التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِيكُمۡ نَارٗا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ عَلَيۡهَا مَلَـٰٓئِكَةٌ غِلَاظٞ شِدَادٞ لَّا يَعۡصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمۡ وَيَفۡعَلُونَ مَا يُؤۡمَرُونَ} (6)

ثم وجه - سبحانه - بعد ذلك نداءين إلى المؤمنين ، أمرهم فى أولهما أن يؤدوا واجبهم نحو أنفسهم ونحو أهليهم ، حتى ينجو من عذاب النار ، وأمرهم فى ثانيهما بالمداومة على التوبة الصادقة النصوح ، ووجه نداء إلى الكافرين بين لهم فيه سوء عاقبة كفرهم ، ثم وجه - سبحانه - نداء إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - أمره فيه بأن يجاهد الكفار والمنافقين جهاداً مصحوبا بالغلظة والخشونة . . . فقال - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ . . . } .

قوله - تعالى - : { قوا } أمر من الوقاية ، يقال : وقى يَقِى ، كضرب يضرب .

والمعنى : يا من آمنتم بالله - تعالى - حق الإيمان ، أبعدوا أنفسكم عن النار عن طريق فعل الحسنات . واجتناب السيئات ، وأبعدوا أهليكم - أيضا - عنها ، عن طريق نصحهم وإرشادهم وأمرهم بالمعروف . ونهيهم عن المنكر .

قال القرطبى ، قال قتادة ومجاهد : قوا أنفسكم بأفعالكم ، وقوا أهليكم بوصيتكم .

ففى الحديث الصحيح أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال : " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالإمام الذى على الناس راع وهو مسئول عنهم ، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم " .

وقال - صلى الله عليه وسلم - : " ما نحل والد ولدا ، أفضل من أدب حسن " .

وقال - صلى الله عليه وسلم - : " مروا أبناءكم بالصلاة لسبع ، واضربوهم عليها لعشر ، وفرقوا بينهم فى المضاجع " .

وقد روى مسلم فى صحيحه " أن النبى - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أوتر يقول : قومى فأوترى يا عائشة " .

وذكر القشيرى " أن عمر - رضى الله عنه - لما نزلت هذه الآية قال يا رسول الله : نقى أنفسنا فكيف بأهلينا ؟

فقال : " تنهونهم عما نهاكم الله عنه ، وتأمرونهم بما أمركم الله به " " .

وجاء لفظ النار منكراً ، للتهويل . أى : نارا عظيمة لا يعلم مقدار حرها إلا الله - تعالى - .

وقوله : { وَقُودُهَا الناس والحجارة } أى : هذه النار لا توقد كما يوقد غيرها بالحطب وما يشبهها ، وإنما مادة اشتعالها تتكون من الناس الذين كانوا فى الدنيا يشركون مع الله - تعالى - آلهة أخرى فى العبادة ، ومن الحجارة التى كانت تعبد من دونه - تعالى - .

ثم أضاف - سبحانه - إلى تهويلها أمرا آخر وصفة أخرى فقال : { عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } .

والغلاظ : جمع غليظ وهو المتصف بالضخامة والغلظة التى هى ضد الرقة .

وهذا اللفظ صفة مشبهة ، وفعله غلظ ككرم .

وشداد : جمع شديد ، وهو المتصف بالقوة والشدة ، يقال : فلان شديد على فلان ، أى : قوى عليه ، بحيث يستطيع أن ينزل به ما يريد من الأذى والعقاب .

أى : هذه النار من صفاتها - أيضا - أن الموكلين بإلقاء الكافر والفساق فيها ، ملائكة قساة فى أخذهم أهل النار ، أقوياء عليهم ، بحيث لا يستطيع أهل النار أن يفلتوا منهم ، أو أن يعصوا لهم أمرا .

وهؤلاء الملائكة من صفاتهم كذلك أنهم لا يعصون لله - تعالى - أمرا . وإنما ينفذون ما يكلفهم - سبحانه - به تنفيذا تاما .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت أليس الجملتان - لا يعصون .

. . ويفعلون فى معنى واحد ؟

قلت : لا فإن معنى الأولى أنهم يتقلبون أوامره ويلتزمونها ولا يأبونها ولا ينكرونها ، ومعنى الثانية : أنهم يؤدون ما يؤمرون به ، ولا يتثاقلون عنه ولا يتوانون فيه .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِيكُمۡ نَارٗا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ عَلَيۡهَا مَلَـٰٓئِكَةٌ غِلَاظٞ شِدَادٞ لَّا يَعۡصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمۡ وَيَفۡعَلُونَ مَا يُؤۡمَرُونَ} (6)

وفي ظلال هذا الحادث الذي كان وقعه عميقا في نفوس المسلمين ، يهيب القرآن بالذين آمنوا ليؤدوا واجبهم في بيوتهم من التربية والتوجيه والتذكير ، في قوا أنفسهم وأهليهم من النار . ويرسم لهم مشهدا من مشاهدها . وحال الكفار عندها . وفي ظلال الدعوة إلى التوبة التي وردت في سياق الحادث يدعو الذين آمنوا إلى التوبة ، ويصور لهم الجنة التي تنتظر التائبين . ثم يدعو النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إلى جهاد الكفار والمنافقين . . وهذا هو المقطع الثاني في السورة :

( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا ، وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون . يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم ، إنما تجزون ما كنتم تعملون . يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ، ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ، يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه ، نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ، يقولون : ربنا أتمم لنا نورنا ، واغفر لنا إنك على كل شيء قدير . يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ، ومأواهم جهنم وبئس المصير ) . .

إن تبعة المؤمن في نفسه وفي أهله تبعة ثقيلة رهيبة . فالنار هناك وهو متعرض لها هو وأهله ، وعليه أن يحول دون نفسه وأهله ودون هذه النار التي تنتظر هناك . إنها نار . فظيعة متسعرة : ( وقودها الناس والحجارة ) . . الناس فيها كالحجارة سواء . في مهانة الحجارة وفي رخص الحجارة ، وفي قذف الحجارة . دون اعتبار ولا عناية . وما أفظعها نارا هذه التي توقد بالحجارة ! وما أشده عذابا هذا الذي يجمع إلى شدة اللذع المهانة والحقارة ! وكل ما بها وما يلابسها فظيع رهيب : ( عليها ملائكة غلاظ شداد ) . تتناسب طبيعتهم مع طبيعة العذاب الذي هم به موكلون . . ( لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ) . . فمن خصائصهم طاعة الله فيما يأمرهم ، ومن خصائصهم كذلك القدرة على النهوض بما يأمرهم . . وهم بغلظتهم هذه وشدتهم موكلون بهذه النار الشديدة الغليظة . وعلى المؤمن أن يقي نفسه وأن يقي أهله من هذه النار . وعليه أن يحول بينها وبينهم قبل أن تضيع الفرصة ولا ينفع الاعتذار . فها هم أولاء الذين كفروا يعتذرون وهم عليها وقوف ، فلا يؤبه لاعتذارهم ، بل يجبهون بالتيئيس :

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِيكُمۡ نَارٗا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ عَلَيۡهَا مَلَـٰٓئِكَةٌ غِلَاظٞ شِدَادٞ لَّا يَعۡصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمۡ وَيَفۡعَلُونَ مَا يُؤۡمَرُونَ} (6)

يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم بترك المعاصي وفعل الطاعات وأهليكم بالنصح والتأديب وقرئ وأهلوكم عطف على واو قوا فيكون أنفسكم أنفس القبيلين على تغليب المخاطبين نارا وقودها الناس والحجارة نارا تتقد بهما اتقاد غيرها بالحطب عليها ملائكة تلي أمرها وهم الزبانية غلاظ شداد غلاظ الأقوال شداد الأفعال أو غلاظ الخلق شداد الخلق أقوياء على الأفعال الشديدة لا يعصون الله ما أمرهم فيما مضى ويفعلون ما يؤمرون فيما يستقبل أو لا يمتنعون عن قبول الأوامر والتزامها ويؤدون ما يؤمرون به .