وبعد أن بين - سبحانه - أحوال الكفار فى الآخرة أتبعه بما يوجب اليأس من إيمان بعضهم فقال : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وفي آذَانِهِمْ وَقْراً } .
قال ابن عباس : إن أبا سفيان بن حرب ، والوليد بن المغيرة ، والنضر بن الحارث ، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأمية بن خلف . استمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ، فقالوا للنضر : يا أبا قتيلة ما يقول محمد ؟ فقال : والذى جعلها بيته ما أدرى ما يقول ، إلا أنى أرى تحرك شفيته يتكلم بشىء فما يقول إلا أساطير ، مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية ، وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى وكان يحدث قريشا فيستملحون حديثه فأنزل الله هذه الآية " .
والأكنة : جمع كنان كغطاء وأغطية لفظا ومعنى والوقر - بالفتح - الثقل فى السمع .
والمعنى : ومن هؤلاء المشكرين يا محمد من يستمع إليك حين تقرأ القرآن وقد جعلنا - بسبب عنادهم وجحودهم - على قلوبهم أغطية تحول بينهم وبين فقهه ، كما جعلنا فى أسماعهم صمما يمنع من سماعه بتدبر وتعقل .
قال صاحب المنار : " وجعل الأكنة على القلوب والوقر فى الآذان فى الآية من تشبيه الحجب والموانع المعنوية بالحجب والموانع الحسية ؛ فإن القلب الذى لا يفقه الحديث ولا يتدبره كالوعاء الذى وضع عليه الكن أو الكنان وهو الغطاء حتى لا يدخل فيه شىء . والآذان التى لا تسمع الكلام سماع فهم وتدبر كالآذان المصابة بالثقل او الصمم ، لأن سمعها وعدمه سواء .
وقال بعض العلماء : " وهنا يسأل سائل : إذا كان منع الهداية من الله - تعالى - بالغشاوة على قلوبهم والختم عليا وبالوقر فى آذانهم فلا يسمعون سماع تبصر فماذا يكون عليهم من تبعة يحاسبون عليها حسابا عسيرا بالعذاب الأليم ؟
والجواب عن ذلك أن الله - سبحانه - يسير الأمور وفق حكمته العلاي فمن يسلك سبيل الهداية يرشده وينير طريقه ويثيبه ، ومن يقصد إلى الغواية ويسير فى طريقها تجيئه النذر تباعاً إنذارا بعد إنذار ، فإن أيقظت النذر ضميره وتكشفت العماية عن قلبه فقد اهتدى وآمن بعد كفر .
ومن لم تجد فيه النذر المتتابعة ولم توقظ له ضميرا ولم تبصره من عمى فقد وضع الله - تعالى - على قلبه غشاوة وفى آذانه وقرا " .
صم صور - سبحانه - عنادهم وإعراضهم عن الحق مهما وضحت براهينه فقال : { وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا } .
أى : وإن يروا كل آية من الآيات الدالة على صحة نبوتك وصدق دعوتك فلن يؤمنوا بها لاستحواذ الغرور والعناد على قلوبهم .
والمراد من الرؤية هنا البصرية ، ومن الآيات المعجزات الحسية كانشقاق القمر ونبع الماء من بين أصابعه الشريفة .
وهذه الجملة الكريمة المقصود بها ذمهم لعدم انتفاعهم بحاسة البصر بعد ذمهم لعدم انتفاعهم بعقولهم وأسماعهم .
وجىء بكلمة { كُلَّ } لعموم النفى ، أى : أنهم لا يؤمنون بأية معجزة يرونها مهما وضحت براهينها ، ومهما كانت دلالتها ظاهرة على صدق النبى صلى الله عليه وسلم .
ثم بين - سبحانه - ما كان يجرى منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
{ حتى إِذَا جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الذين كفروا إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين } .
الأساطير جمع إسطارة أو أسطورة ومعناها الخرافات والترهات .
أى : حتى إذا ما صاروا إليك أيها الرسول ليخاصموك وينازعوك فى دعوتك فإنهم يقولون لك بسبب كفرهم وجحودهم ، ما هذا القرآن الذى نسمعه منك إلا أقاصيص الأولين المشتملة على خرافاتهم وأوهامهم .
وفى قوله - تعالى - { حتى إِذَا جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ } إشارة إلى أن مجيئهم لم يكن من أجل الوصول إلى الحق ، وإنما كان من أجل المجادلة المتعنتة مع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم .
ويمضي السياق يصور حال فريق من المشركين ؛ ويقرر مصيرهم في مشهد من مشاهد القيامة . . يصور حالهم وهم يستمعون القرآن معطلي الإدراك ، مطموسي الفطرة ، معاندين مكابرين ، يجادلون رسول الله [ ص ] وهم على هذا النحو من الاستغلاق والعناد ، ويدعون على هذا القرآن الكريم أنه أساطير الأولين ؛ وينأون عن سماعه وينهون غيرهم عنه أيضا . . يصور حالهم هكذا في الدنيا في صفحة ، وفي الصفحة الأخرى يرسم لهم مشهدا كئيبا مكروبا ؛ وهم موقوفون على النار محبوسون عليها ، وهي تواجههم بهول المصير الرعيب ؛ وهم يتهافتون متخاذلين ؛ ويتهاوون متحسرين ؛ يتمنون لو يردون إلى الدنيا فيكون لهم موقف غير ذلك الموقف ، الذي انتهى بهم إلى هذا المصير . فيردون عن هذا التمني بالتصغير والتحقير :
( ومنهم من يستمع إليك ، وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها ، حتى إذا جاؤوك يجادلونك ، يقول الذين كفروا : إن هذا إلا أساطير الأولين . وهم ينهون عنه وينأون عنه ، وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون . ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا : يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ! بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ، وإنهم لكاذبون ) . . إنهما صفحتان متقابلتان : صفحة في الدنيا يرتسم فيها العناد والإعراض ؛ وصفحة في الآخرة يرتسم فيها الندم والحسرة . . يرسمها السياق القرآني ، ويعرضهما هذا العرض المؤثر الموحي ؛ ويخاطب بهما الفطر الجاسية ؛ ويهز بها هذه الفطر هزا ، لعل الركام الذي ران عليها يتساقط ، ولعل مغاليقها الصلدة تتفتح ، ولعلها تفيء إلى تدبر هذا القرآن قبل فوات الأوان .
( ومنهم من يستمع إليك ، وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها ) . .
والأكنة : الأغلفة التي تحول دون أن تتفتح هذه القلوب فتفقه ؛ والوقر : الصمم الذي يحول دون هذه الآذان أن تؤدي وظيفتها فتسمع . .
وهذه النماذج البشرية التي تستمع ؛ ولكنها لا تفقه ، كأن ليس لها قلوب تدرك ؛ وكأن ليس لها آذان تسمع . . نماذج مكرورة في البشرية في كل جيل وفي كل قبيل ، في كل زمان وفي كل مكان . . إنهم أناسي من بني آدم . . ولكنهم يسمعون القول وكأنهم لا يسمعونه . كأن آذانهم صماء لا تؤدي وظيفتها . وكأن إدراكهم في غلاف لا تنفذ إليه مدلولات ما سمعته الآذان !
وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها . حتى إذا جاؤوك يجادلونك . يقول الذين كفروا : إن هذا إلا أساطير الأولين . .
فأعينهم ترى كذلك . ولكن كأنها لا تبصر . أو كأن ما تبصره لا يصل إلى قلوبهم وعقولهم !
فما الذي أصاب القوم يا ترى ؟ ما الذي يحول بينهم وبين التلقي والاستجابة . بينما لهم آذان ولهم عيون ولهم عقول ؟ يقول الله - سبحانه - :
( وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا . وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها )
وهذا يعبر عن قضاء الله فيهم بألا يتلقى إدراكهم هذا الحق ولا يفقهه ؛ وبألا تؤدي أسماعهم وظيفتها فتنقل إلى إدراكهم ما تسمع من هذا الحق فتستجيب له ، مهما يروا من دلائل الهدى وموحيات الإيمان .
غير أنه يبقى أن نلتمس سنة الله في هذا القضاء . . إنه سبحانه يقول : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) . .
ويقول : ( ونفس وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها ، قد أفلح من زكاها ، وقد خاب من دساها ) . . فشأن الله - سبحانه - أن يهدي من يجاهد ليبلغ الهدى ؛ وأن يفلح من يزكي نفسه ويطهرها . . فأما هؤلاء فلم يتوجهوا إلى الهدى ليهديهم الله ؛ ولم يحاولوا أن يستخدموا أجهزة الاستقبال الفطرية في كيانهم ، فييسر الله لهم الاستجابة . . هؤلاء عطلوا أجهزتهم الفطرية ابتداء ؛ فجعل الله بينهم وبين الهدى حجابا ؛ وجرى قضاؤه فيهم بهذا الذي جرى جزاء على فعلهم الأول ونيتهم الأولى . . وكل شيء إنما يكون بأمر الله . ومن أمر الله أن يهدي من يجاهد ، وأن يفلح من يتزكى . ومن أمر الله أن يجعل على قلوب المعرضين أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها . . والذين يحيلون ضلالهم وشركهم وخطاياهم على إرادة الله بهم ، وعلى قضائه فيهم ، إنما يغالطون في هذه الإحالة . والله سبحانه يجبههم بالحق ، وهو يحكي أقوالهم في هذا الشأن ويسفهها : ( وقال الذين أشركوا : لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ، ولا حرمنا من دونه من شيء . كذلك فعل الذين من قبلهم . فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ؟ ولقد بعثنا في كل أمة رسولا : أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ، فمنهم من هدى الله ، ومنهم من حقت عليه الضلالة ، فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) . . فدل هذا على إنكار الله عليهم قولهم ؛ وعلى أن الضلالة إنما حقت عليهم - بعد النذارة - بفعلهم . .
والذين أثاروا قضايا القضاء والقدر ، والجبر والاختيار ، وإرادة العبد وكسبه . . ليجعلوا منها مباحث لاهوتية ، تخضع لما تتصوره عقولهم من فروض وتقديرات ، إنما يجانبون منهج القرآن في عرض هذه القضية في صورتها الواقعية التقريرية البسيطة ؛ التي تقرر أن كل شيء إنما يكون بقدر من الله ؛ وأن اتجاه الإنسان على هذا النحو أو ذاك داخل في حدود فطرته التي خلقه الله عليها ، والتي جرى بها قدر الله فكانت على ما كانت عليه ؛ وأن اتجاهه على هذا النحو أو ذاك تترتب عليه نتائج وآثار في الدنيا والآخرة يجري بها قدر الله أيضا ، فتكون . . وبهذا يكون مرجع الأمر كله إلى قدر الله . . ولكن على النحو الذي يرتب على إرادة الإنسان الموهوبة له ما يوقعه قدر الله به . . وليس وراء هذا التقرير إلا الجدل الذي ينتهي إلى المراء !
والمشركون كانت معروضة عليهم أمارات الهدى ودلائل الحق وموحيات الإيمان ، في هذا القرآن ، الذي يلفتهم إلى آيات الله في الأنفس والآفاق ؛ وهي وحدها كانت كفيلة - لو اتجهت إليها قلوبهم - أن توقع على أوتار هذه القلوب ، وأن تهز فيها المدارك الغافية فتوقظها وتحييها ، لتتلقى وتستجيب . . إلا أنهم هم لم يجاهدوا ليهتدوا ؛ بل عطلوا فطرتهم وحوافزها ؛ فجعل الله بينهم وبين موحيات الهدى حجابا ؛ وصاروا حين يجيئون إلى الرسول [ ص ] لا يجيئون مفتوحي الأعين والآذان والقلوب ؛ ليتدبروا ما يقوله لهم تدبر الباحث عن الحق ؛ ولكن ليجادلوا ويتلمسوا أسباب الرد والتكذيب :
( حتى إذا جاؤوك يجادلونك يقول الذين كفروا : إن هذا إلا أساطير الأولين ) . .
والأساطير جمع أسطورة . وكانوا يطلقونها على الحكايات التي تتضمن الخوارق المتعلقة بالألهة والأبطال في قصص الوثنيات . وأقربها إليهم كانت الوثنية الفارسية وأساطيرها .
وهم كانوا يعلمون جيدا أن هذا القرآن ليس بأساطير الأولين . ولكنهم إنما كانوا يجادلون ؛ ويبحثون عن أسباب الرد والتكذيب ؛ ويتلمسون أوجه الشبهات البعيدة . . وكانوا يجدون فيما يتلى عليهم من القرآن قصصا عن الرسل وأقوامهم ؛ وعن مصارع الغابرين من المكذبين . فمن باب التمحل والتماس أوهى الأسباب ، قالوا عن هذا القصص وعن القرآن كله : ( إن هذا إلا أساطير الأولين ) !
وإمعانا في صرف الناس عن الاستماع لهذا القرآن ، وتثبيت هذه الفرية . . فرية أن هذا القرآن إن هو إلا أساطير الأولين . . كان مالك بن النضر ، وهو يحفظ أساطير فارسية عن رستم واسفنديار من أبطال الفرس الأسطوريين ، يجلس مجلسا قريبا من رسول الله [ ص ] وهو يتلو القرآن . فيقول للناس : إن كان محمد يقص عليكم أساطير الأولين ، فعندي أحسن منها ! ثم يروح يقص عليهم مما عنده من الأساطير ، ليصرفهم عن الاستماع إلى القرآن الكريم !
وقوله : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا } أي : يجيؤوك{[10619]} ليسمعوا قراءتك ، ولا تجزي عنهم شيئًا ؛ لأن الله جعل { عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } أي : أغطية لئلا يفقهوا القرآن { وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا } أي : صمما عن السماع النافع ، فَهُم كما قال تعالى : { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً [ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ ]{[10620]} } [ البقرة : 171 ] .
وقوله : { وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا } أي : مهما رأوا من الآيات والدلالات والحجج البينات ، لا يؤمنوا بها . فلا فَهْم عندهم ولا إنصاف ، كما قال تعالى : { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ [ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ] {[10621]} } [ الأنفال : 23 ] .
وقوله : { حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ } أي يحاجونك ويناظرونك في الحق بالباطل { يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ } أي : ما هذا الذي جئت به إلا مأخوذ من كتب الأوائل ومنقول عنهم .
الضمير في قوله { ومنهم } عائد على الكفار الذين تضمنهم قبل قوله { يوم نحشرهم جميعاً } [ الأنعام : 22 ] وأفرد { يستمع } وهو فعل جماعة حملاً على لفظ { من } و { أكنة } جمع كنان وهو الغطاء الجامع ، ومنه كنانة السهام والكنّ ، ومنه قوله تعالى : { بيض مكنون }{[4871]} ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
إذا ما انتَضَوْها في الوغى مِنْ أَكِنَّةً حَسِبْتَ بُروقَ الغَيْثِ هَاجَتْ غُيُومُها{[4872]}
وفعال وأفعله مهيع في كلامهم و { أن يفقهوه } نصب على المفعول من أجله أي كراهية أن يفهموه ، وقيل المعنى أن لا يفقهوه ، ويلزم هذا القول إضمار حرف النفي ، و { يفقهوه } معناه يفقهوه ، ويقال فقِه الرجل بكسر القاف إذا فهم الشيء وفقُه بضمها : إذا صار فقيهاً له ملكة ، وفقه إذا غلب في الفقه غيره ، والوقر : الثقل في السمع ، يقال وقرت أذنه ووقِرت بكسر القاف وفتحها ، ومنه قول الشاعر : [ الرمل ]
وكلام سيّء وَقَرَتْ . . . أُذُنِي وما بي مِنْ صَمَمْ{[4873]}
وقد سمع أذن موقورة فالفعل على هذا وقرت ، وقرأ طلحة بن مصرف : «وِقراً » بكسر الواو كأنه ذهب إلى أن آذانهم وقرت بالصمم كما توقر الدابة من الحمل وهي قراءة شاذة ، وهذا عبارة عما جعل الله في نفوس هؤلاء القوم من الغلط والبعد عن قبول الخير ، لا أنهم لم يكونوا سامعين لأقواله ، وقوله تعالى : { وإن يروا كل آية } الآية ، الرؤية هنا رؤية العين ، يريد كانشقاق القمر وشبهه .
قال القاضي أبو محمد : ومقصد هذه الآية أنهم في أعجز درجة وحاولوا رد الحق بالدعوى المجردة ، والواو في قوله { وجعلنا } واو الحال والباب أن يصرح معها بقد ، وقد تجيء أحياناً مقدرة ، وإيضاح ذلك أنه تعالى قال ومن هؤلاء الكفرة من يستمعك وهو من الغباوة في حد قلبه في كنان وأذنه صماء وهو يرى الآيات فلا يؤمن بها لكنه مع بلوغه الغاية من هذه القصور إذا جاء للمجادلة قابل بدعوى مجردة ، والمجادلة : المقابلة في الاحتجاج مأخوذ من الجدل ، و { هذا } في قولهم إشارة إلى القرآن ، والأساطير جمع أسطار كأقوال وأقاويل ونحوه ، وأسطار جمع سطر وسطر{[4874]} ، وقيل الأساطير جمع أسطارة وهي النزهات ، وقيل جمع أسطورة كأعجوبة وأضحوكة ، وقيل هم اسم جمع لا واحد من لفظه كعبابيد وشماطيط{[4875]} والمعنى أخبار الأولين وقصصهم وأحاديثهم التي تسطر وتحكى ولا تحقق كالتواريخ ، وإنما شبهها الكفار بأحاديث النضر بن الحارث وأبي عبد الله بن أبي أمية عن رستم والسندباد ، ومجادلة الكفار كانت مرادّتهم نور الله بأفواههم المبطلة ، وقد ذكر الطبري عن ابن عباس أنه مثل من ذلك قولهم : إنكم أيها المتبعون محمداً تأكلون ما قتلتم بذبحكم ولا تأكلون ما قتل الله ، ونحو هذا من التخليط الذي لا تتركب منه حجة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا جدال في حكم ، والذي في الآية إنما هو جدال في مدافعة القرآن ، فلا تتفسر الآية عندي بأمر الذبح .