ثم بين - سبحانه - لونا من ألوان غبائهم وبلادتهم فقال : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } .
الاشتراء : أخذ السلعة بالثمن . والمراد : أنهم استبدلوا ما كره الله من الضلالة بما أحبه من الهدى قال ابن عباس : أخذوا الضلالة وتركوا الهدى .
والمشار إليه ب " أولئك " هم المنافقون : الموصوفون في الآيات السابقة بالكذب والمخادعة ، والإِفساد في الأرض ، ورمى المؤمنين بالسفاهة واستهزائهم بهم .
والسر في الإِشارة والتعبير عنهم بأولئك تمييزهم وتوضيحهم بأكمل صورة وأجلى بيان إذ من المعروف عند علماء البلاغة أن اسم الإِشارة إذا أشير به إلى أشخاص وصفوا بصفات يلاحظ فيه تلك الصفات ، فهو بمنزلة إعادة ذكرها وإحضارها في أذهان المخاطبي . فتكون تلك الصفات ، وهي هنا الكذب والمخادعة وما عطف عليها ، كأنها ذكرت في هذه الآية مرة أخرى ليعرف بها علة الحكم الوادر بعد اسم الإِشارة ، وهو هنا اشتراء الضلالة بالهدى . أي : اختيارها . واستبدالها به .
وعبرت الآية بالاشتراء على سبيل الاستعارة ليتحدد مقدار رغبتهم في الضلالة ، وزهدهم في الهدى ، فإن المشتري في العادة يكون شديد الرغبة فيما يشتري ، رغبة تجعله شديد الزهد فيما يبذله من ثمن . فهم راغبون في الضلالة ، زاهدون في الهدى .
وقوله تعالى : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } لا يقتضي أنهم كانوا على هدى من ربهم فتركوه ، بل يكفي فيه أن يجعل تمكنهم من الهدى لقيام أدلته . بمنزلة الهدى الحاصل بالفعل .
ثم بين سبحانه نتيجة أخذه الضلالة وتركهم الهدى فقال : { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ } أي : أنهم لم يحصلوا من اشترائهم الضلالة بالهدى على الربح ، وإذا كانت التجارة الحقيقة قد يفوت صاحبها الربح ، ولكنه لا يقع في خسارة بأن يبقى له رأس ماله محفوظاً ، فإن التجارة المقصودة من الآية هي استبدال الضلالة بالهدى ، لا يقابل الربح فيها إلا الخسران ، فإذا نفى عنها الربح فذلك يعني أنها تجارة خاسرة .
ثم قال - تعالى - : { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } أي : وما كانوا مهتدين إلى سبيل الرشاد وما تتجه إليه العقول الراجحة من الدين الحق ، وما كانوا مهتدين إلى طرق التجارة الرابحة ، فهم أولا لم يربحوا في تجارتهم بل خسروها ، وهم ثانياً ذهب نور الهدى من حولهم فبقوا في ظلمة الضلال . وما أوجع أن يجتمع على التاجر خسارته وتورطه ، وما أوجع أن يجتمع عليه أن ينقطع عن غايته ، وأن يكون في ظلمة تعوقه عن التبصر .
{ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } اختاروها عليه واستبدلوها به ، وأصله بذل الثمن لتحصيل ما يطلب من الأعيان ، فإن كان أحد العوضين ناضا تعين من حيث إنه لا يطلب لعينه أن يكون ثمنا وبذله اشتراء ، وإلا فأي العوضين تصورته بصورة الثمن فباذله مشتر وآخذه بائع ، ولذلك عدت الكلمتان من الأضداد ، ثم استعير للإعراض عما في يده محصلا به غيره ، سواء كان من المعاني أو الأعيان ، ومنه قول الشاعر :
أخذت بالجملة رأسا أزعرا *** وبالثنايا الواضحات الدردرا
وبالطويل العمر عمرا جيذرا *** كما اشترى المسلم إذ تنصرا
ثم اتسع فيه فاستعمل للرغبة عن الشيء طمعا في غيره ، والمعنى أنهم أخلوا بالهدى الذي جعله الله لهم بالفطرة التي فطر الناس عليها محصلين الضلالة التي ذهبوا إليها . أو اختاروا الضلالة واستحبوها على الهدى .
{ فما ربحت تجارتهم } ترشيح للمجاز ، لما استعمل الاشتراء في معاملتهم أتبعه ما يشاكله تمثيلا لخسارتهم ، ونحوه :
ولما رأيت النسر عز بن دأية *** وعشش في وكريه جاش له صدري والتجارة : طلب الربح بالبيع والشراء ، والربح : الفضل على رأس المال ، ولذلك سمي شفا ، وإسناده إلى التجارة وهو لأربابها على الاتساع لتلبسها بالفاعل ، أو لمشابهتها إياه من حيث إنها سبب الربح والخسران .
{ وما كانوا مهتدين } لطرق التجارة ، فإن المقصود منها سلامة رأس المال والربح ، وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين لأن رأس مالهم كان الفطرة السليمة ، والعقل الصرف ، فلما اعتقدوا هذه الضلالات بطل استعدادهم ، واختل عقلهم ، ولم يبق لهم رأس مال يتوسلون به إلى درك الحق ، ونيل الكمال ، فبقوا خاسرين أيسين من الربح فاقدين للأصل .
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ( 16 )
وقوله : { أولئك } إشارة إلى المتقدم ذكرهم( {[268]} ) ، وهو رفع بالابتداء و { الذين } خبره ، و { اشتروا } صلة ل { الذين } ، وأصله اشتريوا تحركت الياء وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفاً فحذفت لالتقاء الساكنين ، وقيل استثقلت الضمة على الياء فسكنت وحذفت للالتقاء وحركت الواو بعد ذلك للالتقاء بالساكن بعدها ، وخصت بالضم لوجوه منها أن الضمة أخت الواو وأخف الحركات عليها ، ومنها أنه لما كانت واو جماعة ضمت كما فعل بالنون في «نحنُ » .
ومنها أنها ضمت إتباعاً لحركة الياء المحذوفة قبلها .
قال أبو علي : «صار الضم فيها أولى ليفصل بينها وبين واو » أو «و » لو «إذ هذان يحركان بالكسر »( {[269]} ) .
وقرأ أبو السمال قعنب العدوي( {[270]} ) بفتح الواو في : «اشتروَا الضلالة » .
وقرأها يحيى بن يعمر بكسر الواو . والضلالة والضلال : التلف نقيض الهدى الذي هو الرشاد إلى المقصد .
واختلفت عبارة المفسرين عن معنى قوله : { اشتروا الضلالة بالهدى } فقال قوم : «أخذوا الضلالة وتركوا الهدى »( {[271]} ) .
وقال آخرون : استحبوا الضلالة وتجنبوا الهدى( {[272]} ) كما قال تعالى : { فاستحبوا العمى على الهدى } [ فصلت : 17 ] .
وقال آخرون : الشراء هنا استعارة وتشبيه ، لما تركوا الهدى وهو معرض( {[273]} ) لهم ووقعوا بدله في الضلالة واختاروها شبهوا بمن اشترى فكأنهم دفعوا في الضلالة هداهم إذ كان لهم أخذه . ( {[274]} )
وبهذا المعنى تعلق مالك رحمه الله في منع أن يشتري الرجل على أن يتخير في كل ما تختلف آحاد جنسه ولا يجوز فيه التفاضل . ( {[275]} )
وقال قوم : الآية فيمن كان آمن من المنافقين ثم ارتد في باطنه وعقده ويقرب الشراء من الحقيقة على هذا . ( {[276]} )
وقوله تعالى : { فما ربحت تجارتهم } ختم للمثل بما يشبه مبدأه في لفظة الشراء( {[277]} ) ، وأسند الربح إلى التجارة كما قالوا : «ليل قائم ونهار صائم » . والمعنى فما ربحوا في تجارتهم .
وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة «فما ربحت تجاراتهم » بالجمع .
وقوله تعالى : { وما كانوا مهتدين } قيل المعنى في شرائهم هذا ، وقيل على الإطلاق ، وقيل في سابق علم الله ، وكل هذا يحتمله اللفظ .