وقوله { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } . استئناف مسوق لتقرير ما قبله من الوعيد ، ولتأكيد وجوب امتثال الأمر بالإِيمان ، لأنه لا مغفرة إذا انتفى الإِيمان .
والمراد بالشرك هنا : مطلق الكفر ؛ فيدخل فيه كفر اليهود دخولا أوليا .
والمعنى : إن الله لا يغفر لكم مات على كفره ، ويغفر ما دون الكفر من الذنوب والمعاصى لمن يشاء أن يغفر له إذا ما من غير توبة . فمن مات من المسلمين بدون توبة من الذنوب التى اقترفها فأمره مفوض إلى الله ، إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة ، وإن شاء عذبه ثم أدخله الجنة .
وقوله { وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً } استئناف مشعر بتعليل عدم غفران الشرك ، وزيادة فى تشنيع حال المشرك .
أى . ومن يشرك بالله فى عبادته غيره من خلقه ، فقد ارتكب من الآثام ما لا يتعلق به المغفرة ، لأنه بهذا الإِشراك قد افترى الكذب العظيم على الله ، واقترف الإِفك المبين ، فعل أعظم ذنب فى الوجود : قال القرطبى : قوله - تعالى - : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } روى " أن النبى صلى الله عليه وسلم تلا { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً } فقال له رجل : يا رسول الله والشرك ! ! فنزل : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } "
الآية . وهذا من المحكم المتفق عليه الذى لا اختلاف فيه بين الأمة .
وقوله { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } من المتشابه الذى قد تكلم العلماء فيه .
فقال ابن جرير الطبرى : قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة فهو فى مشيئة الله إن شاء عفا عنه ذنبه ، وإن شاء عاقبه عليه ما لم تكن كبيرته شركا بالله - تعالى - .
وقد أورد ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية الكريمة ثلاثة عشر حديثا تتعلق بها .
ومن هذه الأحاديث ما رواه الحافظ أبو يعلى فى مسنده عن جابر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " لا تزال المغفرة على العبد ما لم يقع فى الحجاب قيل يا نبى الله وما الحجاب ؟ قال : الإِشراك بالله . ثم قرأ : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } " الآية .
وروى ابن أبى حاتم وابن جرير عن ابن عمر قال : كنا معشر أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم لا نشك فى قاتل النفس ، وآكل مال اليتيم ، وشاهد الزور ، وقاطع الرحم ، حتى نزلت هذه الآية : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } وفى رواية لابن أبى حاتم : فلما سمعناها كففنا عن الشهادة وأرجينا الأمور إلى الله - تعالى - .
وقال الآلوسى : ثم إن هذه الآية كما يرد بها على المعتزلة - الذين يسوون بين الإِشراك بالله وبين ارتكاب الكبيرة بدون توبة - يرد بها أيضا - على الخوارج الذين زعموا أن كل ذنب شرك وأن صاحبه مخلد فى النار . وذكر الجلال أن فيها ردا أيضا على المرجئة القائلين : إن أصحاب الكبائر من المسلمين لا يعذبون .
وأخرج ابن الضريس وابن عدى بسند صحيح عن ابن عمر قال : " كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا صلى الله عليه وسلم قوله - تعالى - { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } وقال : " إنى ادخرت دعوتى وشفاعتى أهل الكبائر من أمتى فأمسكنا عن كثير مما كان فى أنفسنا ثم نطقنا ورجونا " وقد استبشر الصحابة بهذه الآية حتى قال على بن أبى طالب : أحب آية إلى فى القرآن { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } .
ثم يجيء تعقيب يتضمن تهديدا آخر في الآخرة . تهديدا بعدم المغفرة لجريمة الشرك . مع فتح أبواب الرحمة الإلهية كلها لما دون ذلك من الذنوب :
( إن الله لا يغفر أن يشرك به ؛ ويغفر ما دون ذلك - لمن يشاء - ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيمًا ) . . وسياق الآية هكذا يتضمن اتهام اليهود بالشرك ؛ ودعوتهم إلى الإيمان الخالص والتوحيد . ولا يذكر هنا القول أو الفعل الذي يعده عليهم شركًا . . وقد ورد في مواضع أخرى تفصيل لهذا : فقد روى القرآن عنهم قولهم : ( عزير ابن الله )كقول النصارى ( المسيح ابن الله ) . وهو شرك لا شك فيه ! كذلك روى عن هؤلاء وهؤلاء أنهم ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) . . وهم لم يكونوا يعبدون الأحبار والرهبان . إنما كانوا - فقط - يقرون لهم بحق التشريع . حق التحليل والتحريم . الحق الخاص بالله ، والذي هو من خصائص الألوهية . ومن ثم اعتبرهم القرآن مشركين . . ولهذا الاعتبار قيمة خاصة في التصور الإسلامي الصحيح لحد الإسلام وشرط الإيمان - كما سيجيء في سياق السورة بالتفصيل .
وعلى أية حال فاليهود على عهد الرسالة المحمدية كانت عقائدهم في الجزيرة حافلة بالوثنيات ، منحرفة عن التوحيد . والتهديد هنا موجه إليهم بأن الله يغفر ما دون الشرك - لمن يشاء - ولكنه لا يتسامح في إثم الشرك العظيم ولا مغفرة عنده لمن لقيه مشركا به ، لم يرجع في الدنيا عن شركه .
إن الشرك انقطاع ما بين الله والعباد . فلا يبقى لهم معه أمل في مغفرة . إذا خرجوا من هذه الدنيا وهم مشركون . مقطوعو الصلة بالله رب العالمين . وما تشرك النفس بالله ، وتبقى على هذا الشرك حتى تخرج من الدنيا - وأمامها دلائل التوحيد في صفحة الكون وفي هداية الرسل - ما تفعل النفس هذا وفيها عنصر من عناصر الخير والصلاحية . إنما تفعله وقد فسدت فسادا لا رجعة فيه ! وتلفت فطرتها التي برأها الله عليها ، وارتدت أسفل سافلين ، وتهيأت بذاتها لحياة الجحيم !
أما ما وراء هذا الإثم المبين الواضح الظاهر ، والظلم العظيم الوقح الجاهر . . أما ما وراء ذلك من الذنوب - والكبائر - فإن الله يغفره - لمن يشاء - فهو داخل في حدود المغفرة - بتوبة أو من غير توبة كما تقول بعض الروايات المأثورة الواردة - ما دام العبد يشعر بالله ؛ ويرجو مغفرته ؛ ويستيقن أنه قادر على أن يغفر له ؛ وأن عفوه لا يقصر عن ذنبه . . وهذا منتهى الأمد في تصوير الرحمة التي لا تنفد ولا تحد ؛ والمغفرة التي لا يوصد لها باب ؛ ولا يقف عليها بواب !
أخرج البخارى ومسلم - كلاهما - عن قتيبة ، عن جرير بن عبد الحميد ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن زيد بن وهب ، عن أبى ذر ، قال : خرجت ليلة من الليالي ، فإذا رسول الله [ ص ] يمشي وحده ، وليس معه إنسان . قال : فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد . قال : فجعلت أمشي في ظل القمر . فالتفت فرآني . فقال : " من هذا . " فقلت : أبو ذر - جعلني الله فداك - قال : " يا أبا ذر تعال ! " قال : فمشيت معه ساعة . فقال لي : " إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة ، إلا من أعطاه الله خيرا ، فيجعل يبثه عن يمينه وشماله وبين يديه ووراءه ، وعمل فيه خيرًا " . قال : فمشيت معه ساعة ، فقال لي : " اجلس ها هنا " . فأجلسني في قاع حوله حجارة . فقال لي : " اجلس هاهنا حتى أرجع إليك " : قال : فانطلق في الحرة حتى لا أراه . فلبث عنى ، حتى إذا طال اللبث . . ثم إني سمعته وهو مقبل يقول : " وإن زنى وإن سرق " قال : فلما جاء لم أصبر حتى قلت : يا نبي الله - جعلني الله فداك - من تكلمه في جانب الحرة ، ؟ فإني سمعت أحدًا يرجع إليك . قال : " ذلك جبريل ، عرض لي جانب الحرة ، فقال : " بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة " . قلت أيا جبريل . وإن سرق وإن زنى ؟ . قال : " نعم " . قلت : وإن سرق وإن زنى ؟ قال : " نعم . وإن شرب الخمر " " . .
وأخرج ابن أبى حاتم - بإسناده - عن جابر بن عبدالله قال : قال رسول الله [ ص ] " ما من نفس تموت ، لا تشرك بالله شيئًا ، إلا حلت لها المغفرة ، إن شاء الله عذبها ، وإن شاء غفر لها . إن الله لا يغفر أن يشرك به ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " . .
وأخرج ابن أبى حاتم - بإسناده - عن ابن عمر قال . " كنا - أصحاب النبي [ ص ] لا نشك في قاتل النفس ، وآكل مال اليتيم ، وقاذف المحصنات ، وشاهد الزور . حتى نزلت : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء )فأمسك أصحاب النبي [ ص ] عن الشهادة " !
وروى الطبراني - بإسناده - عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبى [ ص ] قال : " قال الله عز وجل : من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي . ما لم يشرك بي شيئًا " .
وفي هذا الحديث الأخير لمحة كاشفة . . فالمهم هو شعور القلب بالله على حقيقته - سبحانه - ومن وراء هذا الشعور الخير . والرجاء . والخوف . والحياء . . فإذا وقع الذنب ، فمن ورائه هذه السمات تؤهل للتقوى وتؤهل للمغفرة .
ثم أخبر تعالى : أنه { لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } أي : لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ } أي : من الذنوب { لِمَنْ يَشَاءُ } أي : من عباده .
وقد وردت أحاديث متعلقة بهذه الآية الكريمة ، فلنذكر منها ما تيسر : الحديث الأول : قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، أخبرنا صدقة بن موسى ، حدثنا أبو عمران الجوني ، عن يزيد بن بابنوس{[7670]} عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الدواوين عند الله ثلاثة ؛ ديوان لا يعبأ الله به شيئا ، وديوان لا يترك الله منه شيئا ، وديوان لا يغفره الله . فأما الديوان الذي لا يغفره الله ، فالشرك بالله ، قال الله عز وجل : { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ } [ المائدة : 72 ] وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئا ، فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه ، من صوم يوم تركه ، أو صلاة تركها ؛ فإن الله يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء . وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئا ، فظلم العباد بعضهم بعضا ؛ القصاص لا محالة " .
تفرد به أحمد{[7671]} .
الحديث الثاني : قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : حدثنا أحمد بن مالك ، حدثنا زائدة بن أبي الرقاد ، عن زياد النمري ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الظلم ثلاثة ، فظلم لا يغفره الله ، وظلم يغفره الله ، وظلم لا يتركه الله : فأما الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك ، وقال{[7672]} { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ]وأما الظلم الذي يغفره الله فظلم العباد لأنفسهم فيما بينهم وبين ربهم ، وأما الظلم الذي لا يتركه{[7673]} فظلم العباد بعضهم بعضا ، حتى يدين لبعضهم من بعض " {[7674]} .
الحديث الثالث : قال الإمام أحمد : حدثنا صفوان بن عيسى ، حدثنا ثور بن يزيد ، عن أبي{[7675]} عون ، عن أبي إدريس قال : سمعت معاوية يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كل ذنب عسى الله أن يغفره ، إلا الرجل يموت كافرًا ، أو الرجل يقتل مؤمنًا متعمدًا " .
رواه النسائي ، عن محمد بن مثنى ، عن صفوان بن عيسى ، به{[7676]} .
الحديث الرابع : قال الإمام أحمد : حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا عبد الحميد ، حدثنا شهر ، حدثنا ابن غنم{[7677]} أن أبا ذر حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله يقول : يا عبدي ، ما عبدتني ورجوتني فإني غافر لك على ما كان فيك ، يا{[7678]} عبدي ، إنك إن لقيتني بقراب الأرض خطيئة ما لم تشرك بي ، لقيتك بقرابها مغفرة " .
تفرد به أحمد من هذا الوجه{[7679]} .
الحديث الخامس : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا أبي ، حدثنا حسين ، عن ابن بريدة أن يحيى بن يعمر حدثه ، أن أبا الأسود الديلي حدثه ، أن أبا ذر حدثه قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ما من عبد قال : لا إله إلا الله . ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة " قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : " وإن زنى وإن سرق " قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : " وإن زنى وإن سرق " . ثلاثا ، ثم قال في الرابعة : " على رغم أنف أبي ذر " ! قال : فخرج أبو ذر وهو يجر إزاره وهو يقول : وإن رغم أنف أبي ذر " . وكان أبو ذر يحدث بهذا بعد ويقول : وإن رغم أنف أبي ذر .
أخرجاه من حديث حسين ، به{[7680]} .
طريق أخرى عنه : قال [ الإمام ]{[7681]} أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن زيد بن وهب ، عن أبي ذر قال : " كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة عشاء ، ونحن ننظر إلى أحد ، فقال : " يا أبا ذر " . فقلت : لبيك يا رسول الله ، [ قال ]{[7682]} ما أحب أن لي أحدا ذاك عندي ذهبا أمسي ثالثة وعندي منه دينار ، إلا دينارا أرصده - يعني لدين - إلا أن أقول به في عباد الله هكذا " . وحثا عن يمينه وبين يديه وعن يساره . قال : ثم مشينا فقال : " يا أبا ذر ، إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا " . فحثا عن يمينه ومن بين يديه وعن يساره . قال : ثم مشينا فقال : " يا أبا ذر ، كما أنت حتى آتيك " . قال : فانطلق حتى توارى عني . قال : فسمعت لغطا{[7683]} فقلت : لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض له . قال فهممت أن أتبعه ، ثم ذكرت قوله : " لا تبرح حتى آتيك " فانتظرته حتى جاء ، فذكرت له الذي سمعت ، فقال : " ذاك جبريل أتاني فقال : من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة " . قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : " وإن زنى وإن سرق " .
أخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش ، {[7684]} به .
وقد رواه البخاري ومسلم أيضا كلاهما ، عن قتيبة ، عن جرير بن عبد الحميد ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن زيد بن وهب ، عن أبي ذر قال : خرجت ليلة من الليالي ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وحده ، ليس معه إنسان ، قال : فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد . قال : فجعلت أمشي في ظل القمر ، فالتفت فرآني ، فقال : " من هذا ؟ " فقلت : أبو{[7685]} ذر ، جعلني الله فداك . قال : " يا أبا ذر ، تعال " . قال : فمشيت معه ساعة فقال : " إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة إلا من أعطاه الله خيرا فنفخ فيه عن يمينه وشماله ، وبين يديه وورائه ، وعمل فيه خيرا " . قال : فمشيت معه ساعة فقال لي : " اجلس هاهنا " ، قال : فأجلسني في قاع حوله حجارة ، فقال لي : " اجلس هاهنا حتى أرجع إليك " . قال : فانطلق في الحرة حتى لا أراه ، فلبث عني فأطال اللبث ، ثم إني سمعته وهو مقبل ، وهو يقول : " وإن سرق وإن زنى " . قال : فلما جاء لم أصبر حتى قلت : يا نبي الله ، جعلني الله فداءك ، من تكلم في جانب الحرة ؟ ما سمعت أحدا يرجع إليك شيئا . قال : " ذاك جبريل ، عرض لي من{[7686]} جانب الحرة فقال : بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة . قلت : يا جبريل ، وإن سرق وإن زنى ؟ قال : نعم قلت : وإن سرق وإن زنى ؟ قال : نعم . قلت : وإن سرق وإن زنى ؟ قال : نعم ، وإن شرب الخمر " {[7687]} .
الحديث السادس : قال عبد بن حميد في مسنده : أخبرنا عبيد الله بن موسى ، عن ابن أبي ليلى ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : جاء رجل إلى رسول الله{[7688]} صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، ما الموجبتان{[7689]} ؟ قال : " من مات لا يشرك بالله شيئا وجبت له الجنة ، ومن مات يشرك بالله شيئا وجبت له النار " . وذكر تمام الحديث . تفرد به من هذا الوجه{[7690]} .
طريق أخرى : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا الحسن بن عمرو بن خلاد الحراني ، حدثنا منصور بن إسماعيل القرشي ، حدثنا موسى بن عبيدة ، الربذي ، أخبر{[7691]} عبد الله بن عبيدة ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من نفس تموت ، لا تشرك بالله شيئا ، إلا حلت لها المغفرة ، إن شاء الله عذبها ، وإن شاء غفر لها : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ }{[7692]} .
ورواه الحافظ أبو يعلى في مسنده ، من حديث موسى بن عبيدة ، عن أخيه عبد الله بن عبيدة ، عن جابر ؛ أن النبي{[7693]} صلى الله عليه وسلم قال : " لا تزال المغفرة على العبد ما لم يقع الحجاب " . قيل : يا نبي الله ، وما الحجاب ؟ قال : " الإشراك بالله " . قال : " ما من نفس تلقى الله لا تشرك به شيئا إلا حلت لها المغفرة من الله تعالى ، إن يشأ أن يعذبها ، وإن يشأ أن يغفر لها غفر لها " . ثم قرأ نبي الله : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ }{[7694]} .
الحديث السابع : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا زكريا ، عن عطية ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة " .
تفرد به من هذا الوجه{[7695]} .
الحديث الثامن : قال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا أبو قبيل ، عن عبد الله بن ناشر{[7696]} من بني سريع قال : سمعت أبا رهم قاص أهل الشام يقول : سمعت أبا أيوب الأنصاري يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم إليهم ، فقال لهم : " إن ربكم ، عز وجل ، خيرني بين سبعين ألفا يدخلون الجنة عفوا{[7697]} بغير حساب ، وبين الخبيئة عنده لأمتي " . فقال له بعض أصحابه : يا رسول الله ، أيخبأ ذلك ربك ؟ فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج وهو يكبر ، فقال : " إن ربي زادني مع كل ألف سبعين ألفا والخبيئة عنده " قال أبو رهم : يا أبا أيوب ، وما تظن خبيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فأكله الناس بأفواههم فقالوا : وما أنت وخبيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ! فقال أبو أيوب : دعوا الرجل عنكم ، أخبركم عن خبيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أظن ، بل كالمستيقن . إن خبيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول : من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله مصدقا لسانه قلبه أدخله{[7698]} الجنة " {[7699]} .
الحديث التاسع : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا المؤمل بن الفضل الحراني ، حدثنا عيسى بن يونس( ح ) وأخبرنا هاشم بن القاسم الحراني - فيما كتب إلي - قال : حدثنا عيسى بن يونس نفسه ، عن واصل بن السائب الرقاشي ، عن أبي سورة ابن أخي أبي أيوب ، عن أبي أيوب الأنصاري قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن لي ابن أخ لا ينتهي عن الحرام . قال : " وما دينه ؟ " قال : يصلي ويوحد الله تعالى . قال " استوهب منه دينه ، فإن أبى فابتعه منه " . فطلب الرجل ذاك منه فأبى عليه ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال : وجدته شحيحا في{[7700]} دينه . قال : فنزلت : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ }{[7701]} .
الحديث العاشر : قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا عمرو بن الضحاك ، حدثنا أبي ، حدثنا مستور أبو همام الهنائي ، حدثنا ثابت عن أنس قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، ما تركت حاجة ولا ذا حاجة إلا قد أتيت . قال : " أليس تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ؟ " ثلاث مرات . قال : نعم . قال : " فإن ذلك يأتي على ذلك كله " {[7702]} .
الحديث الحادي عشر : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو عامر ، حدثنا عكرمة بن عمار ، عن ضمضم بن جوس اليمامي{[7703]} قال : قال لي أبو هريرة : يا يمامي{[7704]} لا تقولن لرجل : والله لا يغفر الله لك . أو لا{[7705]} يدخلك الجنة أبدا . قلت : يا أبا هريرة{[7706]} إن هذه كلمة يقولها أحدنا لأخيه وصاحبه إذا غضب قال : لا تقلها ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كان في بني إسرائيل رجلان كان أحدهما مجتهدا في العبادة ، وكان الآخر مسرفا على نفسه ، وكانا متآخيين{[7707]} وكان المجتهد لا يزال يرى الآخر على ذنب ، فيقول : يا هذا أقصر . فيقول : خلني وربي ! أبعثت علي رقيبا ؟ قال : إلى أن رآه يوما على ذنب استعظمه ، فقال له : ويحك ! أقصر ! قال : خلني وربي ! أبعثت علي رقيبا ؟ فقال : والله
لا يغفر الله لك - أو لا يدخلك الجنة أبدا - قال : فبعث الله إليهما ملكا فقبض أرواحهما واجتمعا عنده ، فقال للمذنب : اذهب فادخل الجنة برحمتي . وقال للآخر : أكنت بي عالما ؟ أكنت على ما في يدي قادرا ؟ اذهبوا به إلى النار . قال : فوالذي نفس أبي القاسم بيده لتكلم بكلمة أو بقت دنياه وآخرته " .
ورواه أبو داود ، من حديث عكرمة بن عمار ، حدثني ضمضم بن جوش ، به{[7708]} .
الحديث الثاني عشر : قال الطبراني : حدثنا أبو شيخ عن محمد بن الحسن بن عجلان الأصبهاني ، حدثنا سلمة بن شبيب ، حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان ، عن أبيه ، عن عكرمة ، عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله عز وجل : من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي ، ما لم يشرك بي شيئا " {[7709]} .
الحديث الثالث عشر : قال الحافظ أبو بكر البزار والحافظ أبو يعلى [ الموصلي ]{[7710]} حدثنا هدبة - هو ابن خالد - حدثنا سهل بن أبي حزم ، عن ثابت ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من وعده الله على عمل ثوابا فهو منجزه له ، ومن توعده{[7711]} على عمل عقابا فهو فيه بالخيار " . تفردا به{[7712]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا بحر بن نصر الخولاني ، حدثنا خالد - يعني ابن عبد الرحمن الخراساني - حدثنا الهيثم بن جمار{[7713]} عن سلام بن أبي مطيع ، عن بكر بن عبد الله المزني ، عن ابن عمر قال : كنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نشك في قاتل النفس ، وآكل مال اليتيم ، وقاذف{[7714]} المحصنات ، وشاهد الزور ، حتى نزلت هذه الآية : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } فأمسك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن الشهادة .
ورواه ابن جرير من حديث الهيثم بن حماد{[7715]} به{[7716]} .
وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا عبد الملك بن أبي عبد الرحمن المقري{[7717]} حدثنا عبد الله بن عاصم ، حدثنا صالح - يعني المري أبو بشر - عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : كنا لا نشك فيمن أوجب الله له النار في الكتاب ، حتى نزلت علينا هذه الآية : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } قال : فلما سمعناها كففنا عن الشهادة ، وأرجينا الأمور إلى الله ، عز وجل{[7718]} .
وقال البزار : حدثنا محمد بن عبد الرحيم ، حدثنا شيبان بن أبي شيبة ، حدثنا حرب بن سُرَيج ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر [ رضي الله عنهما ]{[7719]} قال : كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر ، حتى سمعنا نبينا صلى الله عليه وسلم يقول : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } وقال : " أخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي يوم القيامة " .
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع ، أخبرني مجبر ، عن عبد الله بن عمر أنه قال : لما نزلت : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ [ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ]{[7720]} } [ الزمر : 53 ] ، قام رجل فقال : والشرك بالله يا نبي الله ؟ فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا }
رواه ابن جرير . وقد رواه ابن مردويه من طرق عن ابن عمر{[7721]} .
وهذه الآية التي في سورة " تنزيل " مشروطة بالتوبة ، فمن تاب من أي ذنب وإن تكرر منه تاب الله عليه ؛ ولهذا قال : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ الزمر : 53 ]أي : بشرط التوبة ، ولو لم يكن كذلك لدخل الشرك فيه ، ولا يصح ذلك ، لأنه ، تعالى ، قد حكم هاهنا بأنه لا يغفر الشرك ، وحكم بأنه يغفر ما عداه لمن يشاء ، أي : وإن لم يتب صاحبه ، فهذه أرجى من تلك من هذا الوجه ، والله أعلم .
وقوله : { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا } كقوله { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] ، وثبت في الصحيحين ، عن ابن مسعود أنه قال : قلت : يا رسول الله ، أي الذنب أعظم ؟ قال : " أن تجعل لله ندا وهو خلقك . . . " وذكر تمام الحديث .
وقال ابن مردويه : حدثنا إسحق بن إبراهيم بن زيد ، حدثنا أحمد بن عمرو ، حدثنا إبراهيم بن المنذر ، حدثنا معن ، حدثنا سعيد{[7722]} بن بشير حدثنا قتادة ، عن الحسن ، عن عمران بن حصين ؛ أن رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم قال : " أخبركم بأكبر الكبائر : الشرك بالله " {[7723]} ثم قرأ : { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا } وعقوق الوالدين " . ثم قرأ : { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ }{[7724]} .
يجوز أن تكون هذه الجملة متعلقة بما قبلها من تهديد اليهود بعقاب في الدنيا ، فالكلام مَسوق لترغيب اليهود في الإسلام ، وإعلامهم بأنّهم بحيث يتجاوز الله عنهم عند حصول إيمانهم ، ولو كان عذابُ الطمس نازلاً عليهم ، فالمراد بالغفران التجاوز في الدنيا عن المؤاخذة لهم بعظم كفرهم وذنوبهم ، أي يرفع العذاب عنهم . وتتضمّن الآية تهديداً للمشركين بعذاب الدنيا يحلّ بهم فلا ينفعهم الإيمان بعد حلول العذاب ، كما قال تعالى : { فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلاّ قوم يونس } [ يونس : 98 ] الآية . وعلى هذا الوجه يكون حرف ( إنّ ) في موقع التعليل والتسبّب ، أي آمنوا بالقرآن من قبل أن ينزل بكم العذاب ، لأنّ الله يغفر ما دون الإشراك به ، كقوله : { وما كان الله ليعذبّهم وأنت فيهم } [ الأنفال : 33 ] ، أي ليعذّبهم عذاب الدنيا ، ثم قال : { ومالهم أن لا يعذّبهم الله } [ الأنفال : 34 ] ، أي في الدنيا ، وهو عذاب الجوع والسيف . وقوله : { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم } [ الدخان : 10 ، 11 ] ، أي دخانٌ عامَ المجاعة في قريش . ثم قال : { إنّا كاشفوا العذاب قليلاً إنّكم عائدُون يوم نبطش البطشة الكبرى إنّا منتقمون } [ الدخان : 15 ، 16 ] أي بطشة يوم بدر ؛ أو يكون المراد بالغفران التسامح ، فإنّ الإسلام قَبِل من أهل الكتابين الدخول تحت ذمَّة الإسلام دون الدخول في دين الإسلام ، وذلك حكم الجزية ، ولم يرض من المشركين إلاّ بالإيمان دون الجزية ، لقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } إلى قوله { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلّوا سبيلهم } [ التوبة : 5 ] . وقال في شأن أهل الكتاب { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يُحرّمون ما حرّم الله ورسولُه ولا يدينون دينَ الحقّ من الذين أوتوا الكتَاب حتّى يُعطوا الجزية عن يدٍ وهُم صاغرون } [ التوبة : 29 ] .
ويجوز أن تكون الجملة مستأنَفة ، وقعت اعتراضاً بين قوارع أهل الكتاب ومواعظهم ، فيكون حرفُ ( إنَّ ) لتوكيد الخبر لقصد دفع احتمال المجاز أو المبالغة في الوَعيد ، وهو إمّا تمهيد لما بعده لتشنيع جرم الشرك بالله ليكون تمهيداً لتشنيع حال الذين فَضَّلوا الشرك على الإيمان ، وإظهاراً لمقدار التعجيب من شأنهم الآتي في قوله : { ألم ترى إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً } [ النساء : 51 ] ، أي فكيف ترضون بحال من لا يرضى الله عنه . والمغفرة على هذا الوجه يصحّ حملها على معنى التجاوز الدنيوي ، وعلى معنى التجاوز في الآخرة على وجه الإجمال .
وإمّا أن يكون استئنافَ تعليمِ حكم في مغفرة ذنوب العصاة : ابتدىء بمُحْكَم وهو قوله : { لا يغفر أن يشرك به } ، وذُيِّل بمتشابه وهو قوله : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } ؛ فالمغفرة مراد منها التجاوز في الآخرة .
قال القرطبي « فهذا من المتشابه الذي تكلّم العلماء فيه » وهو يريد أنّ ظاهرها يقتضي أموراً مشكلة :
الأول : أنّ يقتضي أنّ الله قد يغفر الكفر الذي ليس بشرك ككفر اليهود .
الثاني : أنّه يغفر لمرتكب الذنوب ولو لم يتب .
الثالث : أنّه قد لا يغفر للكافر بعد إيمانه وللمذنب بعد توبته ، لأنّه وَكَل الغفران إلى المشيئة ، وهي تلاقي الوقوع والانتفاء . وكلّ هذه الثلاثة قد جاءت الأدلّة المتظافرة على خلافها ، واتّفقت الأمّة على مخالفة ظاهرها ، فكانت الآية من المتشابه عند جميع المسلمين . قال ابن عطية : « وهذه الآية هي الحاكمة ببيان ما تعارض من آيات الوعد والوعيد . وتلخيصُ الكلام فيها أن يقال : الناس أربعة أصناف : كافر مات على كفره ، فهذا مخلّد في النار بإجماع ، ومؤمن محسن لم يذنب قط ومات على ذلك فهو في الجنة محتوم عليه حسب الوعد في الله بإجماع وتائب مات على توبته فهذا عند أهل السنّة وجمهور فقهاء الأمّة لا حق بالمؤمن المحسن ، ومُذنب مات قبل توبته فهذا هو موضع الخلاف : فقالت المرجئة : هو في الجنّة بإيمانه ولا تضره سيّئاته ، وجعلوا آيات الوعيد كلّها مخصّصة بالكفار وآيات الوعد عامّة في المؤمنين ؛ وقالت المعتزلة : إذا كان صاحب كبيرة فهو في النار لا محالة ؛ وقالت الخوارج : إذا كان صاحب كبيرة أو صغيرة فهو في النار مخلّد ولا إيمان له ، وجعلوا آيات الوعد كلّها مخصّصة بالمؤمن المحسن والمؤمن التائب ، وجعلوا آيات الوعيد عامّة في العصاة كفاراً أو مؤمنين ؛ وقال أهل السنّة : آيات الوعد ظاهرة العموم ولا يصحّ نفوذ كلّها لوجهه بسبب تعارضها كقوله تعالى : { لا يصلاها إلاّ الأشقى الذي كذّب وتولّى } [ الليل : 15 ، 16 ] وقوله : { ومن يعص الله ورسوله فإنّ له نار جهنّم } [ الجن : 23 ] ، فلا بدّ أن نقول : إنّ آيات الوعد لفظها لفظ العموم ، والمراد به الخصوص : في المؤمن المحسن ، وفيمن سبق في علم الله تعالى العفو عنه دون تعذيب من العصاة ، وأنّ آيات الوعيد لفظها عموم والمراد به الخصوص في الكفرة ، وفيمن سبق علمه تعالى أنّه يعذّبه من العصاة . وآية { إنّ الله لا يغفر أنّ يشرك به } جَلت الشكّ وذلك أنّ قوله : { ويغفر ما دون ذلك } مبطل للمعتزلة ، وقوله : { لمن يشاء } رادّ على المرجئة دالّ على أنّ غفران ما دون الشرك لقوم دون قوم . ولعلّه بنى كلامه على تأويل الشرك به بما يشمل الكفر كلّه ، أو بناه على أنّ اليهود أشركوا فقالوا : عزير ابن الله ، والنصارى أشركوا فقالوا : المسيح ابن الله ، وهو تأويل الشافعي فيما نسبه إليه فخر الدين ، وهو تأويل بعيد . فالإشراك له معناه في الشريعة ، والكفر دونه له معناه .
والمعتزلة تأوّلوا الآية بما أشار إليه في « الكشّاف » : بأنّ قوله { لمن يشاء } معمول يتنازعه { لا يغفر } المنفي { ويغفرُ } المثبت . وتحقيق كلامه أن يكون المعنى عليه : إنّ الله لا يغفر الشرك لمن يشاء ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء ، ويصير معنى لا يغفر لمن يشاء أنّه لا يشاء المغفرة له إذ لو شاء المغفرة له لغفر له ، لأنّ مشيئة الله المُمْكنَ لا يمنعها شيء ، وهي لا تتعلّق بالمستحيل ، فلمّا قال : { لا يغفر } علمنا أنّ ( من يشاء ) معناه لا يشاء أن يغفر ، فيكون الكلام من قبيل الكناية ، مثل قولهم : لا أعرفنَّك تفعل كذا ، أي لا تفعلْ فأعرفَك فاعلاً ، وهذا التأويل تعسّف بيّن .
وأحسب أنّ تأويل الخوارج قريب من هذا . وأمّا المرجئة فتأوّلوا بما نقله عنهم ابن عطية : أنّ مفعول { من يشاء } محذوف دلّ عليه قوله : { أن يشرك به } ، أي ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء الإيمان ، أي لمن آمن ، وهي تعسّفات تُكْرِه القرآننِ على خدمة مذاهبهم . وعندي أنّ هذه الآية ، إن كانت مراداً بها الإعلام بأحوال مغفرة الذنوب فهي آية اقتصر فيها على بيان المقصود ، وهو تهويل شأن الإشراك ، وأجمل ما عداه إجمالاً عجيباً ، بأن أدخلت صورهُ كلّها في قوله : { لمن يشاء } المقتضي مغفرةً لفريق مبْهم ومؤاخذة لِفريق مبهم . والحوالة في بيان هذا المجمل على الأدّلة الأخرى المستقرَاة من الكتاب والسنّة ، ولو كانت هذه الآية ممّا نزل في أوّل البعثة لأمكن أن يقال : إنّ ما بعدها من الآيات نسخ ما تضمّنته ، ولا يهولنا أنّها خبَر لأنّها خبر مقصود منه حكم تكليفي ، ولكنّها نزلت بعدَ معظم القرآن ، فتعيّن أنّها تنظر إلى كلّ ما تقدّمها ، وبذلك يستغني جميعُ طوائف المسلمين عن التعسّف في تأويلها كلّ بما يساعد نحلته ، وتصبح صالحة لمحامل الجميع ، والمرجع في تأويلها إلى الأدّلة المبيّنة ، وعلى هذا يتعيّن حمل الإشراك على معناه المتعارف في القرآن والشريعة المخالف لمعنى التوحيد ، خلافَ تأويل الشافعي الإشراك بما يشمل اليهودية والنصرانية ، ولعلّه نظر فيه إلى قول ابن عمر في تحريم تزوّج اليهودية والنصرانية بأنّهما مشركتان . . وقال : أيّ شرك أعظم من أن يدعى الله ابن .
وأدّلة الشريعة صريحة في اختلاف مفهوم هذين الوصفين ، وكونُ طائفة من اليهود قالوا : عزير ابن الله ، والنصارى قالوا : المسيح ابن الله ، لا يقتضي جعلهم مشركين إذ لم يدّعوا مع ذلك لهذين إلهية تشارك الله تعالى ، واختلاف الأحكام التكليفية بين الكُفرين دليل على أن لا يراد بهذا اللفظ مفهوم مطلق الكفر ، على أنه ماذا يغني هذا التأويل إذا كان بعض الكفرة لا يقول بإلهية غير الله مثل معظم اليهود .
وقد اتّفق المسلمون كلّهم على أنّ التوبة من الكفر ، أي الإيمانَ ، يوجب مغفرته سواء كان كفر إشراك أم كفراً بالإسلام ، لا شكّ في ذلك ، إمّا بوعد الله عند أهل السنّة ، أو بالوجوب العقلي عند المعتزلة ؛ وأنّ الموت على الكفر مطلقاً لا يغفر بلا شكّ . إمّا بوعيد الله ، أو بالوجوب العقلي ؛ وأنّ المذنب إذا تاب يغفر ذنبه قطعاً ، إمّا بوعد الله أو بالوجوب العقلي .
واختلف في المذنب إذا مات على ذنبه ولم يتب أو لم يكن له من الحسنات ما يغطّي على ذنوبه ، فقال أهل السنّة : يعاقب ولا يخلّد في العذاب بنصّ الشريعة ، لا بالوجوب ، وهو معنى المشيئة ، فقد شاء الله ذلك وعَرَّفنَا مشيئته بأدلّة الكتاب والسنّة .
وقال المعتزلة والخوارج : هو في النار خالداً بالوجوب العقلي . وقال المرجئة : لا يعاقب بحال ، وكلّ هاته الأقسام داخل في إجمال { لمن يشاء } .
وقوله : { ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً } زيادة في تشنيع حال الشرك . والافتراءُ : الكذب الذي لا شبهة للكاذب فيه . لأنّه مشتقّ من القرى ، وهو قطع الجلد . وهذا مثل ما أطلقوا عليه لفظ الاختلاق من الخَلْق . وهو قطع الجلد ، وتقدّم عند قوله تعالى : { قال كذلك الله يخلق ما يشاء } في سورة آل عمران . والإثم العظيم : الفاحشة الشديدة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن الله لا يغفر أن يشرك به}، فيموت عليه، يعني اليهود. {ويغفر ما دون ذلك} الشرك {لمن يشاء} لمن مات موحدا. فمشيئته تبارك وتعالى لأهل التوحيد.
{ومن يشرك بالله} معه غيره، {فقد افترى إثما عظيما}: فقد قال ذنبا عظيما...
اعلموا أن من مات على الإيمان من فساق المؤمنين قبل التوبة، فإنه في مشيئة الله تعالى، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، فإن عذبه لا يبقى مخلدا في النار، ولم يخرج عن الإيمان بارتكاب المعاصي دون الكفر، والدليل عليه قوله تعالى: {اِنَّ اَللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُّشْرَكَ بِهِ} الآية. فأخبر عز وجل أن ما دون الكفر يغفر لمن يشاء، ومحال أن يكون مخبره بخلاف خبره؛ ولأن المعصية التي هي دون الكفر لا تضاد الإيمان ولا ترفعه، فصح اجتماعهما. ولأن الإيمان لو ارتفع بمعصية لكان يحكم بردته، ويؤمر بالإيمان لا بالتوبة، وفي ذلك إجماع السلف الصالح أن المؤمن لا يصير كافرا بالمعصية، بل يكون مؤمنا بإيمانه، فاسقا بعصيانه. ولأن الله تعالى بين حكم القاتل والسارق والزاني وسماهم مؤمنين، قال الله تعالى {يَاأيُّهَا اَلذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ َالْقِصَاصُ}... فسمى القاتل مؤمنا، ولأن حكم الردة معلوم في الشريعة، ولا يشبه حكم عصاة المؤمنين شيئا من أحكام المرتدين بوجه ما، فتأمله. (الكوكب الأزهر شرح الفقه الأكبر: 28-29.)...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزّلنا مصدّقا لمِا معكم، وإن الله لا يغفر أن يشرك به، فإن الله لا يغفر الشرك به والكفر، ويغفر ما دون ذلك الشرك لمن يشاء من أهل الذنوب والآثام... وذلك أن يوجه معناه إلى: أن الله لا يغفر بأن يشرك به على تأويل الجزاء، كأنه قيل: إن الله لا يغفر ذنبا مع شرك أو عن شرك¹. وذكر أن هذه الآية نزلت في أقوام ارتابوا في أمر المشركين حين نزلت: {يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ إنّ اللّهَ يَغْفِرُ الذّنُوبَ جمِيعا إنّهُ هُوَ الغَفُورُ الرّحِيمُ}... وقد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه عليه ما لم تكن كبيرة شركا بالله.
{وَمَنْ يُشْرِكُ باللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إثما عَظِيما}: ومن يشرك بالله في عبادته غيره من خلقه، "فقد افترى إثما عظيما": فقد اختلق إثما عظيما. وإنما جعله الله تعالى ذكره مفتريا، لأنه قال زورا وإفكا بجحوده وحدانية الله وإقراره بأن لله شريكا من خلقه وصاحبة أو ولدا، فقائل ذلك مفتر، وكذلك كلّ كاذب فهو مفتر في كذبه مختلق له.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} أجمع الناس أنه يغفر الذنوب كلها: الشرك وما دونه إذا انتهى وتاب، بقوله تعالى: {إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} (الأنفال: 38) دل أن إطماع المغفرة لما دون الشرك لمن ينتهي عنه.
المسألة الأولى: هذه الآية دالة على أن اليهودي يسمى مشركا في عرف الشرع، ويدل عليه وجهان:
الأول: أن الآية دالة على أن ما سوى الشرك مغفور، فلو كانت اليهودية مغايرة للشرك لوجب أن تكون مغفورة بحكم هذه الآية، وبالإجماع هي غير مغفورة، فدل على أنها داخلة تحت اسم الشرك.
الثاني: أن اتصال هذه الآية بما قبلها إنما كان لأنها تتضمن تهديد اليهود، فلولا أن اليهودية داخلة تحت اسم الشرك، وإلا لم يكن الأمر كذلك. فإن قيل: قوله تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هادوا} إلى قوله: {والذين أشركوا} عطف المشرك على اليهودي، وذلك يقتضي المغايرة. قلنا: المغايرة حاصلة بسبب المفهوم اللغوي، والاتحاد حاصل بسبب المفهوم الشرعي، ولا بد من المصير إلى ما ذكرناه دفعا للتناقض.
المسألة الثانية: هذه الآية من أقوى الدلائل لنا على العفو عن أصحاب الكبائر...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كانوا مع ارتكابهم العظائم يقولون: سيغفر لنا، وكان امتثالهم لتحريف أحبارهم ورهبانهم شركاً بالله -كما قال سبحانه وتعالى {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} [التوبة: 31] قال- معللاً لتحقيق وعيدهم، معلماً أن ما أشير إليه من تحريفهم أداهم إلى الشرك -: {إن الله} أي الجامع لصفات العظمة {لا يغفر أن يشرك به} أي على سبيل التجديد المستمر إلى الموت سواء كان المشرك من أهل الكتاب أم لا، وزاد ذلك حسناً انه في سياق
} واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً { [النساء: 36].
ولما أخبر بعدله أخبر بفضله فقال: {ويغفر ما دون ذلك} الأمر الكبير العظيم من كل معصيته سواء كانت صغيرة أو كبيرة، سواء تاب فاعلها أو لا، ورهب بقوله -إعلاماً بأنه مختار، لا يجب عليه شيء -: {لمن يشاء}.
ولما كان التقدير: فإن من أشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً، عطف عليه قوله: {ومن يشرك} أي يوجد منه شرك في الحال أو المآل، وأما الماضي فجبته التوبة {بالله} أي الذي كل شيء دونه {فقد افترى} أي تعمد كذباً {إثماً عظيماً} أي ظاهراً في نفسه من جهة عظمه أنه قد ملأ أقطار نفسه وقلبه وروحه وبدنه مظهراً للغير أنه إثم، فهو في نفسه منادٍ بأنه باطل مصر، فلم يدع لصلح موضعاً، فلم تقتض الحكمة العفو عنه، لأنه قادح في الملك، وإنما طوى مقدمة الضلال وذكر مقدمة الافتراء- لكون السياق لأهل الكتاب الذين ضلالهم على علم منهم وتعمد وعناد، بخلاف ما يأتي عن العرب، وفي التعبير بالمضارع استكفاف مع استعطاف واستجلاب في استرهاب.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قالوا إن سبب نزول هذه الآية قصة وحشي وأنه ندم على قتله لما أخلفه مولاه ما وعده من عتقه وراجع النبي (صلى الله عليه وسلم) في إسلامه فكأنهم يثبتون أن الله جلّت عظمته كان يداعب وحشيا وأصحابه ويستميلهم بآية بعد آية ولا حاجة إلى هذا كله فالكلام ملتئم بعضه مع بعض فهو بعد ما ذكر من شأن اليهود وأن عمدتهم في تكذيب النبي (صلى الله عليه وسلم) تحريف أحبارهم للكتاب وإتباعهم لهم في أمر الدين كما قال في آية أخرى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله} [التوبة:31] وورد في تفسيرها المرفوع أنهم كانوا يتبعونهم في التحليل والتحريم من غير رجوع إلى أصل الكتاب، فهذه الآية تشير إلى أنهم وقعوا في الشرك المشار إليه في الآية الأخرى إذ الشرك بالله يتحقق باعتماد الإنسان على غير الله مع الله في طلب النجاة من رزايا الدنيا ومصائبها أو من العذاب في الآخرة كما يتحقق بالأخذ بقول بعض الناس في التشريع كالعبادات والعقائد والحلال والحرام وإثبات الشرك لليهود هنا وفي تلك الآية لا ينافي تسميتهم أهل الكتاب الذي يدخل فيه الإيمان بالله والأنبياء فإنه قال في الآية السابقة: {فلا يؤمنون إلا قليلا} أي إيمانا لا يعتد به إذ لا يقي صاحبه من الشرك.
أقول قد بينا في مواضع كثيرة من التفسير حقيقة الشرك في الألوهية وهو الشعور بسلطة وتأثير وراء الأسباب والسنن الكونية لغير الله تعالى وكل قول وعمل ينشأ عن ذلك الشعور، والشرك في الربوبية وهو الأخذ بشيء من أحكام الدين والحلال والحرام عن بعض البشر دون الوحي وهذا النوع من الشرك هو الذي أشار الأستاذ الإمام إلى تفسير النبي (صلى الله عليه وسلم) لآية التوبة به وهي قوله تعالى في أهل الكتاب كلهم: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو، سبحانه وتعالى عما يشركون} [التوبة:32] فسر النبي (صلى الله عليه وسلم) اتخاذهم أربابا بطاعتهم واتباعهم في أحكام الحلال والحرام كما ذكرنا غير مرة، فهذا إثبات لطروء الشرك على أهل الكتاب وإن لم يجعل ذلك عنوانا لهم في القرآن لأنه ليس من أصل دينهم وليميزهم عن مشركي الوثنيين، وبينا أيضا أن الشرك في الألوهية والربوبية قد سرى منذ قرون كثيرة إلى بعض المسلمين حتى عرفت طوائف منهم بنبذ الإسلام البتة كطوائف الباطنية (راجع مباحث الشرك من جزء التفسير الثاني ومن جزئه الثالث وجزئه الخامس وفي غير هذه المواضع من التفسير والمنار) وبإثبات الشرك لأهل الكتاب تظهر مناسبة وضع هذه الآية بين هذه الآيات في محاجتهم ودعوتهم إلى الإسلام كأنه يقول: لا يغرنكم انتماؤكم إلى الكتب والأنبياء وقد هدمتم أساس دينهم بالشرك الذي لا يغفره الله بحال من الأحوال.
أما الحكمة في عدم مغفرة الشرك فهي أن الدين إنما شرع لتزكية نفوس الناس وتطهير أرواحهم وترقية عقولهم والشرك هو منتهى ما تهبط إليه عقول البشر وأفكارهم ونفوسهم ومنه تتولد جميع الرذائل والخسائس التي تفسد البشر في أفرادهم وجمعياتهم لأنه عبارة عن رفعهم لأفراد منهم أو لبعض المخلوقات التي هي دونهم أو مثلهم إلى مرتبة يقدسونها ويخضعون لها ويذلون بدافع الشعور بأنها ذات سلطة عليا فوق سنن الكون وأسبابه وأن إرضاءها وطاعتها هو عين طاعة الله تعالى أو شعبة منها لذاتها فهذه الخلة الدنيئة هي التي كانت سبب استبداد رؤساء الدين والدنيا بالأقوام والأمم واستعبادهم إياهم وتصرفهم في أنفسهم وأموالهم ومصالحهم ومنافعهم تصرف السيد المالك القاهر بالعبد الذليل الحقير وناهيك بما كان لذلك من الأخلاق السافلة والرذائل الفاشية من الذل والمهانة والدناءة والتملق والكذب والنفاق وغير ذلك.
والتوحيد الذي يناقض الشر هو عبارة عن إعتاق الإنسان من رقّ العبودية لكل أحد من البشر وكل شيء من الأشياء السماوية والأرضية وجعله حرا كريما عزيزا لا يخضع خضوع عبودية مطلقة إلا لمن خضعت لسننه الكائنات، بما أقامه فيها من النظام في ربط الأسباب بالمسببات، فلسننه الحكيمة يخضع، ولشريعته العادلة المنزّلة يتبع، وإنما خضوعه هذا خضوع لعقله ووجدانه، لا لأمثاله في البشرية وأقرانه، وأما طاعته للحكام فهي طاعة للشرع الذي رضيه لنفسه، والنظام الذي يرى فيه مصلحته ومصلحة جنسه، لا تقديسا لسلطة ذاتية لهم، ولا ذلا واستخذاء لأشخاصهم، فإن استقاموا على الشريعة أعانهم، وإن زاغوا عنها استعان بالأمة فقومهم، كما قال الخليفة الأول في خطبته الأولى بعد نصب الأمة ومبايعتها إياه "وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني، وإن زغت فقوموني "فهكذا يجب أن يكون شأن الموحدين مع حكامهم وهكذا يكونون سعداء في دنياهم بالتوحيد كما يكونون أشقياء بالشرك الجليّ أو الخفيّ.
وأما سعادة الآخرة أو شقاؤها فهو أشد وأبقى، والمدار فيهما على التوحيد والشرك أيضا، أو روح الموحدين تكون راقية عالية لا تهبط بها الذنوب العارضة إلى الحضيض الذي تهوي فيه أرواح المشركين، فمهما عمل المشرك من الصالحات تبقى روحه سافلة مظلمة بالذل والعبودية والخضوع لغير الله تعالى، فلا ترتقي بعملها إلى المستوى الذي تنعم فيه أرواح الموحدين العالية في أجسادهم الشريفة، ومهما أذنب الموحدون فإن ذنوبهم لا تحيط بأرواحهم، وظلمتها لا تعم قلوبهم، لأنهم بتوحيد الله ومعرفته وعز الإيمان ورفعته يغلب خيرهم على شرهم، ولا يطول الأمد وهم في غفلتهم عن ربهم، بل هم كما قال تعالى: {إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} [الأعراف:201] يسرعون إلى التوبة، وإتباع الحسنة السيئة {إن الحسنات يذهبن السيئات} [هود:114] فإذا ذهب أثر السيئة من النفس كان ذلك هو الغفران، فكل سيئات الموحدين قابلة للمغفرة، ولذلك قال تعالى: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} أي يغفر ما دون الشرك لمن يشاء من عباده المذنبين، وإنما مشيئته موافقة لحكمته، وجارية على مقتضى سننه، كما بينا ذلك في مواضع كثيرة من التفسير (تراجع في الفهارس عند مادة مشيئة) وقد أشرنا إليها آنفا بقولنا ومهما أذنب الموحدون... وهو بيان لما يشاء غفرانه ولسننه في ذلك، وأما سنته تعالى فيما لا يغفره من الذنوب فتظهر من المقابلة، وتلك هي الذنوب التي لا يتوب منها صاحبها ولا يتبعها بالحسنات التي تزيل أثرها السيئ من النفس حتى يترتب عليه أثره السيئ في الدنيا ثم في الآخرة، فإن العقاب على الذنوب عبارة عن ترتيب آثارها في النفس عليها كما تؤثر الحرارة في الزئبق في الأنبوبة فيتمدد ويرتفع، وتؤثر فيه البرودة فيتقلص وينخفض، فهذا مثال سنته تعالى في تأثير الأعمال الصالحة والسيئة في نفوس البشر وجزائهم عليها كما بينا ذلك مرارا في التفسير وغيره (راجع مادة ذنب وعقاب وجزاء في فهارس التفسير والمنار).
وقد اضطرب في فهم الآية على بلاغتها وظهورها أصحاب المقالات والمذاهب الذين جعلوا القرآن عضين فلم يأخذوه بجملته ويفسروا بعضه ببعض كالجمع بين المشيئة والحكمة والنظام بل نظروا في كل جملة على حدتها وحاولوا حملها على مقالاتهم كالمرجئة والمعتزلة والخوارج وغيرهم. فهذا يقول إن الشرك وغير الشرك سواء في كونهما لا يغفران إلا بعد التوبة، وهذا يقول إنها دالة على عدم وجوب العقاب على الذنوب وجواز غفرانها كلها ما اجتنب الشرك، وذاك يقول إنها تكون على هذا مغرية بالمعاصي مجرئة عليها. والآية فوق ذلك تحدد ما يترتب عليه العقاب في الدنيا والآخرة حتما لإفساده للنفوس البشرية وهو الشرك، وتبين أن ما عداه لا يصل إلى درجته في إفساد النفس فمغفرته ممكنة تتعلق بها المشيئة الإلهية، فمنه ما يكون تأثيره السيئ في النفس قويا يقتضي العقاب، ومنه ما يكون ضعيفا يغفر بالتأثير المضاد له من صالح الأعمال (راجع تفسير {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة} [النساء:17] الخ من جزء التفسير الرابع).
{ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما} هذه الجملة تشعر بعلة عدم غفران الشرك والمعنى ومن يشرك بالله واجب الوجود قيوم السموات والأرض القائم بنفسه الذي قام به كل شيء بأن يجعل لغيره شركة ما معه دع الإلحاد بإنكار سلطته التي هي مصدر النظام البديع في الكون سواء كانت تلك الشركة بالتأثير في الإيجاد والإمداد أو بالتشريع والتحليل والتحريم من يشرك به في ذلك فقد افترى إثما عظيما أي اخترع ذنبا مفسدا عظيم الفحش والضرر، سيئ المبدأ والأثر، تستصغر في جنب عظمته جميع الذنوب والآثام، فيكون جديرا بأن لا يغفر وإن كان ما دونه قد يمحوه الغفران، والافتراء افتعال من فرى يفري وأصل معناه القطع، ويطلق على الكذب والإفساد لأن قطع الشيء الصحيح مفسد له والشرك بالقول لا يكون إلا كذبا وبالفعل لا يكون إلا فسادا. قال الراغب: الفري قطع الجلد للخرز والإصلاح والإفراء (قطعه) للإفساد والافتراء فيهما وفي الإفساد أكثر ولذلك استعمل في القرآن في الكذب والشرك والظلم، وذكر الآية وغيرها من الشواهد
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يجيء تعقيب يتضمن تهديدا آخر في الآخرة. تهديدا بعدم المغفرة لجريمة الشرك. مع فتح أبواب الرحمة الإلهية كلها لما دون ذلك من الذنوب:
(إن الله لا يغفر أن يشرك به؛ ويغفر ما دون ذلك -لمن يشاء- ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيمًا).. وسياق الآية هكذا يتضمن اتهام اليهود بالشرك؛ ودعوتهم إلى الإيمان الخالص والتوحيد. ولا يذكر هنا القول أو الفعل الذي يعده عليهم شركًا.. وقد ورد في مواضع أخرى تفصيل لهذا: فقد روى القرآن عنهم قولهم: (عزير ابن الله) كقول النصارى (المسيح ابن الله). وهو شرك لا شك فيه! كذلك روى عن هؤلاء وهؤلاء أنهم (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله).. وهم لم يكونوا يعبدون الأحبار والرهبان. إنما كانوا -فقط- يقرون لهم بحق التشريع. حق التحليل والتحريم. الحق الخاص بالله، والذي هو من خصائص الألوهية. ومن ثم اعتبرهم القرآن مشركين.. ولهذا الاعتبار قيمة خاصة في التصور الإسلامي الصحيح لحد الإسلام وشرط الإيمان -كما سيجيئ في سياق السورة بالتفصيل.
وعلى أية حال فاليهود على عهد الرسالة المحمدية كانت عقائدهم في الجزيرة حافلة بالوثنيات، منحرفة عن التوحيد. والتهديد هنا موجه إليهم بأن الله يغفر ما دون الشرك- لمن يشاء -ولكنه لا يتسامح في إثم الشرك العظيم ولا مغفرة عنده لمن لقيه مشركا به، لم يرجع في الدنيا عن شركه.
إن الشرك انقطاع ما بين الله والعباد. فلا يبقى لهم معه أمل في مغفرة. إذا خرجوا من هذه الدنيا وهم مشركون. مقطوعو الصلة بالله رب العالمين. وما تشرك النفس بالله، وتبقى على هذا الشرك حتى تخرج من الدنيا- وأمامها دلائل التوحيد في صفحة الكون وفي هداية الرسل -ما تفعل النفس هذا وفيها عنصر من عناصر الخير والصلاحية. إنما تفعله وقد فسدت فسادا لا رجعة فيه! وتلفت فطرتها التي برأها الله عليها، وارتدت أسفل سافلين، وتهيأت بذاتها لحياة الجحيم!
أما ما وراء هذا الإثم المبين الواضح الظاهر، والظلم العظيم الوقح الجاهر.. أما ما وراء ذلك من الذنوب- والكبائر -فإن الله يغفره- لمن يشاء -فهو داخل في حدود المغفرة- بتوبة أو من غير توبة كما تقول بعض الروايات المأثورة الواردة -ما دام العبد يشعر بالله؛ ويرجو مغفرته؛ ويستيقن أنه قادر على أن يغفر له؛ وأن عفوه لا يقصر عن ذنبه.. وهذا منتهى الأمد في تصوير الرحمة التي لا تنفد ولا تحد؛ والمغفرة التي لا يوصد لها باب؛ ولا يقف عليها بواب!
أخرج البخارى ومسلم- كلاهما -عن قتيبة، عن جرير بن عبد الحميد، عن عبد العزيز بن رفيع، عن زيد بن وهب، عن أبى ذر، قال: خرجت ليلة من الليالي، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وحده، وليس معه إنسان. قال: فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد. قال: فجعلت أمشي في ظل القمر. فالتفت فرآني. فقال:"من هذا." فقلت: أبو ذر- جعلني الله فداك -قال: "يا أبا ذر تعال! "قال: فمشيت معه ساعة. فقال لي: "إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة، إلا من أعطاه الله خيرا، فيجعل يبثه عن يمينه وشماله وبين يديه ووراءه، وعمل فيه خيرًا". قال: فمشيت معه ساعة، فقال لي:"اجلس ها هنا". فأجلسني في قاع حوله حجارة. فقال لي: "اجلس هاهنا حتى أرجع إليك ": قال: فانطلق في الحرة حتى لا أراه. فلبث عنى، حتى إذا طال اللبث.. ثم إني سمعته وهو مقبل يقول:"وإن زنى وإن سرق "قال: فلما جاء لم أصبر حتى قلت: يا نبي الله- جعلني الله فداك -من تكلمه في جانب الحرة،؟ فإني سمعت أحدًا يرجع إليك. قال:"ذلك جبريل، عرض لي جانب الحرة، فقال: "بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة". قلت أيا جبريل. وإن سرق وإن زنى؟. قال:"نعم". قلت: وإن سرق وإن زنى؟ قال: "نعم. وإن شرب الخمر""..
وأخرج ابن أبى حاتم- بإسناده -عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من نفس تموت، لا تشرك بالله شيئًا، إلا حلت لها المغفرة، إن شاء الله عذبها، وإن شاء غفر لها. إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء"..
وأخرج ابن أبى حاتم- بإسناده -عن ابن عمر قال." كنا- أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نشك في قاتل النفس، وآكل مال اليتيم، وقاذف المحصنات، وشاهد الزور. حتى نزلت: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) فأمسك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن الشهادة "!
وروى الطبراني -بإسناده- عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله عز وجل: من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي. ما لم يشرك بي شيئًا".
وفي هذا الحديث الأخير لمحة كاشفة.. فالمهم هو شعور القلب بالله على حقيقته -سبحانه- ومن وراء هذا الشعور الخير. والرجاء. والخوف. والحياء.. فإذا وقع الذنب، فمن ورائه هذه السمات تؤهل للتقوى وتؤهل للمغفرة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
يجوز أن تكون هذه الجملة متعلقة بما قبلها من تهديد اليهود بعقاب في الدنيا، فالكلام مَسوق لترغيب اليهود في الإسلام، وإعلامهم بأنّهم بحيث يتجاوز الله عنهم عند حصول إيمانهم، ولو كان عذابُ الطمس نازلاً عليهم، فالمراد بالغفران التجاوز في الدنيا عن المؤاخذة لهم بعظم كفرهم وذنوبهم، أي يرفع العذاب عنهم. وتتضمّن الآية تهديداً للمشركين بعذاب الدنيا يحلّ بهم فلا ينفعهم الإيمان بعد حلول العذاب، كما قال تعالى: {فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلاّ قوم يونس} [يونس: 98] الآية. وعلى هذا الوجه يكون حرف (إنّ) في موقع التعليل والتسبّب، أي آمنوا بالقرآن من قبل أن ينزل بكم العذاب، لأنّ الله يغفر ما دون الإشراك به، كقوله: {وما كان الله ليعذبّهم وأنت فيهم} [الأنفال: 33]، أي ليعذّبهم عذاب الدنيا، ثم قال: {ومالهم أن لا يعذّبهم الله} [الأنفال: 34]، أي في الدنيا، وهو عذاب الجوع والسيف. وقوله: {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم} [الدخان: 10، 11]، أي دخانٌ عامَ المجاعة في قريش. ثم قال: {إنّا كاشفوا العذاب قليلاً إنّكم عائدُون يوم نبطش البطشة الكبرى إنّا منتقمون} [الدخان: 15، 16] أي بطشة يوم بدر؛ أو يكون المراد بالغفران التسامح، فإنّ الإسلام قَبِل من أهل الكتابين الدخول تحت ذمَّة الإسلام دون الدخول في دين الإسلام، وذلك حكم الجزية، ولم يرض من المشركين إلاّ بالإيمان دون الجزية، لقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} إلى قوله {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلّوا سبيلهم} [التوبة: 5]. وقال في شأن أهل الكتاب {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يُحرّمون ما حرّم الله ورسولُه ولا يدينون دينَ الحقّ من الذين أوتوا الكتَاب حتّى يُعطوا الجزية عن يدٍ وهُم صاغرون} [التوبة: 29]. ويجوز أن تكون الجملة مستأنَفة، وقعت اعتراضاً بين قوارع أهل الكتاب ومواعظهم، فيكون حرفُ (إنَّ) لتوكيد الخبر لقصد دفع احتمال المجاز أو المبالغة في الوَعيد، وهو إمّا تمهيد لما بعده لتشنيع جرم الشرك بالله ليكون تمهيداً لتشنيع حال الذين فَضَّلوا الشرك على الإيمان، وإظهاراً لمقدار التعجيب من شأنهم الآتي في قوله: {ألم ترى إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً} [النساء: 51]، أي فكيف ترضون بحال من لا يرضى الله عنه. والمغفرة على هذا الوجه يصحّ حملها على معنى التجاوز الدنيوي، وعلى معنى التجاوز في الآخرة على وجه الإجمال...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}
اشتملت الآية السابقة على دعوة أهل الكتاب، وأنه إن ينتهوا يغفر لهم ما سلف، وعلى إنذار شديد في الدنيا بإجلائهم وقتلهم أو لعنهم من الناس أجمعين، وفي هذا النص الكريم فتح لباب المغفرة التي كتبها الله على نفسه لعباده؛ لأنه كتب على نفسه الرحمة، ومعنى النص: إن الله تعالى ليس من شأنه أن يغفر لمن يشرك به في العبادة أو الربوبية، لأن الشرك انحراف شديد لا يقبل الغفران، إلا أن يعود إلى التوحيد المطلق بعد الإشراك. والإشراك نوعان: إشراك في الإنشاء والتكوين أو العبادة، كأولئك الذين يعتقدون أن الكواكب لها دخل في الإنشاء، وكأولئك الذين يعبدون غير الله، وإن كانوا يعتقدون أن الله تعالى وحده هو الذي خلق وأنشأ وكون، ويعبدون الأوثان لأنها في زعمهم تقربهم إلى الله زلفى. والنوع الثاني من الإشراك أن يتركوا كتب الله تعالى، ويعرضوا عنها، ويتخذوا دينهم من الأحبار، ولو غيروا فيه وبدلوا، زاعمين أنهم لا يتكلمون إلا عن الله تعالى، وإن كان الكتاب يخالف قولهم، ومن هؤلاء من أشار الله تعالى إليهم بقوله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون (31)} (التوبة).
فهذا النوع من الإشراك لا يقل خطرا عن الشرك في العبادة، لأن الله وحده هو الذي أنشأ الكون، وهو وحده الذي يشرع لعباده، وبين لهم أوامره ونواهيه، وليس لأحد أن يتكلم عنه إلا أن يكون رسولا منه إلى العالمين، فمن اتخذ غير الرسول طريقا لمعرفة شرع الله من غير كتاب الرسول وكلامه فقد أشرك بالله.
وقد ذكر سبحانه أنه لا يغفر ذلك، وأكد عدم الغفران لهذه الحال ب (إن) التي تفيد التوكيد، فلا يرجوا مشرك غفرانا، أيا كان نوع الشرك، إلا أن يقلع عنه، فإن الله تعالى غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا.
وقد ذكر سبحانه أنه يغفر ما دون الشرك لمن يشاء، وما دون الشرك يكون من مرتكب الكبيرة أو الصغيرة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن آمن بالأنبياء السابقين قبل أن تنسخ شريعتهم بالشريعة المحمدية، فإن هؤلاء قد وعد سبحانه وتعالى فضلا منه ومنة على عباده أن يغفر لهم ما يشاء لمن يشاء من عباده. ذلك أن من يرتكب الكبيرة إن تاب عنها غفرها الله تعالى، وإن لم يتب ولم تحط الخطايا بنفسه، وله حسنات، فإن الحسنات يذهبن السيئات، وفي ميزان الله تعالى العادل يوم القيامة توزن الحسنات والسيئات، فمن ثقلت كفة حسناته فأولئك هم المفلحون.
ومشيئة الله تعالى هي مشيئة الحكيم الخبير، الذي يضع كل أمر في موضعه، ولا يظلم ربك أحدا.
{ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما} الافتراء هنا معناه الكذب الشديد لذي يؤدي إلى الفساد، جاء في مفردات الراغب: الفرى قطع الجلد للخرز والإصلاح، والإفراء للإفساد، والافتراء فيهما، وفي الإفساد أكثر، وكذلك استعمل القرآن في الكذب والشرك والظلم نحو: {ومن يشرك بالله افترى إثما عظيما} فمعنى (فقد افترى إثما عظيما) فقد كذب كذبا فيه ظلم وفيه إفساد وضلال، وكان ذلك كله إثما عظيما.
فالشرك يتضمن الكذب على الله تعالى بادعاء شريك له تعالى، ويتضمن ظلما؛ لأنه اعتداء على المستحق للعبادة وحده، وهو فساد النفوس. و (افترى) هنا تضمن قولا كذبا، وفعلا ظالما، وتضمن أعظم ذنب في الوجود، لأنه اعتداء على رب العالمين. وقد يقول قائل إن الافتراء أكثر ما يكون باللسان، فكيف يقال "فقد افترى إثما عظيما"؟ والجواب عن ذلك الافتراء بالنسبة للشرك لما تضمنه من أفعال، اعتبر في ذاته ارتكابا لأعظم ذنب في الوجود. اللهم جنبنا الشرك ما ظهر منه وما خفي، واجعلنا من عبادك المخلصين.