهداية للإيمان وغير ذلك . وقال طلق بن حبيب : إن حق الله تعالى أثقل من أن يقوم به العباد ، ونعمه أكثر من أن يحصيها العباد . ولكن أصبحوا توابين وأمسوا توابين وقال أبو الدرداء : من لم ير نعمة الله عليه إلا في مطعمه ومشربه فقد قل علمه وحضر عذابه .
وقوله : { إن الإنسان } يريد به النوع والجنس المعنى : توجد فيه هذه الخلال وهي الظلم والكفر ، فإن كانت هذه الخلال من جاحد فهي بصفة وإن كانت من عاص فهي بصفة أخرى .
معنى { وآتاكم من كل ما سألتموه } أعطاكم بعضاً من جميع مرغوباتكم الخارجة عن اكتسابكم بحيث شأنكم فيها أن تسألوا الله إياها ، وذلك مثل توالد الأنعام ، وإخراج الثمار والحب ، ودفع العوادي عن جميع ذلك : كدفع الأمراض عن الأنعام ، ودفع الجوائح عن الثمار والحب .
فجملة { وآتاكم من كل ما سألتموه } تعميم بعد خصوص ، فهي بمنزلة التذييل لما قبلها لحِكم يعلمها الله ولا يعلمونها { ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير } [ سورة الشورى : 27 ] ، وأن الإنعام والامتنان يكون بمقدار البذل لا بمقدار الحرمان . وبهذا يتبين تفسير الآية .
وجملة { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } تأكيد للتذييل وزيادة في التعميم ، تنبيهاً على أن ما آتاهم الله كثير منه معلوم وكثير منه لا يحيطون بعلمه أو لا يتذكرونه عند إرادة تعداد النعم .
فمعنى { إن تعدوا } إن تحاولوا العد وتأخذوا فيه . وذلك مثل النعم المعتاد بها التي ينسى الناس أنها من النعم ، كنعمة التنفس ، ونعمة الحواس ، ونعمة هضم الطعام والشراب ، ونعمة الدورة الدموية ، ونعمة الصحة . وللفخر هنا تقرير نفيس فانظره .
والإحصاء : ضبط العدد ، وهو مشتق من الحَصَا اسماً للعدد ، وهو منقول من الحصى ، وهو صغار الحجارة لأنهم كانوا يعدون الأعداد الكثيرة بالحصى تجنباً للغلط .
وجملة { إن الإنسان لظلوم كفار } تأكيد لمعنى الاستفهام الإنكاري المستعمل في تحقيق تبديل النعمة كُفراً ، فلذلك فصلت عنها .
والمراد ب { الإنسان } صنف منه ، وهو المتصف بمضمون الجملة المؤكدة وتأكيدها ، فالإنسان هو المشرك ، مثل الذي في قوله تعالى : { ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا } [ سورة مريم : 66 ] ، وهو استعمال كثير في القرآن .
وصيغتا المبالغة في { ظلوم كفار } اقتضاهما كثرة النعم المفاد من قوله : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } ، إذ بمقدار كثرة النعم يكثر كفر الكافرين بها إذ أعرضوا عن عبادة المنعم وعبدوا ما لا يغني عنهم شيئاً ، فأما المؤمنون فلا يجحدون نعم الله ولا يعبدون غيره .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وآتاكم}، يقول: وأعطاكم {من كل ما سألتموه}، يعني ما لم تسألوه ولا طلبتموه، ولكن أعطيتكم من رحمتي، يعني ما ذكر مما سخر للناس في هؤلاء الآيات، فهذا كله من النعم، ثم قال سبحانه: {وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم} لنفسه في خطيئته، {كفار}، يعني كافر في نعمته التي ذكر، فلم يعبده...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكْره: وأعطاكم مع إنعامه عليكم بما أنعم به عليكم من تسخير هذه الأشياء التي سخرها لكم والرزق الذي رزقكم من نبات الأرض وغروسها من كلّ شيء سألتموه ورغبتم إليه شيئا... وقد قيل: إن ذلك إنما قيل على التكثير، نحو قول القائل: فلان يعلم كلّ شيء، وأتاه كل الناس، وهو يعني بعضهم، وكذلك قوله:"فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أبْوَابَ كُلّ شَيْءٍ". وقيل أيضا: إنه ليس شيء إلاّ وقد سأله بعض الناس، فقيل: "وآتاكُمْ مِنْ كُلّ ما سألْتُمُوهُ "أي قد آتى بعضكم منه شيئا، وآتى آخر شيئا مما قد سأله. وهذا قول بعض نحويّي أهل البصرة.
وكان بعض نحويّي أهل الكوفة يقول: معناه: وأتاكم من كلّ ما سألتموه لو سألتموه، كأنه قيل: وآتاكم من كلّ سؤلكم وقال: ألا ترى أنك تقول للرجل لم يسألك شيئا: والله لأعطينك سُؤْلك ما بلغت مسألتك وإن لم يسأل؟
فأما أهل التأويل، فإنهم اختلفوا في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم: معناه: وآتاكم من كلّ ما رغبتم إليه فيه...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وآتاكم من كل الذي سألتموه والذي لم تسألوه...
وقرأ ذلك آخرون: «وآتاكُمْ مِن كُل ما سألْتُمُوهُ» بتنوين «كلّ» وترك إضافتها إلى «ما» بمعنى: وآتاكم من كلّ شيء لم تسألوه ولم تطلبوه منه. وذلك أن العباد لم يسألوه الشمس والقمر والليل والنهار، وخلق ذلك لهم من غير أن يسألوه...
والصواب من القول في ذلك عندنا، القراءة التي عليها قرّاء الأمصار، وذلك إضافة «كل» إلى «ما» بمعنى: وآتاكم من سؤلكم شيئا، على ما قد بيّنا قبل، لإجماع الحجة من القرّاء عليها ورفضهم القراءة الأخرى.
"وَإنْ تَعُدّوا نِعْمَةَ اللّهِ لا تُحْصُوها إنّ الإنْسانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ".
يقول تعالى ذكره: وإن تعدّوا أيها الناس نعمة الله التي أنعمها عليكم لا تطيقوا إحصاء عددها والقيام بشكرها إلاّ بعون الله لكم عليها.
"إنّ الإنْسانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ "يقول: إن الإنسان الذي بدّل نعمة الله كفرا "لظَلُومٌ": يقول: لشاكر غير من أنعم عليه، فهو بذلك من فعله واضع الشكر في غير موضعه وذلك أن الله هو الذي أنعم عليه بما أنعم واستحقّ عليه إخلاص العبادة له، فعبد غيره وجعل له أندادا ليضلّ عن سبيله، وذلك هو ظلمه. وقوله: "كَفّارٌ" يقول: هو جحود نعمة الله التي أنعم بها عليه لصرفه العبادة إلى غير من أنعم عليه، وتركه طاعة من أنعم عليه...
عن طلق بن حبيب، قال: إن حقّ الله أثقل من أن تقوم به العباد، وإن نعم الله أكثر من أن تحصيهَا العباد ولكن أصبِحوا تَوّابين وأمسُوا توّابين.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} لا تحيطوا بكنهها ونهايتها.
{إن الإنسان لظلوم كفار} {لظلوم} أي ظلم نفسه حين صرفها إلى غير الجهة التي جعلت، وأمر بالصرف إليها وأدخلها في المهالك، وألقاها في التهلكة...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
... {إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ}... قيل ظلمه لنفسه بمعصيته كفار لربه في نعمته، وقيل ظلوم في الشدة يشكو ويجزع، كفار في النعمة يجمع ويمنع...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
... قوله جلّ ذكره: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَأ إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}. كيف يكون شكركم كفاء نِعَمِه..؟ وشكرُكُم نَزْرٌ يسير، وإنعامُه وافر غزير. وكيف تكون قطرة الشكر بجوار بحار الإنعام؟ إنَّ نِعَمَه عُلُومُكُم عن تفصيلها متقاصرةٌ، وفُهُومُكُم عن تحصيلها متأخِّرةٌ. وإذا كان ما يدفع عن العبد من وجوه المحن وفنون البلايا من مقدوراته لا نهاية له... فكيف يأتي الحصر والإحصار على ما لا يتناهى؟ وكما أن النَّفْعَ من نِعِمَه فالدفعُ أيضاً من نعمه. ويقال إن التوفيق للشكر من جملة ما ينعم به الحقُّ على العبد فإذا أراد أن يشكره لم يمكنه إلا بتوفيقٍ آخر فلا يبقى من النعم إلا ما يشكر عليه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وءاتاكم مِّن كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ} من للتبعيض، أي آتاكم بعض جميع ما سألتموه، نظراً في مصالحكم...
والإنسان للجنس، فيتناول الإخبار بالظلم والكفران من يوجدان منه...
إنه تعالى لما ذكر تلك النعمة العظيمة بين بعد ذلك أنه لم يقتصر عليها، بل أعطى عباده من المنافع والمرادات ما لا يأتي على بعضها التعديد والإحصاء... [و] الإنسان مجبول على النسيان وعلى الملل، فإذا وجد نعمة نسيها في الحال وظلمها بترك شكرها، وإن لم ينسها فإنه في الحال يملها فيقع في كفران النعمة، وأيضا أن نعم الله كثيرة فمتى حاول التأمل في بعضها غفل عن الباقي... قال [تعالى] في هذا الموضع: {إن الإنسان لظلوم كفار} وقال في سورة النحل: {إن الله لغفور رحيم} ولما تأملت فيه لاحت لي فيه دقيقة كأنه يقول: إذا حصلت النعم الكثيرة فأنت الذي أخذتها وأنا الذي أعطيتها، فحصل لك عند أخذها وصفان: وهما كونك ظلوما كفارا، ولي وصفان عند إعطائها وهما كوني غفورا رحيما، والمقصود كأنه يقول: إن كنت ظلوما فأنا غفور، وإن كنت كفارا فأنا رحيم أعلم عجزك وقصورك فلا أقابل تقصيرك إلا بالتوفير ولا أجازي جفاء إلا بالوفاء...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
لما ذكر تعالى تلك النعم العظيمة، ذكر أنه لم يقتصر عليها فقال: وآتاكم من كل ما سألتموه، والخطاب للجنس من البشر أي: أن الإنسان قد أوتي من كل ما شأن أنْ يسأل وينتفع به، ولا يطرد هذا في كل واحد واحد من الناس، وإنما تفرقت هذه النعم في البشر فيقال: بحسب هذا الجميع أوتيتم كذا على جهة التقرير للنعمة...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يقول: هيأ لكم كل ما تحتاجون إليه في جميع أحوالكم مما تسألونه بحالكم وقالكم...
وفي صحيح البخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:"اللهم، لك الحمد غير مَكْفِيّ ولا مودَع، ولا مستغنى عنه ربَّنا"...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان الكمال لا يكون إلا في الجنة قال: {من كل ما سألتموه} أي ما أنتم محتاجون إليه فأنتم سائلوه بالقوة؛ ثم حقق وجه العظم بفرض ما يوجب العجز فقال: {وإن تعدوا} أيها الناس كلكم {نعمت الله} أي تروموا عد إنعام الملك الأعلى الذي له الكمال المطلق أو تأخذوا في عدّه، وعبر عنه بالنعمة إرشاداً إلى الاستدلال بالأثر على المؤثر {لا تحصوها} أي لا تحيطوا بها ولا تعرفوا عد الحصى المقابلة لها إن عددتموها بها كما كانت عادة العرب، أو لا تجدوا من الحصى ما يوفي بعددها، هذا في النعمة الواحدة فكيف بما زاد! فهذا شرح قوله أول السورة {الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض} وقد ظهر به أنه لا يوجد شيء إلا وهو ملك الله فضلاً عن أن يوجد شيء يداينه فضلاً عن شيء يماثله، فثبت أنه لا بيع ولا خلال يوم دينونة العباد، وتقريب العجز عن العد للإفهام أن السلامة من كل داء ذكره الأطباء في كتبهم -على كثرتها وطولها- نعمة على العبد، وذلك متعسر الحصر، وكل ما ذكروه صريحاً في جنب ما دخل تحت كلياتهم تلويحاً -قليل، فكيف بما لم يطلعهم الله عليه ولم يهدهم بوجه إليه، هذا في الجسم، وأما في العقل فالسلامة من كل عقد زائغ، ودين باطل وضلال مائل، وذلك لا يحصيه إلا خالق الفكر وفاطر الفطر سبحانه، ما أعزه وأعظم شأنه!. ولما كان أكثر هذه السورة في بيان الكفرة ومآلهم، وبيان أن أكثر الخلق هالك معرض عما يأتيه من نعمة الهداية على أيدي الرسل الدعاة إلى من له جميع النعم للحياة الطيبة بسعادة الدارين، ختم الآية ببيان ما اقتضى ذلك من صفات الإنسان فقال: {إن الإنسان} أي هذا النوع لما له من الأنس بنفسه، والنسيان لما ينفعه ويضره، والاضطراب بسبب ما يغمه ويسره {لظلوم كفار} أي بليغ الظلم والكفر حيث يهمل الشكر، ويتعداه إلى الكفر...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله} التي أنعم بها عليكم {لاَ تُحْصُوهَا} لا تُطيقوا بحصرها ولو إجمالاً فإنها غيرُ متناهيةٍ، وأصل الإحصاءِ أن الحاسبَ إذا بلغ عَقداً معيناً من عقود الأعدادِ وضع حصاةً ليحفظ بها، إيذانٌ بعدم بلوغِ مرتبةٍ معتدَ بها من مراتبها فضلاً عن بلوغ غايتِها، كيف لا وما من فرد من أفراد الناسِ وإن كان في أقصى مراتبِ الفقرِ والإفلاس مَمنوًّا بأصناف العنايا مبتلىً بأنواع الرزايا فهو بحيث لو تأملتَه ألفيتَه متقلّباً في نِعمَ لا تحدّ ومننٍ لا تحصى ولا تعدّ كأنه قد أعطيَ كلَّ ساعة وآنٍ من النعماء ما حواه حِيطةُ الإمكان، وإن كنت في ريب من ذلك فقدِّرْ أنه ملَك مِلكٌ أقطارَ العالم، ودانت له كافةُ الأمم، وأذعنت لطاعته السَّراةُ، وخضعت لهيبته رُقابُ العُتاة، وفاز بكل مرام، ونال كل منالٍ، وحاز جميع ما في الدنيا من أصناف الأموالِ من غير نِدّ يزاحمه، ولا شريك يساهمُه، بل قدِّرْ أن جميع ما فيها من حجر ومدَرٍ يواقيتُ غاليةٌ ونفائسُ دُررٍ، ثم قدِّر أنه قد وقع مِنْ فقْد مشروبٍ أو مطعوم في حالة بلغت نفسُه الحلقومَ، فهل يشتري وهو في تلك الحال بجميع مالِه من الملك والمال لُقمةً تنجّيه عن رِواه، أو شربةً ترويه من ظَماه، أم يختار الهلاك فتذهبَ الأموالُ والأملاك بغير بذل يبقى عليه ولا نفعٍ يعود إليه؟ كلا، بل يبذُل لذلك كلَّ ما تحويه اليدان كائناً ما كان وليس في صفقته شائبةُ الخُسران، فإذن تلك اللقمةُ والشَّرْبةُ خيرٌ مما في الدنيا بألف رتبةٍ مع أنهما في طرف الثمام ينالهما متى شاء من الليالي والأيام، أو قدّر أنه قد احتبس عليه النفَسُ فلا دخلَ منه ما خرَج ولا خرَج منه ما ولَج، والحينُ قد حان وأتاه الموتُ من كل مكان أما يعطي ذلك كلَّه بمقابلة نفس واحد بل يعطيه وهو لرأيه حامدٌ، فإذن هو خير من أموال الدنيا بجملتها ومطالبها برُمّتها مع أنه قد أبيح له كل آنٍ من آنات الليالي والأيام حالَ اليقظة والمنام هذا من الظهور والجلاء بحيث لا يكاد يخفى على أحد من العقلاء، وإن رمت العثورَ على حقيقة الحقِّ والوقوفَ على كل ما جل من السرِّ ودق فاعلم أن الإنسانَ بمقتضى حقيقتِه الممكنةِ بمعزل عن استحقاق الوجودِ وما يتبعه من الكمالات اللائقةِ والملكاتِ الرائقةِ بحيث لو انقطع ما بينه وبين العنايةِ الإلهية من العلاقة لما استقر له القَرار ولا اطمأنت به الدار إلا في مطمورة العدم والبوار، ومهاوي الهلاك والدمار لكن يَفيض عليه من الجناب الأقدس تعالى شأنه وتقدّس في كل زمان يمضي وكل آن يمرّ وينقضي من أنواع الفيوضِ المتعلقة بذاته ووجودِه وسائرِ صفاتِه الروحانيةِ والنفسانية والجُسمانية ما لا يحيط به نطاقُ التعبير ولا يعلمه إلا العليم الخبير...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
والمراد بلا تحصوها لا تطيقوا حصرها ولو إجمالاً فإنها غير متناهية، وأصل الإحصاء العد بالحصى فإن العرب كانوا يعتمدونه في العد كاعتمادنا فيه على الأصابع ولذا قال الأعشى: ولست بالأكثر منهم حصى... وإنما العزة للكاثر ثم استعمل لمطلق العد...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وليست هذه سوى الخطوط العريضة في صفحة الآلاء المديدة. ففي كل خط من النقط ما لا يحصى. ومن ثم يضم إليها على وجه الإجمال المناسب للوحة المعروضة وللجو الشامل:
(وآتاكم من كل ما سألتموه).. من مال وذرية وصحة وزينة ومتاع... (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها)..
فهي أكبر وأكثر من أن يحصيها فريق من البشر، أو كل البشر. وكلهم محدودون بين حدين من الزمان: بدء ونهاية. وبين حدود من العلم تابعة لحدود الزمان والمكان. ونعم الله مطلقة -فوق كثرتها- فلا يحيط بها إدراك إنسان..
وبعد ذلك كله تجعلون لله أندادا، وبعد ذلك كله لا تشكرون نعمة الله بل تبدلونها كفرا.. (إن الإنسان لظلوم كفار)!!!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
معنى {وآتاكم من كل ما سألتموه} أعطاكم بعضاً من جميع مرغوباتكم الخارجة عن اكتسابكم بحيث شأنكم فيها أن تسألوا الله إياها، وذلك مثل توالد الأنعام، وإخراج الثمار والحب، ودفع العوادي عن جميع ذلك: كدفع الأمراض عن الأنعام، ودفع الجوائح عن الثمار والحب. فجملة {وآتاكم من كل ما سألتموه} تعميم بعد خصوص، فهي بمنزلة التذييل لما قبلها لحِكم يعلمها الله ولا يعلمونها {ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير} [سورة الشورى: 27]، وأن الإنعام والامتنان يكون بمقدار البذل لا بمقدار الحرمان. وبهذا يتبين تفسير الآية. وجملة {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} تأكيد للتذييل وزيادة في التعميم، تنبيهاً على أن ما آتاهم الله كثير منه معلوم وكثير منه لا يحيطون بعلمه أو لا يتذكرونه عند إرادة تعداد النعم. فمعنى {إن تعدوا} إن تحاولوا العد وتأخذوا فيه. وذلك مثل النعم المعتاد بها التي ينسى الناس أنها من النعم، كنعمة التنفس، ونعمة الحواس، ونعمة هضم الطعام والشراب، ونعمة الدورة الدموية، ونعمة الصحة. وللفخر هنا تقرير نفيس فانظره. والإحصاء: ضبط العدد، وهو مشتق من الحَصَا اسماً للعدد، وهو منقول من الحصى، وهو صغار الحجارة لأنهم كانوا يعدون الأعداد الكثيرة بالحصى تجنباً للغلط...
وصيغتا المبالغة في {ظلوم كفار} اقتضاهما كثرة النعم المفاد من قوله: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها}، إذ بمقدار كثرة النعم يكثر كفر الكافرين بها إذ أعرضوا عن عبادة المنعم وعبدوا ما لا يغني عنهم شيئاً، فأما المؤمنون فلا يجحدون نعم الله ولا يعبدون غيره...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
إن هذه وما سبقها من نعم هي نعم الإنشاء والإبقاء، فقد أنعم بالإنشاء وأنعم سبحانه وتعالى بالإبقاء مستمكنا من كل شيء حتى يكون اليوم الآخر يوم الجزاء لمن شكر بالنعيم المقيم، ولمن كفر بالعذاب الأليم...
وقد قال تعالى: {إن الإنسان لظلوم كفار} ظلوم صيغة مبالغة من الظلم، أي أنه ظالم أبلغ الظلم بظلم نفسه بالكفر وغمط حق غيره، والاعتداء على الناس وعلى الحقائق، والاعتداء بعبادة الأوثان، و {كفار} صيغة مبالغة في الكفر، وهو كفر النعمة وعدم شكرها، بل اتخاذها سبيلا لعتوه واستكباره وفساده في الأرض، وقد أكد الله تعالى ظلم الإنسان ب "إن"، وب "اللام "وبصيغة المبالغة في الظلم، وكفر النعمة، والله محيط بالكافرين...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ثم عقب كتاب الله على ذلك كله بما يكون عليه حال الإنسان، الفاقد للإيمان، من ظلم في حق الله، بالشرك به، وظلم في حق نفسه، بالكفر بالله، وظلم للخلق، بتعدي حدود الله، فقال تعالى: {إن الإنسان لظلوم كفار}...
{وآتاكم من كل ما سألتموه}، ذلك أن وراء كل عطاء حكمة، ووراء كل منع حكمة أيضا، فالمنع من الله عين العطاء، فالحق سبحانه مُنزّه عن أن يكون مُوظّفا عندك، كما أن الحق سبحانه قال: {ويَدْع الإنسان بالشر دعاءه بالخير} ولذلك قال: {وآتاكم من كل ما سألتموه} أي: بعض مما سألتموه، ذلك أن هناك أسئلة حمقاء لا يجيبكم الله عليها... فالعطاء نعمة، والمنع نعمة أيضا، ولو نظر كل منا لعطاء السّلب، لوجد فيه نعما كثيرة...
{وإن تعدّوا نعمة الله لا تُحصوها} تجد ثلاثة عناصر، هي المُنعم، والنعمة التي حكم الحق سبحانه أنك لن تحصيها، وأن خَلقه لم يضعوا أنوفهم في أن يعدّوا تلك النعمة، فهي لا تحصى لأنها ليست مظنّة الإحصاء، ولا يقبل عاقل أن يحصيها. والعنصر الثالث هو المُنعَم عليه، وهو الإنسان الذي قد يعجز عن إحصاء نعم رئيسه من البشر عليه –فما بالك بنعم الله التي لا تحصى، وكمالاته التي لا تُحدّ، وعطائه الذي لا ينفد؟ ولله المثل الأعلى، فهو المنزّه عن المثل...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا}، وكيف يستطيع الإنسان إحصاء مواقع نعم الله في حياته، في مفرداتها الصغيرة والكبيرة التي تتجلى آثارها في كل لحظة، بالمستوى الذي يجعل كل شيء من حوله مظهراً من مظاهر نعم الله عليه، لعلاقته بالحياة التي يحياها، في المبدأ وفي التفاصيل. ولكن إحساس الإنسان اللازم بالشكر لهذه النعم العظيمة التي لا تحصى، والتزامه بالطاعة والخضوع لله، وتحريكه لتلك النعم في ما يرضاه له من وجوه الخير كتعبير عن ذاك الشكر، لا يتمثل في سلوكه وفي حركة حياته، {إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} فهو يظلم نفسه بالكفر والمعصية، ولا يؤدي إلى ربه حقه من الشكر لنعمه، بل يعيش الكفران والجحود في أكثر مظاهر وجوده، عندما يستعمل نعم الله عليه في معصية الله...