التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{سَنَفۡرُغُ لَكُمۡ أَيُّهَ ٱلثَّقَلَانِ} (31)

ثم هدد - سبحانه - الذين يخالفون عن أمره تحذيرا شديدا ، فقال : { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثقلان فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } .

وجىء بحرف التنفيس الدال على القرب وهو السين للإشعار بتحقق ما أخبر به - سبحانه - .

وقوله : { نَفْرُغُ } من الفراغ ، وهو الخلو عما يشغل . .

والمراد به هنا : القصد إلى الشىء والإقبال عليه ، يقال : فلان فرغ لفلان وإليه ، إذا قصد إليه لأمر ما .

والثقلان : تثنية ثقل - بفتحتين - ، وأصله كل شىء له وزن وثقل ، والمراد بهما هنا : الإنس والجن .

والمعنى : سنقصد يوم القيامة إلى محاسبتكم على أعمالكم ، وسنجازيكم عليها بما تستحقون ، وسيكون هذا شأننا - أيها الثقلان - فى هذا اليوم العظيم .

قال صاحب الكشاف : قوله : { سَنَفْرُغُ لَكُمْ } مستعار من قول الرجل لمن يتهدده ، سأفرغ لك ، يريد سأتجرد للإيقاع بك من كل ما يشغلنى عنك ، حتى لا يكون لى شغل سواه ، والمراد : التوفر على النكاية فيه ، والانتقام منه .

ويجوز أن يراد ستنتهى الدنيا وتبلغ آخرها ، وتنتهى عند ذلك شئون الخلق التى أرادها بقوله - تعالى - : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } ، فلا يبقى إلا شأن واحد ، وهو جزاؤكم ، فجعل ذلك فراغا لهم على طريق المثل .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{سَنَفۡرُغُ لَكُمۡ أَيُّهَ ٱلثَّقَلَانِ} (31)

وبتقرير حقيقة البقاء وراء الفناء ، وما ينبثق منها من حقيقة الاتجاه الكلي إلى الواحد الباقي ، وتعلق مشيئته - سبحانه - بشئون الخلائق وتقديرها وتدبيرها ، فضلا منه ومنة على العباد . .

بتقرير هذه الحقيقة الكلية وما ينبثق عنها من حقائق ينتهي الاستعراض الكوني ، ومواجهة الجن والإنس به ؛ ويبدأ مقطع جديد . فيه تهديد وفيه وعيد . تهديد مرعب مفزع ، ووعيد مزلزل مضعضع . تمهيدا لهول القيامة الذي يطالع الثقلين في سياق السورة بعد ذاك :

( سنفرغ لكم أيها الثقلان . فبأي آلاء ربكما تكذبان ? يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا . لا تنفذون إلا بسلطان . فبأي آلاء ربكما تكذبان ? يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران . فبأي آلاء ربكما تكذبان ? ) . .

( سنفرغ لكم أيها الثقلان ) . .

يا للهول المرعب المزلزل ، الذي لا يثبت له إنس ولا جان . ولا تقف له الجبال الرواسي ولا النجوم والأفلاك !

الله . جل جلاله . الله القوي القادر ، القهار الجبار ، الكبير المتعال . الله - سبحانه - يفرغ لحساب هذين الخلقين الضعيفين الصغيرين : الجن والإنس ، في وعيد وانتقام !

إنه أمر . إنه هول . إنه فوق كل تصور واحتمال !

والله - سبحانه - ليس مشغولا فيفرغ . وإنما هو تقريب الأمر للتصور البشري . وإيقاع الوعيد في صورة مذهلة مزلزلة ، تسحق الكيان بمجرد تصورها سحقا . فهذا الوجود كله نشأ بكلمة . كلمة واحدة . كن فيكون . وتدميره أو سحقه لا يحتاج إلا واحدة كلمح بالبصر . . فكيف يكون حال الثقلين ، والله يفرغ لهما وحدهما ، ليتولاهما بالانتقام ? !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{سَنَفۡرُغُ لَكُمۡ أَيُّهَ ٱلثَّقَلَانِ} (31)

قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ } ، قال : وعيد من الله للعباد ، وليس بالله شغل وهو فارغ . وكذا قال الضحاك : هذا وعيد . وقال قتادة : قد دنا من الله فراغ لخلقه . وقال ابن جريج : { سَنَفْرُغُ لَكُمْ } أي : سنقضي لكم .

وقال البخاري : سنحاسبكم{[27882]} ، لا يشغله شيء عن شيء ، وهو معروف في كلام العرب ، يقال {[27883]} لأتفرغن لك " وما به شغل ، يقول : " لآخذنك على غِرَّتك {[27884]} " .

وقوله : { أَيُّهَا الثَّقَلانِ } الثقلان : الإنس والجن ، كما جاء في الصحيح : " يسمعها كل شيء إلا الثقلين " وفي رواية : " إلا الجن والإنس " . وفي حديث الصور : " الثقلان الإنس والجن " { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } .


[27882]:- (3) في م: "سيحاسبكم".
[27883]:- (4) في أ: "يقول".
[27884]:- (5) في م: "غرة".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{سَنَفۡرُغُ لَكُمۡ أَيُّهَ ٱلثَّقَلَانِ} (31)

هذا تخلّص من الاعتبار بأحوال الحياة العاجلة إلى التذكير بأحوال الآخرة والجزاء فيها انتُقل إليه بمناسبة اشتمال ما سَبق من دلائل سعة قدرة الله تعالى ، على تعريض بأن فاعل ذلك أهلّ للتوحيد بالإِلهية ، ومستحق الإِفراد بالعبادة ، وإذ قد كان المخاطبون بذلك مشركين مع الله في العبادة انتُقل إلى تهديدهم بأنهم وأولياءَهم من الجن المسوِّلين لهم عبادة الأصنام سيعرضون على حكم الله فيهم .

وحرف التنفيس مستعمل في مطلق التقريب المكنَّى به عن التحقيق ، كما تقدم في قوله تعالى : { قال سوف أستغفر لكم ربي } في سورة يوسف ( 98 ) .

والفراغ للشيء : الخلوُ عما يشغل عنه ، وهو تمثيل للاعتناء بالشيء ، شبّه حال المقبل على عمل دون عمللٍ آخر بحال الوعاء الذي أُفْرغَ مما فيه ليُملأ بشيء آخر .

وهذا التمثيل صالح للاستعمال في الاعتناء كما في قول أبي بكر الصديق لابنه عبد الرحمان افْرُغْ إلى أضيافك ( أي تخل عن كل شغل لتشتغل بأضيافك وتتوفر على قِراهم ) وصالح للاستعمال في الوعيد ، كقول جرير :

أَلاَنَ وقد فرغت إلى نَمير *** فهذا حين كنتُ لها عذاباً

والمناسب لسياق الآية باعتبار السابق واللاحق ، أن تحمل على معنى الإِقبال على أمور الثقلين في الآخرة ، لأن بعده { يعرف المجرمون بسيماهم } [ الرحمن : 41 ] ، وهذا لكفار الثقلين وهم الأكثر في حين نزول هذه الآية .

و { الثقلان } : تثنية ثَقَل ، وهذا المثنى اسم مفرد لمجموع الإِنس والجن .

وأحسب أن الثّقَل هو الإِنسان لأنه محمول على الأرض ، فهو كالثقل على الدابة ، وأن إطلاق هذا المثنى على الإنس والجن من باب التغليب ، وقيل غير هذا مما لا يرتضيه المتأمل . وقد عد هذا اللفظ بهذا المعنى مما يستعمل إلا بصيغة التثنية فلا يطلق على نوع الإنسان بانفراده اسم الثقل ولذلك فهو مثنى اللفظ مفرد الإطلاق . وأظن أن هذا اللفظ لم يطلق على مجموع النوعين قبل القرآن فهو من أعلام الأجناس بالغلبة ، ثم استعمله أهل الإسلام ، قال ذو الرمة :

وميَّة أحسن الثقلين وَجها *** وسَالِفَةً وأحسنُهُ قَذالاً

أراد وأحسن الثقلين ، وجعل الضمير له مفرداً . وقد أخطأ في استعماله إذ لا علاقة للجن في شيء من غرضه .

وقرأ الجمهور { سنفرغ } بالنون . وقرأه حمزة والكسائي بالياء المفتوحة على أن الضمير عائد إلى الله تعالى على طريقة الالتفات .

وكُتب { أيه } في المصحف بهاء ليس بعدها ألف وهو رسم مراعى فيه حال النطق بالكلمة في الوصل إذ لا يوقف على مثله ، فقرأها الجمهور بفتحة على الهاء دون ألف في حالتي الوصل والوقف . وقرأها أبو عمرو والكسائي بألف بعد الهاء في الوقف . وقرأه ابن عامر بضم الهاء تبعاً لضم الياء التي قبلها وهذا من الإِتباع .