ثم ساق القرآن قصة من قصص بني إسرائيل مع أنبيائهم ، فيها العظات والعبر ، وملخص هذه القصة : أن قوما من بني إسرائيل كانوا قد انهزموا أمام أعدائهم هزيمة منكرة جعلتهم يولون الأدبار تاركين ديارهم وأبناءهم ، فقالوا لنبي لهم بعد أن ذاقوا مرارة الهزيمة : ابعث لنا ملكا يقودنا للقتال في سبيل الله ، ففال لهم نبيهم بعد أن حذرهم من عاقبة الجبن والكذب : اختاره الله قائدا لهم ، ولكن نبيهم ساق لهم من الحجج التي تدل على صلاحية طالوت لهذا المنصب ما أخرس ألسنتهم . . ثم سار طالوت بجنوده لقتال أعدائه ، وفي الطريق قال لمن معه { إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } ثم بعد هذه المخالفة جبن أكثرهم عن قتال أعدائهم وقالوا { لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ } ولكن الفئة القليلة المؤمنة منهم استطاعت أن تنتصر على كل عقبة في طريقها ، وأن تقاتل أعداءها بشجاعة وصبر واعتماد على الله ، فكانت النتيجة أن انتصرت الفئة القليلة المؤمنة بقيادة طالتوت على الفئة الكثيرة الكافرة بقيادة جالوت . هذا تلخيص لتلك القصة العامرة بالعظات ، ولعل من الخير قبل أن نبدأ في تفسير آياتها أن نقرأها بتدبر وتأمل كما صورها القرآن بأسلوبه البليغ المؤثر .
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ . . . }
قوله - تعالى - : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ موسى } إلخ استئناف ثان بعد قول قبل ذلك : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ } وقد سيق هذا الاستئناف مساق الاستدلال لقوله - تعالى - : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله } حتى تتشجع النفوس على الجهاد ، وتهون عليها المصاعب في سبيل حياة العزة والكرامة .
و { الملإ } الأشراف من الناس . وهو اسم للجماعة لا واحد له من لفظه . وإنما سمى الأشراف بذلك لأن هيبتهم تملأ الصدور ، أو لأنهم يتمالؤون أي يتعاونون في شئونهم ، وأصل الباب الاجتماع بما لا يحتمل المزيد .
والمعنى : كما سبق أن بينا في قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ } قد علمت أيها العاقل حال أولئك القوم من بني إسرائيل الذين كانوا بعد وفاة موسى - عليه السلام - إذ قالوا لنبي لهم أقم لنا أميراً لكي نقاتل معه في سبيل الله . ومن لم يعلم فها فنحن أولاء نعلمه بحالهم فعليه أن يعتبر ويتعظ .
فقوله : { مِن بَعْدِ موسى } بيان للزمن الذي كان يعيش فيه أولئك الملأ من بني إسرائيل والمراد بالنبي الذي قالوا له { ابعث لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله } على الراجح - " شمويل بن حنة " وكان السبب في طلبهم هذا من نبيهم أن العمالقة أتباع جالوت كانوا قد أخرجوهم من ديارهم ، وأنزلوا بهم هزائم شديدة ، فطلبوا من ذلك لكي يستردوا مجدهم الضائع ، وعزهم المسلوب ، على يد هذا القائد المختار من جهة نبيهم .
وفي الإِتيان بلفظ هذا النبي بصيغة التنكير إشارة إلى أن محل العبرة ليس هو شخص النبي وإنما المقصود معرفة حال أولئك القوم ، وما جرى لهم مع نبيهم من أحداث من شأنها أن تدعو إلى الاعتبار والاتعاظ . وهذه طريقة القرآن في سرد القصص لا يهتم بالأشخاص والأزمان إلا بالقدر الذي يستدعيه المقام . أما الاهتمام الأكبر فيجعله لما اشتملت عليه القصة من وجوه العظات والعبر .
ويبدوا أنه كان يتوجس منهم خيفة لأنه أعرف بطبيعتهم ، فنراه يقول لهم كما حكى القرآن عنه : { قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال أَلاَّ تُقَاتِلُواْ } .
فالاستفهام للتقرير والتحذير . أي إني أتوقع عدم قتالكم إذا فرض عليكم القتال ، فراجعوا أنفسكم وقوتكم قبل أن تطلبوا هذا الطلب ، لأنه إذا فرض عليكم ثم نكصتم على أعقابكم فإن عاقبتكم ستكون شراً لا شك في ذلك .
وعسى هنا بمعنى التوقع والمقاربة . والجملة استئناف بياني .
قال صاحب الكشاف ؛ والمعنى : هل قاربتم ألا تقاتلوا ؟ يعني هل الأمر كما أتوقعه أنكم لا تقاتلون ؟ أراد أن يقول : عسيتم ألا تقاتلوا بمعنى أتوقع جبنكم عن القتال فأدخل { هَلْ } مستفهماً عما هو متوقع عنده ومظنون وأراد بالاستفهام التقرير وتثبيت أن المتوقع كائن وأنه صائب في توقعه .
وخبر { عَسَيْتُمْ } : " ألا تقاتلوا " والشرط فاصل بينهما .
ثم حكى القرآن ردهم على نبيهم فقال : { قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا } .
أي قال الملإِ من بني إسرائيل على سبيل الإِنكار والتعجب مما قاله نبيهم : وأي صارف يصرفنا عن القتال وحالنا كما نرى ؟ إننا قد أخرجنا من ديارنا وحيل بيننا وبين أبنائنا وفلذات قلوبنا فكيف لا نقاتل مع أن الدواعي موجودة ، والبواعث متوفرة ، والأسباب مهيئة ؟ فأنت تراهم في إجابتهم هذه يستنكرون ما توقعه نبيهم منهم ، ويجزمون بأن الطريق الوحيد لعزتهم إنما هو القتال وأن هذا الأمر لا مراجعة فيه ولا جدال . وهكذا شأن الجبناء والمغرورين في كل زمان ومكان يرحبون بالمعارك قبل قدومها فإذا ما جد الجد كذبت أعمالهم أقوالهم ، وأعطوا أدبارهم لأعدائهم !
ثم حكى القرآن أن نبيهم كان صادقاً فيما توقعه منهم من جبن وكذب ، وأنهم قو م يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم فقال- تعالى- : { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } .
أي : فحين فرض عليهم القتال بعد أن الحوا في طلبه ، أعرضوا عنه ، ونفروا منه إلا عدداً قليلا منهم فإنه ثبت على الحق ، ووفى بعهده .
قال الآلوسي : وقوله { إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } وهم الذين جاوزوا النهر وكانوا ثلثمائة وثلاثة عشر عدة أهل بدر على ما أخرجه البخاري عن البراء - رضي الله عنه - والقلة إضافية فلا يرد وصف هذا العدد أحيانا بأنه جم غفير .
ثم ختم الله - تعالى - عليم بالظالمين الذين يظلمون أنفسهم وأمتهم بترك الجهاد ، وبترك ما أمرهم الله به بعد أن عاهدوه على عدم الترك .
ثم يورد السياق التجربة الثانية ، وأبطالها هم بنو إسرائيل من بعد موسى :
( ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله . قال : هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا ! قالوا : وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله ، وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا ؟ فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم . والله عليم بالظالمين ) . .
ألم تر ؟ كأنها حادث واقع ومشهد منظور . . لقد اجتمع الملأ من بني إسرائيل ، من كبرائهم وأهل الرأي فيهم - إلى نبي لهم . ولم يرد في السياق ذكر اسمه ، لأنه ليس المقصود بالقصة ، وذكره هنا لا يزيد شيئا في إيحاء القصة ، وقد كان لبني إسرائيل كثرة من الأنبياء يتتابعون في تاريخهم الطويل . . لقد اجتمعوا إلى نبي لهم ، وطلبوا إليه أن يعين لهم ملكا يقاتلون تحت إمرته ( في سبيل الله ) . . وهذا التحديد منهم لطبيعة القتال ، وأنه في ( سبيل الله )يشي بانتفاضة العقيدة في قلوبهم ، ويقظة الإيمان في نفوسهم ، وشعورهم بأنهم أهل دين وعقيدة وحق ، وأن أعداءهم على ضلالة وكفر وباطل ؛ ووضوح الطريق أمامهم للجهاد في سبيل الله .
وهذا الوضوح وهذا الحسم هو نصف الطريق إلى النصر . فلا بد للمؤمن أن يتضح في حسه أنه على الحق وأن عدوه على الباطل ؛ ولا بد أن يتجرد في حسه الهدف . . في سبيل الله . . فلا يغشيه الغبش الذي لا يدري معه إلى أين يسير .
وقد أراد نبيهم أن يستوثق من صدق عزيمتهم ، وثبات نيتهم ، وتصميمهم على النهوض بالتبعة الثقيلة ، وجدهم فيما يعرضون عليه من الأمر :
( قال : هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا ! ) . .
ألا ينتظر أن تنكلوا عن القتال إن فرض عليكم ؟ فأنتم الآن في سعة من الأمر . فأما إذا استجبت لكم ، فتقرر القتال عليكم فتلك فريضة إذن مكتوبة ؛ ولا سبيل بعدها إلى النكول عنها . . إنها الكلمة اللائقة بنبي ، والتأكد اللائق بنبي . فما يجوز أن تكون كلمات الأنبياء وأوامرهم موضع تردد أو عبث أو تراخ .
وهنا ارتفعت درجة الحماسة والفورة ؛ وذكر الملأ أن هناك من الأسباب الحافزة للقتال في سبيل الله ما يجعل القتال هو الأمر المتعين الذي لا تردد فيه :
( قالوا : وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا ؟ ) . .
ونجد أن الأمر واضح في حسهم ، مقرر في نفوسهم . . إن أعداءهم أعداء الله ولدين الله . وقد أخرجوهم من ديارهم وسبوا أبناءهم . فقتالهم واجب ؛ والطريق الواحدة التي أمامهم هي القتال ؛ ولا ضرورة إلى المراجعة في هذه العزيمة أو الجدال .
ولكن هذه الحماسة الفائرة في ساعة الرخاء لم تدم . ويعجل السياق بكشف الصفحة التالية :
( فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم ) . .
وهنا نطلع على سمة خاصة من سمات إسرائيل في نقض العهد ، والنكث بالوعد ، والتفلت من الطاعة ، والنكوص عن التكليف ، وتفرق الكلمة ، والتولي عن الحق البين . . ولكن هذه كذلك سمة كل جماعة لا تنضج تربيتها الإيمانية ؛ فهي سمة بشرية عامة لا تغير منها إلا التربية الإيمانية العالية الطويلة الأمد العميقةالتأثير . وهي - من ثم - سمة ينبغي للقيادة أن تكون منها على حذر ، وأن تحسب حسابها في الطريق الوعر ، كي لا تفاجأ بها ، فيتعاظمها الأمر ! فهي متوقعة من الجماعات البشرية التي لم تخلص من الأوشاب ، ولم تصهر ولم تطهر من هذه العقابيل .
وهو يشي بالاستنكار ؛ ووصم الكثرة التي تولت عن هذه الفريضة - بعد طلبها - وقبل أن تواجه الجهاد مواجهة عملية . . وصمها بالظلم . فهي ظالمة لنفسها ، وظالمة لنبيها ، وظالمة للحق الذي خذلته وهي تعرف أنه الحق ، ثم تتخلى عنه للمبطلين !
إن الذي يعرف أنه على الحق ، وأن عدوه على الباطل - كما عرف الملأ من بني إسرائيل وهم يطلبون أن يبعث لهم نبيهم ملكا ليقاتلوا ( في سبيل الله ) . . ثم يتولى بعد ذلك عن الجهاد ولا ينهض بتبعة الحق الذي عرفه في وجه الباطل الذي عرفه . . إنما هو من الظالمين المجزيين بظلمهم . . ( والله عليم بالظالمين ) . .
قال عبد الرزاق عن مَعْمَر عن قتادة : هذا النبي هو يوشع بن نون . قال ابن جرير : يعني ابن أفراثيم{[4217]} بن يوسف بن يعقوب . وهذا القول بعيد ؛ لأن هذا كان بعد موسى بدهر طويل ، وكان
ذلك في زمان داود عليه السلام ، كما هو مصرح به في القصة وقد كان بين داود وموسى ما ينيف عن ألف سنة والله أعلم .
وقال السدي : هو شمعون{[4218]} وقال مجاهد : هو شمويل عليه السلام . وكذا قال محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه وهو : شمويل بن بالي بن علقمة بن يرخام{[4219]} بن إليهو بن تهو بن صوف{[4220]} بن علقمة بن ماحث{[4221]} بن عمرصا بن عزريا بن صفنيه{[4222]} بن علقمة بن أبي ياسف بن قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السلام .
وقال وهب بن منبه وغيره : كان بنو إسرائيل بعد موسى عليه السلام على طريق{[4223]} الاستقامة مدة الزمان ، ثم أحدثوا الأحداث وعبد بعضهم الأصنام ، ولم يزل بين أظهرهم من الأنبياء من يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويقيمهم على منهج التوراة إلى أن فعلوا ما فعلوا فسلط الله عليهم أعداءهم فقتلوا منهم مقتلة عظيمة ، وأسروا خلقًا كثيرا وأخذوا منهم بلادًا كثيرة ، ولم يكن أحد يقاتلهم إلا غلبوه وذلك أنهم كان عندهم التوراة والتابوت الذي كان في قديم{[4224]} الزمان وكان ذلك موروثًا لخلفهم عن سلفهم إلى موسى الكليم عليه الصلاة والسلام{[4225]} فلم يزل بهم تماديهم{[4226]} على الضلال حتى استلبه{[4227]} منهم بعض الملوك في بعض الحروب وأخذ التوراة من أيديهم ولم يبق من يحفظها فيهم إلا القليل وانقطعت النبوة من أسباطهم ولم يبق من سبط{[4228]} لاوي الذي يكون فيه الأنبياء إلا امرأة حامل من بعلها وقد قتل فأخذوها فحبسوها في بيت واحتفظوا بها لعل الله يرزقها غلامًا يكون نبيًّا لهم ولم تزل [ تلك ]{[4229]} المرأة تدعو الله عز وجل أن يرزقها غلامًا فسمع الله لها ووهبها غلامًا ، فسمته شمويل : أي : سمع الله . ومنهم من يقول : شمعون وهو بمعناه فشب ذلك الغلام ونشأ فيهم وأنبته {[4230]} الله نباتًا حسنًا فلما بلغ سن الأنبياء أوحى الله إليه وأمره بالدعوة إليه وتوحيده ، فدعا بني إسرائيل فطلبوا منه أن يقيم لهم ملكًا يقاتلون معه أعداءهم وكان الملك أيضًا قد باد فيهم{[4231]} فقال لهم النبي : فهل عسيتم إن أقام الله لكم ملكًا ألا تفوا بما التزمتم من القتال معه { قَالُوا وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا } أي : وقد أخذت منا البلاد وسبيت الأولاد ؟ قال الله تعالى : { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } أي : ما وفوا بما وعدوا بل نكل عن الجهاد أكثرهم والله عليم بهم .
جملة : { ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل } استئناف ثان من جملة { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم } [ البقرة : 243 ] سيق مساق الاستدلال لجملة { وقاتلوا في سبيل الله } [ البقرة : 190 ] وفيها زيادة تأكيد لفظاعة حال التقاعس عن القتال بعد التهيؤ له في سبيل الله ، والتكرير في مثله يفيد مزيد تحذير وتعريض بالتوبيخ ؛ فإن المأمورين بالجهاد في قوله : { وقاتلوا في سبيل الله } لا يخلون من نفر تعتريهم هواجس تثبطهم عن القتال ، حباً للحياة ومن نفر تعترضهم خواطر تهون عليهم الموت عند مشاهدة أكدار الحياة ، ومصائب المذلة ، فضرب الله لهذين الحالين مثلين : أحدهما ما تقدم في قوله : { ألم تر إلى الذين أخرجوا من ديارهم } والثاني قوله : { ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل } وقد قدم أحدهما وأخر الآخر ليقع التحريض على القتال بينهما .
ومناسبة تقديم الأولى أنها تشنع حال الذين استسلموا واستضعفوا أنفسهم ، فخرجوا من ديارهم مع كثرتهم ، وهذه الحالة أنسب بأن تقدم بين يدي الأمر بالقتال والدفاع عن البيضة ؛ لأن الأمر بذلك بعدها يقع موقع القبول من السامعين لا محالة ، ومناسبة تأخير الثانية أنها تمثيل حال الذين عرفوا فائدة القتال في سبيل الله لقولهم : { وما لنا ألا نقاتل } إلخ . فسألوه دون أن يفرض عليهم فلما عين لهم القتال نكصوا على أعقابهم ، وموضع العبرة هو التحذير من الوقوع في مثل حالهم بعد الشروع في القتال أو بعد كتبه عليهم ، فلله بلاغة هذا الكلام ، وبراعة هذا الأسلوب تقديماً وتأخيراً . وتقدم القول على { ألم تر } [ البقرة : 243 ] في الآية قبل هذه .
والملأ : الجماعة الذين أمرهم واحد ، وهو اسم جمع كالقوم والرهط ، وكأنه مشتق من الملْء وهو تعمير الوعاء بالماء ونحوه ، وأنه مؤذن بالتشاور لقولهم : تمالأ القوم إذا اتفقوا على شيء والكل مأخوذ من ملء الماء ؛ فإنهم كانوا يملأون قربهم وأوعيتهم كل مساء عند الورد ، فإذا ملأ أحد لآخر فقد كفاه شيئاً مهماً ؛ لأن الماء قوام الحياة ، فضربوا ذلك مثلاً للتعاون على الأمر النافع الذي به قوام الحياة والتمثيل بأحوال الماء في مثل هذا منه قول علي « اللهم عليك بقريش فإنهم قد قطعوا رحمي وأكفأوا إنائي » تمثيلاً لإضاعتهم حقه .
وقوله : { من بعد موسى } إعلام بأن أصحاب هذه القصة كانوا مع نبيء بعد موسى ، فإن زمان موسى لم يكن فيه نصب ملوك على بني إسرائيل وكأنه إشارة إلى أنهم أضاعوا الانتفاع بالزمن الذي كان فيه رسولهم بين ظهرانيهم ، فكانوا يقولون : اذهب أنت وربك فقاتلا ، وكان النصر لهم معه أرجى لهم ببركة رسولهم ، والمقصود التعريض بتحذير المسلمين من الاختلاف على رسولهم .
وتنكير نبيء لهم للإشارة إلى أن محل العبرة ليس هو شخص النبي فلا حاجة إلى تعيينه ، وإنما المقصود حال القوم وهذا دأب القرآن في قصصه ، وهذا النبي هو صمويل وهو بالعربية شمويل بالشين المعجمة ولذلك لم يقل : إذ قالوا لنبيهم ، إذ لم يكن هذا النبي معهوداً عند السامعين حتى يعرف لهم بالإضافة .
وفي قوله : { لنبيء لهم } تأييد لقول علماء النحو إن أصل الإضافة أن تكون على تقدير لام الجر ، ومعنى { ابعث لنا ملكاً } عين لنا ملكاً ؛ وذلك أنه لما لم يكن فيهم ملك في حالة الحاجة إلى ملك فكأن الملك غائب عنهم ، وكأن حالهم يستدعي حضوره فإذا عين لهم شخص ملكاً فكأنه كان غائباً عنهم فبعث أي أرسل إليهم ، أو هو مستعار من بعث البعير أي إنهاضه للمشي .
وقوله : { هل عسيتم إن كتب عليكم القتال } الآية ، استفهام تقريري وتحذير ، فقوله : { ألا تقاتلوا } مستفهم عنه بهل وخبر لعسى متوقع ، ودليل على جواب الشرط { إن كتب عليكم القتال } وهذا من أبدع الإيجاز فقد حكى جملاً كثيرة وقعت في كلام بينهم ، وذلك أنه قررهم على إضمارهم نية عدم القتال اختباراً وسبراً لمقدار عزمهم عليه ، ولذلك جاء في الاستفهام بالنفي فقال ما يؤدي معنى « هلْ لاَ تقاتلون » ولم يقل : هل تقاتلون ؛ لأن المستفهم عنه هو الطرَف الراجح عند المستفهم ، وإن كان الطرَف الآخر مقدراً ، وإذا خرج الاستفهام إلى معانيه المجازية كانت حاجة المتكلم إلى اختيار الطرف الراجح متأكدة . وتوقع منهم عدم القتال وحذرهم من عدم القتال إن فرض عليهم ، فجملة : { ألا تقاتلوا } يتنازع معناها كل من هَل وَعسى وإنْ ، وأُعطيت لعسى ، فلذلك قرنت بإنْ ، وهي دليل للبقية فيقدر لكل عامل ما يقتضيه . والمقصود من هذا الكلام التحريض لأن ذا الهمة يأنف من نسبته إلى التقصير ، فإذا سجل ذلك عليه قبل وجود دواعيه كان على حذر من وقوعه في المستقبل ، كما يقول من يوصي غيره : افعل كذا وكذا وما أظنك تفعل .
وقرأ نافع وحده عسيتم بكسر السين على غير قياس ، وقرأه الجمهور بفتح السين وهما لغتان في عسى إذا اتصل بها ضمير المتكلم أو المخاطب ، وكأنهم قصدوا من كسر السين التخفيف بإماتة سكون الياء .
وقوله : { قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله } جاءت واو العطف في حكاية قولهم ؛ إذ كان في كلامهم ما يفيد إرادة أن يكون جوابهم عن كلامه معطوفاً على قولهم : { ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله } ما يؤدَّى مثله بواو العطف فأرادوا تأكيد رغبتهم ، في تعيين ملك يدبر أمور القتال ، بأنهم ينكرون كل خاطر يخطر في نفوسهم من التثبيط عن القتال ، فجعلوا كلام نبيئهم بمنزلة كلام معترض في أثناء كلامهم الذي كملوه ، فما يحصل به جوابهم عن شك نبيهم في ثباتهم ، فكان نظم كلامهم على طريقة قوله تعالى حكاية عن الرسل :
{ وعلى الله فليتوكل المؤمنون } [ آل عمران : 122 ] ، { وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا } [ إبراهيم : 12 ] .
و ( ما ) اسم استفهام بمعنى أي شيء واللام للاختصاص والاستفهام إنكاري وتعجبي من قول نبيهم : { هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا } لأن شأن المتعجب منه أن يسأل عن سببه . واسم الاستفهام في موضع الابتداء ، و { لنا } خبره ، ومعناه ما حصل لنا أو ما استقرَّ لنا ، فاللام في قوله : { لنا } لام الاختصاص و« أن » حرف مصدر واستقبال ، و { نقاتل } منصوب بأن ، ولما كان حرف المصدر يقتضي أن يكون الفعل بعده في تأويل المصدر ، فالمصدر المنسبك من أن وفعلها إما أن يجعل مجروراً بحرف جر مقدر قبل أن مناسب لتعلق ( لا نقاتل ) بالخبر ما لنا في ألا نقاتل أي انتفاء قتالنا أو ما لنا لأَلا نقاتل أي لأجل انتفاء قتالنا ، فيكون معنى الكلام إنكارهم أن يثبت لهم سبب يحملهم على تركهم القتال ، أو سبب لأجل تركهم القتال ، أي لا يكون لهم ذلك . وإما أن يجعل المصدر المنسبك بدلاً من ضمير { لنا } : بَدَل اشتمال ، والتقدير : ما لنا لِتَرْكِنا القتال .
ومثل هذا النظم يجيء بأشكال خمسة : مثل { مالك لا تأمنا على يوسف } [ يوسف : 11 ] { ومالي لا أعبد الذي فطرني } [ يس : 22 ] { ما لكم كيف تحكمون } [ النساء : 88 ] فمالك والتلدد حول نجد { فما لكم في المنافقين فئتين } [ الصافات : 154 ] ، والأكثر أن يكون ما بعد الاستفهام في موضع حال ، ولكن الإعراب يختلف ومآل المعنى متحد .
و« ما » مبتدأ و« لنا » خبره ، والمعنى : أي شيء كان لنا . وجملة « ألا نُقَاتل » حال وهي قيد للاستفهام الإنكاري ، أي لا يثبت لنا شيء في حالة تركنا القتال . وهذا كنظائره في قولك : مالي لا أفعل أو مالي أفعل ، فإن مصدرية مجرورة بحرف جر محذوف يقدر بفي أو لام الجر ، متعلق بما تعلقَ به { لنا } .
وجملة { وقد أخرجنا } حال معللة لوجه الإنكار ، أي إنهم في هذه الحال أبعد الناس عن ترك القتال ؛ لأن أسباب حب الحياة تضعف في حالة الضر والكدر بالإخراج من الديار والأبناء .
وعطف الأبناء على الديار لأن الإخراج يطلق على إبعاد الشيء من حيزه ، وعلى إبعاده من بين ما يصاحبه ، ولا حاجة إلى دعوى جعل الواو عاطفة عاملاً محذوفاً تقديره وأبعدنا عن أبنائنا .
وقوله : { فلما كتب عليهم القتال تولوا } الخ . جملة معترضة ، وهي محل العبرة والموعظة لتحذير المسلمين من حال هؤلاء أن يتولوا عن القتال بعد أن أخرجهم المشركون من ديارهم وأبنائهم ، وبعد أن تمنوا قتال أعدائهم وفرضه الله عليهم والإشارة إلى ما حكاه الله عنهم بعد بقوله : { فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه } [ البقرة : 249 ] إلخ .
وقوله : { والله عليم بالظالمين } تذييل ، لأن فعلهم هذا من الظلم ؛ لأنهم لما طلبوا القتال خيلوا أنهم محبون له ثم نكصوا عنه . ومن أحسن التأديب قول الراجز :
مَن قال لاَ في حاجة *** مسؤولة فما ظلم
وإنما الظالم مــن *** يقول لا بعد نعـم
وهذه الآية أشارت إلى قصة عظيمة من تاريخ بني إسرائيل ، لما فيها من العلم والعبرة ، فإن القرآن يأتي بذكر الحوادث التاريخية تعليماً للأمة بفوائد ما في التاريخ ، ويختار لذلك ما هو من تاريخ أهل الشرائع ، لأنه أقرب للغرض الذي جاء لأجله القرآن . هذه القصة هي حادث انتقال نظام حكومة بني إسرائيل من الصبغة الشورية ، المعبر عنها عندهم بعصر القضاة إلى الصبغة الملكية ، المعبر عنها بعصر الملوك وذلك أنه لما توفي موسى عليه السلام في حدود سنة 1380 قبل الميلاد المسيحي ، خلفه في الأمة الإسرائيلية يوشع بن نُون ، الذي عهد له موسى في آخر حياته بأن يخلفه فلما صار أمر بني إسرائيل إلى يوشع جعل لأسباط بني إسرائيل حكاماً يسوسونهم ويقضون بينهم ، وسماهم القضاة فكانوا في مدن متعددة ، وكان من أولئك الحكام أنبياء ، وكان هنالك أنبياء غير حكام ، وكان كل سِبط من بني إسرائيل يسيرون على ما يظهر لهم ، وكان من قضاتهم وأنبيائهم صمويل بن القانة ، من سبط أفرايم ، قاضياً لجميع بني إسرائيل ، وكان محبوباً عندهم ، فلما شاخ وكبر وقعت حروب بين بني إسرائيل والفلسطينيين وكانت سجالاً بينهم ، ثم كان الانتصار للفلسطينيين ، فأخذوا بعض قرى بني إسرائيل حتى إن تابوت العهد ، الذي سيأتي الكلام عليه ، أسره الفلسطينيون ، وذهبوا به إلى ( أَشدود ) بلادهم وبقي بأيديهم عدة أشهر ، فلما رأت بنو إسرائيل ما حل بهم من الهزيمة ، ظنوا أن سبب ذلك هو ضعف صمويل عن تدبير أمورهم ، وظنوا أن انتظام أمر الفلسطينيين ، لم يكن إلاّ بسبب النظام الملكي ، وكانوا يومئذٍ يتوقعون هجوم ناحاش : ملك العمونيين عليهم أيضاً ، فاجتمعت إسرائيل وأرسلوا عرفاءهم من كل مدينة ، وطلبوا من صمويل أن يقيم لهم ملكاً يقاتل بهم في سبيل الله ، فاستاء صمويل من ذلك ، وحذرهم عواقب حكم الملوك « إن الملك يأخذ بينكم لخدمته وخدمة خيله ويتخذ منكم من يركض أمام مراكبه ، ويسخر منكم حراثين لحرثه ، وعملة لعُدد حربه ، وأدوات مراكبه ، ويجعل بناتكم عطَّارات وطباخات وخبازات ، ويصطفي من حقولكم ، وكرومكم ، وزياتينكم ، أجودها فيعطيها لعبيده ، ويتخذكم عبيداً ، فإذا صرختم بعد ذلك في وجه ملككم لا يستجيب الله لكم ، فقالوا : لا بد لنا من ملك لنكون مثل سائر الأمم ، وقال لهم : هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا { وما لنا ألا نقاتل } الخ . وكان ذلك في أوائل القرن الحادي عشر قبل المسيح .
وقوله : { وقد أخرجنا من ديارنا وأبناءنا } يقتضي أن الفلسطينيين أخذوا بعض مدن بني إسرائيل ، وقد صُرح بذلك إجمالاً في الإصحاح السابع من سفر صمويل الأول ، وأنهم أسروا أبناءهم ، وأطلقوا كهولهم وشيوخهم ، وفي ذكر الإخراج من الديار والأبناء تلهيب للمهاجرين من المسلمين على مقاتلة المشركين الذين أخرجوهم من مكة ، وفرقوا بينهم وبين نسائهم ، وبينهم وبين أبنائهم ، كما قال تعالى : { وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان } [ النساء : 75 ] .