ولما كانت الأمور التي كلفهم الله بها قبل ذلك فيها مشقة لا يتحملها كل أحد بسهولة . فقد أرشدهم إلى الوسائل التي تقوى عزائمهم ، وتطهر قلوبهم ، وتعالج أمراض نفوسهم فقال تعالى :
{ واستعينوا بالصبر والصلاة . . . }
قوله تعالى : { واستعينوا بالصبر والصلاة } الاستعانة : طلب المعونة ، والصبر حبس النفس على ما نكره . يقال : صبر على الطاعة . أي حبس نفسه عليها متحملا ما يلاقيه في أدائها من مشاق وصبر عن المعصية . أي كف نفسه عما تنزع إليه من أهواء .
والمعنى : واستعينوا على ترك ما تحبون من شهوات الدنيا ، والدخول فيما تستثقله نفوسكم من قبول الإِسلام ، والتقيد بتكاليفه بفضيلة الصبر التي تحجز أنفسكم من غشيان الموبقات ، وبفريضة الصلاة التي تنهاكم عن الفحشاء والمنكر .
قوله تعالى : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين } كبيرة : أي صعبة شاقة . يقال كبر الشيء إذا شق وثقل ، ومنه قوله تعالى : { كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } أي ثقل وصعب - والخاشعين : من الخشوع وهو في الأصل اللين والسهولة " ومعناه في الآية الكريمة . الخضوع والاستكانة لله تعالى ، والضمير في - إنها - للصلاة لعظيم شأنها واستجماعها لضربو من الصبر ، والاستثناء مفرغ . أي كبيرة على كل الناس إلا على الخاشعين .
والمعنى : إن الصلاة صعبة إلا على الخاضعين المخبتين المتطامنة قلوبهم وجوارحهم لله تعالى لأنهم موقنون أنها من أهم وسائل الفلاح في الدنيا ، والسعادة في الآخرة ، ولأنهم يجدون عند أدائها اغتباطاً وسروراً يجعل نفوسهم تنشط إليها كلما حل وقتها بهمة وإخلاص .
قال الإِمام الرازي : " فإن قيل : إن كانت ثقيلة على هؤلاء سهلة على الخاشعين ، فيجب أن يكون ثوابهم أكثر ، وثواب الخاشع أقل ، وذلك منكر من القول ؟ قلنا : ليس المراد أن الذي يلحقهم من التعب أكثر مما يلحق الخاشع . وكيف يكون ذلك ، والخاشع يستعمل في الصلاة جوارحه وقلبه ، ولا يغفل فيها ؛ وإذا كان هذا فعل الخاشع فالثقل عليه يفعل الصلاة أعظم . وإنما المراد بقوله تعالى : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ } أي ثقيلة على غير الخاشع ؛ لأنه لا يعتقد في فعلها ثواباً ، ولا في تركها عقاباً ، فيصعب عليه فعلها ، فالحاصل أن الملحد لاعتقاده عدم المنفعة في أدائها ثقل عليه فعلها ، لأن الاشتغال بما لا فائدة فيه يثقل على الطبع . أما الموحد فلما اعتقد في فعلها أعظم المنافع ، وفي تركها أكبر المضار ، لم يثقل عليه أداؤها . بل أداها وهو سعيد بها ، ألا ترى إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " جعلت قرة عيني في الصلاة " وصفها بذلك لأنها كانت لا تثقل عليه .
ومن ثم يوجه القرآن اليهود الذين كان يواجههم أولا ، ويوجه الناس كلهم ضمنا ، إلى الاستعانة بالصبر والاستعانة بالصلاة . . وفي حالة اليهود كان مطلوبا منهم أن يؤثروا الحق الذي يعلمونه على المركز الخاص الذي يتمتعون به في المدينة ، وعلى الثمن القليل - سواء كان ثمن الخدمات الدينية أو هو الدنيا كلها - وأن يدخلوا في موكب الإيمان وهم يدعون الناس إلى الإيمان ! وكان هذا كله يقتضي قوة وشجاعة وتجردا . واستعانة بالصبر والصلاة :
( واستعينوا بالصبر والصلاة . وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين )
والغالب أن الضمير في أنها ضمير الشأن ، أي إن هذه الدعوة إلى الاعتراف بالحق في وجه هذه العوامل كبيرة وصعبة وشاقة ، إلا على الخاشعين الخاضعين لله ، الشاعرين بخشيته وتقواه ، الواثقين بلقائه والرجعة إليه عن يقين .
والاستعانة بالصبر تتكرر كثيرا ؛ فهو الزاد الذي لا بد منه لمواجهة كل مشقة ، وأول المشقات مشقة النزول عن القيادة والرياسة والنفع والكسب احتراما للحق وإيثارا له ، واعترافا بالحقيقة وخضوعا لها .
إن الصلاة صلة ولقاء بين العبد والرب . صلة يستمد منها القلب قوة ، وتحس فيها الروح صلة ؛ وتجد فيها النفس زادا أنفس من أعراض الحياة الدنيا . . ولقد كان رسول الله [ ص ] إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ، وهو الوثيق الصلة بربه الموصول الروح بالوحي والإلهام . . وما يزال هذا الينبوع الدافق في متناول كل مؤمن يريد زادا للطريق ، وريا في الهجير ، ومددا حين ينقطع المدد ، ورصيدا حين ينفد الرصيد . .
يقول تعالى{[1683]} آمرًا عبيده ، فيما يؤمّلون من خير الدنيا والآخرة ، بالاستعانة بالصبر والصلاة ، كما قال مقاتل بن حَيَّان في تفسير هذه الآية : استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على الفرائض ، والصلاة .
فأما الصبر فقيل : إنه الصيام ، نص عليه مجاهد .
[ قال القرطبي وغيره : ولهذا سمي رمضان شهر الصبر كما نطق به الحديث ]{[1684]} .
وقال سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن جُرَيّ بن كُليب ، عن رجل من بني سليم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الصوم نصف الصبر " .
وقيل : المراد بالصبر الكف عن المعاصي ؛ ولهذا قرنه بأداء العبادات وأعلاها : فعل الصلاة .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن حمزة بن إسماعيل ، حدثنا إسحاق بن سليمان ، عن أبي سِنان ، عن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، قال : الصبر صبران : صبر عند المصيبة حسن ، وأحسن منه الصبر عن محارم الله .
[ قال ]{[1685]} وروي عن الحسن البصري نحو قول عمر .
وقال ابن المبارك عن ابن لَهِيعة عن مالك بن دينار ، عن سعيد بن جبير ، قال : الصبر اعتراف العبد لله بما أصاب فيه ، واحتسابه عند الله ورجاء ثوابه ، وقد يجزع الرجل وهو يتجلد ، لا يرى{[1686]} منه إلا الصبر .
وقال أبو العالية في قوله : { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ } على مرضاة الله ، واعلموا أنها من طاعة الله .
وأما قوله : { وَالصَّلاةِ } فإن الصلاة من أكبر العون على الثبات في الأمر ، كما قال تعالى : { اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } الآية [ العنكبوت : 45 ] .
وقال الإمام أحمد : حدثنا خلف بن الوليد ، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، عن عكرمة بن عمار ، عن محمد بن عبد الله الدؤلي ، قال : قال عبد العزيز أخو حذيفة ، قال حذيفة ، يعني ابن اليمان : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى . ورواه أبو داود [ عن محمد بن عيسى عن يحيى بن زكريا عن عكرمة بن عمار كما سيأتي{[1687]} ]{[1688]} .
وقد رواه ابن جرير ، من حديث ابن جُرَيج ، عن عِكْرِمة بن عمار ، عن محمد بن عبيد بن أبي قدامة ، عن عبد العزيز بن اليمان ، عن حذيفة ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة{[1689]} .
[ ورواه بعضهم عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة ؛ ويقال : أخي حذيفة مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وقال محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة : حدثنا سهل بن عثمان أبو مسعود{[1690]} العسكري ، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة قال : قال عكرمة بن عمار : قال محمد بن عبد الله الدؤلي : قال عبد العزيز : قال حذيفة : رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وهو مشتمل في شملة يصلي ، وكان إذا حزبه أمر صلى{[1691]} . وحدثنا عبيد الله بن معاذ ، حدثنا أبي ، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق سمع حارثة بن مضرب سمع عليا يقول : لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا نائم غير رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويدعو حتى أصبح{[1692]} ]{[1693]} .
قال ابن جرير : وروي عنه ، عليه الصلاة والسلام ، أنه مر بأبي هريرة ، وهو منبطح على بطنه ، فقال له : " اشكنب درد " [ قال : نعم ]{[1694]} قال : " قم فصل فإن الصلاة شفاء " {[1695]} [ ومعناه : أيوجعك بطنك ؟ قال : نعم ]{[1696]} . قال ابن جرير : وقد حدثنا محمد بن العلاء ويعقوب بن إبراهيم ، قالا حدثنا ابن عُلَيَّة ، حدثنا عُيَينة بن عبد الرحمن ، عن أبيه : أن ابن عباس نُعي إليه أخوه قُثَم وهو في سفر ، فاسترجع ، ثم تنحَّى عن الطريق ، فأناخ فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس ، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول : { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ }{[1697]} .
وقال سُنَيد ، عن حجاج ، عن ابن جرير : { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ } قال : إنهما مَعُونتان على رحمة الله .
والضمير في قوله : { وَإِنَّهَا } عائد إلى الصلاة ، نص عليه مجاهد ، واختاره ابن جرير .
ويحتمل أن يكون عائدا على ما يدل عليه الكلام ، وهو الوصية بذلك ، كقوله تعالى في قصة قارون : { وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ } [ القصص : 80 ] وقال تعالى : { وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [ فصلت : 34 ، 35 ]أي : وما يلقى هذه الوصية إلا الذين صبروا { وَمَا يُلَقَّاهَا } أي : يؤتاها ويلهمها { إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }
وعلى كل تقدير ، فقوله تعالى : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ } أي : مشقة ثقيلة إلا على الخاشعين . قال ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني المصدّقين بما أنزل الله . وقال مجاهد : المؤمنين حقا . وقال أبو العالية : إلا على الخاشعين الخائفين ، وقال مقاتل بن حيان : إلا على الخاشعين يعني به المتواضعين . وقال الضحاك : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ } قال : إنها لثقيلة إلا على الخاضعين{[1698]} لطاعته ، الخائفين سَطَواته ، المصدقين بوعده ووعيده .
وهذا يشبه ما جاء في الحديث : " لقد سألت عن عظيم ، وإنه ليسير على من يسره الله عليه " {[1699]} .
وقال ابن جرير : معنى الآية : واستعينوا أيها الأحبار من أهل الكتاب ، بحبس أنفسكم على طاعة الله وبإقامة الصلاة المانعة من الفحشاء والمنكر ، المقربة من رضا الله ، العظيمة إقامتها إلا على المتواضعين لله المستكينين لطاعته المتذللين من مخافته .
هكذا قال ، والظاهر أن الآية وإن كانت خطابًا في سياق إنذار بني إسرائيل ، فإنهم لم يقصدوا بها على سبيل التخصيص ، وإنما هي عامة لهم ، ولغيرهم . والله أعلم .
{ واستعينوا بالصبر والصلاة } متصل بما قبله ، كأنهم لما أمروا بما يشق عليهم لما فيه من الكلفة وترك الرياسة والإعراض عن المال عولجوا بذلك ، والمعنى استعينوا على حوائجكم بانتظار النجاح والفرج توكلا على الله ، أو بالصوم الذي هو صبر عن المفطرات لما فيه من كسر الشهوة ، وتصفية النفس . والتوسل بالصلاة والالتجاء إليها ، فإنها جامعة لأنواع العبادات النفسانية والبدنية ، من الطهارة وستر العورة وصرف المال فيهما ، والتوجه إلى الكعبة والعكوف للعبادة ، وإظهار الخشوع بالجوارح ، وإخلاص النية بالقلب ، ومجاهدة الشيطان ، ومناجاة الحق ، وقراءة القرآن ، والتكلم بالشهادتين وكف النفس عن الأطيبين حتى تجابوا إلى تحصيل المآرب وجبر المصائب ، روي أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة . ويجوز أن يراد بها الدعاء .
{ وإنها } : أي وإن الاستعانة بهما أو الصلاة وتخصيصها برد الضمير إليها ، لعظم شأنها واستجماعها ضروبا من الصبر . أو جملة ما أمروا بها ونهوا عنها .
{ لكبيرة } لثقيلة شاقة كقوله تعالى : { كبر على المشركين ما تدعوهم إليه } .
{ إلا على الخاشعين } أي المخبتين ، والخشوع الإخبات ومنه الخشعة للرملة المتطامنة ، والخضوع اللين والانقياد ، ولذلك يقال الخشوع بالجوارح والخضوع بالقلب .
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ( 45 )
وقوله تعالى : { واستعينوا بالصبر( {[554]} ) والصلاة } قال مقاتل : «معناه على طلب الآخرة » .
وقال غيره : المعنى استعينوا بالصبر عن الطاعات وعن الشهوات على نيل رضوان الله ، وبالصلاة على نيل الرضوان وحط الذنوب ، وعلى مصائب الدهر أيضاً( {[555]} ) ، ومنه الحديث : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كربه أمر فزع إلى الصلاة( {[556]} ) ، ومنه ما روي أن عبد الله بن عباس نعي إليه أخوه قثم ، وهو في سفر ، فاسترجع وتنحى عن الطريق وصلى ثم انصرف إلى راحلته ، وهو يقرأ( {[557]} ) { واستعينوا بالصبر والصلاة } .
وقال مجاهد : الصبر في هذه الآية الصوم ، ومنه قيل لرمضان شهر الصبر ، وخص الصوم والصلاة على هذا القول بالذكر لتناسبهما في أن الصيام يمنع الشهوات ويزهد في الدنيا ، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وتخشع . ويقرأ فيها القرآن الذي يذكر بالآخرة .
وقال قوم : «الصبر » على بابه( {[558]} ) ، { والصلاة } الدعاء ، وتجيء هذه الآية على هذا القول مشبهة لقوله تعالى : { إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله }( {[559]} ) [ الأنفال : 45 ] لأن الثبات هو الصبر ، وذكر الله هو الدعاء .
واختلف المتأولون في قوله تعالى : { وإنها لكبيرة } على أي شيء يعود الضمير ؟ فقيل على { الصلاة }( {[560]} ) ، وقيل على الاستعانة التي يقتضيها قوله { واستعينوا } ، وقيل على العبادة التي يتضمنها بالمعنى ذكر الصبر والصلاة .
وقالت فرقة : على إجابة محمد صلى الله عليه وسلم .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وفي هذا ضعف ، لأنه لا دليل له من الآية عليه .
وقيل : يعود الضمير على الكعبة ، لأن الأمر بالصلاة إنما هو إليها .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذا أضعف من الذي قبله .
و «كبيرة » معناه ثقيلة شاقة( {[561]} ) ، والخاشعون المتواضعون المخبتون ، والخشوع هيئة في النفس يظهر منها على الجوارح سكون وتواضع .
خطاب لبني إسرائيل بالإرشاد إلى ما يعينهم على التخلق بجميع ما عدد لهم من الأوامر والنواهي الراجعة إلى التحلي بالمحامد والتخلي عن المذمات ، له أحسن وقع من البلاغة فإنهم لما خوطبوا بالترغيب والترهيب والتنزيه والتشويه ظن بهم أنهم لم يبق في نفوسهم مسلك للشيطان ولا مجال للخذلان وأنهم أنشأوا يتحفزون للامتثال والائتساء ، إلا أن ذلك الإلف القديم يثقل أرجلهم في الخطو إلى هذا الطريق القويم ، فوصف لهم الدواء الذي به الصلاح وريش بقادمتي الصبر والصلاة منهم الجناح .
فالأمر بالاستعانة بالصبر لأن الصبر ملاك الهدى فإن مما يصد الأمم عن اتباع دين قويم إلفهم بأحوالهم القديمة وضعف النفوس عن تحمل مفارقتها فإذا تدرعوا بالصبر سهل عليهم اتباع الحق . وأما الاستعانة بالصلاة فالمراد تأكد الأمر بها الذي في قوله : { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } [ البقرة : 43 ] وهذا إظهار لحسن الظن بهم وهو طريق بديع من طرق الترغيب .
ومن المفسرين من زعم أن الخطاب في قوله : { واستعينوا } إلخ للمسلمين على وجه الانتقال من خطاب إلى خطاب آخر ، وهذا وهم لأن وجود حرف العطف ينادي على خلاف ذلك ولأن قوله : { إلا على الخاشعين } مراد به إلا على المؤمنين حسبما بينه قوله : { الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم } الآية ، اللهم إلا أن يكون من الإظهار في مقام الإضمار وهو خلاف الظاهر مع عدم وجود الداعي . والذي غرهم بهذا التفسير توهم أنه لا يؤمر بأن يستعين بالصلاة من لم يكن قد آمن بعد وأي عجب في هذا ؟ وقريب منه آنفاً قوله تعالى : { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين } [ البقرة : 43 ] خطاباً لبني إسرائيل لا محالة .
والصبر عرفه الغزالي في « إحياء علوم الدين » بأنه ثبات باعث الدين في مقابلة باعث الشهوة وهو تعريف خاص بالصبر الشرعي صالح لأن يكون تفسيراً للآية لأنها في ذكر الصبر الشرعي ، وأما الصبر من حيث هو الذي هو وصف كمال فهو عبارة عن احتمال النفس أمراً لا يلائمها إما لأن مآله ملائم ، أو لأن عليه جزاء عظيماً فأشبه ما مآله ملائم ، أو لعدم القدرة على الانتقال عنه إلى غيره مع تجنب الجزع والضجر ، فالصبر احتمال وثبات على ما لا يلائم ، وأقل أنواعه ما كان عن عدم المقدرة ولذا ورد في « الصحيح » : " إنما الصبر عند الصدمة الأولى " أي الصبر الكامل هو الذي يقع قبل العلم بأن التفصي عن ذلك الأمر غير ممكن وإلا فإن الصبر عند اعتقاد عدم إمكان التفصي إذا لم يصدر منه ضجر وجزع هو صبر حقيقة . فصيغة الحصر في قوله « إنما الصبر » حصر ادعائي للكمال كما في قولهم أنت الرجل .
والصلاة أريد بها هنا معناها الشرعي في الإسلام وهي مجموع محامد لله تعالى ، قولاً وعملاً واعتقاداً فلا جرم كانت الاستعانة المأمور بها هنا راجعة لأمرين : الصبر والشكر .
وقد قيل إن الإيمان نصفه صبر ونصفه شكر كما في « الإحياء » وهو قول حسن ، ومعظم الفضائل ملاكها الصبر إذ الفضائل تنبعث عن مكارم الخلال ، والمكارم راجعة إلى قوة الإرادة وكبح زمام النفس عن الإسامة في شهواتها بإرجاع القوتين الشهوية والغضبية عما لا يفيد كمالاً أو عما يورث نقصاناً فكان الصبر ملاك الفضائل فما التحلم والتكرم والتعلم والتقوى والشجاعة والعدل والعمل في الأرض ونحوها إلا من ضروب الصبر . ومما يؤثر عن علي رضي الله عنه : الشجاعة صبر ساعة . وقال زفر بن الحارث الكلابي يعتذر عن انهزام قومه :
سقيناهم كاساً سقونا بمثلها *** ولكنهم كانوا على الموت أصبرا
وحسبك بمزية الصبر أن الله جعله مكمل سبب الفوز في قوله تعالى : { والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحوا وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } [ العصر : 1 - 3 ] وقال هنا : { واستعينوا بالصبر والصلاة } . قال الغزالي : ذكر الله الصبر في القرآن في نيف وسبعين موضعاً وأضاف أكثر الخيرات والدرجات إلى الصبر وجعلها ثمرة له ، فقال عز من قائل : { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا } [ السجدة : 24 ] . وقال : { وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا } [ الأعراف : 137 ] وقال : { إن الله مع الصابرين } [ البقرة : 152 ] اهـ .
وأنت إذا تأملت وجدت أصل التدين والإيمان من ضروب الصبر فإن فيه مخالفة النفس هواها ومألوفها في التصديق بما هو مغيب عن الحس الذي اعتادته ، وبوجوب طاعتها واحداً من جنسها لا تراه يفوقها في الخلقة وفي مخالفة عادة آبائها وأقوامها من الديانات السابقة . فإذا صار الصبر خلقاً لصاحبه هون عليه مخالفة ذلك كله لأجل الحق والبرهان فظهر وجه الأمر بالاستعانة على الإيمان وما يتفرع عنه بالصبر فإنه خلق يفتح أبواب النفوس لقبول ما أمروا به من ذلك .
وأما الاستعانة بالصبر فلأن الصلاة شكر والشكر يذكر بالنعمة فيبعث على امتثال المنعم على أن في الصلاة صبراً من جهات في مخالفة حال المرء المعتادة ولزومه حالة في وقت معين لا يسوغ له التخلف عنها ولا الخروج منها على أن في الصلاة سراً إلاهياً لعله ناشىء عن تجلي الرضوان الرباني على المصلي فلذلك نجد للصلاة سراً عظيماً في تجلية الأحزان وكشف غم النفس وقد ورد في الحديث " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه ( بزاي وباء موحدة أي نزل به ) أمر فزع إلى الصلاة " وهذا أمر يجده من راقبه من المصلين وقال تعالى : { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } [ العنكبوت : 4 5- ] لأنها تجمع ضروباً من العبادات .
وأما كون الشكر من حيث هو معيناً على الخير فهو من مقتضيات قوله تعالى : { لئن شكرتم لأزيدنكم } [ إبراهيم : 7 ] .
وقوله : { وإنها لكبيرة } اختلف المفسرون في معاد ضمير { إنها } فقيل عائد إلى الصلاة والمعنى إن الصلاة تصعب على النفوس لأنها سجن للنفس وقيل الضمير للاستعانة بالصبر والصلاة المأخوذة من { استعينوا } على حد{ اعدلوا هو أقرب للتقوى } [ المائدة : 8 ] . وقيل راجع إلى المأمورات المتقدمة من قوله تعالى : { اذكروا نعمتي } [ البقرة : 40 ] إلى قوله { واستعينوا بالصبر والصلاة } [ البقرة : 45 ] وهذا الأخير مما جوزه صاحب « الكشاف » ولعله من مبتكراته وهذا أوضح الأقوال وأجمعها والمحامل مُرادة .
والمراد بالكبيرة هنا الصعبة التي تشق على النفوس ، وإطلاق الكبر على الأمر الصعب والشاق مجاز مشهور في كلام العرب لأن المشقة من لوازم الأمر الكبير في حمله أو تحصيله قال تعالى : { وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله } [ البقرة : 143 ] وقال : { وإن كان كبر عليك إعراضهم } [ الأنعام : 35 ] الآية . وقال : { كبر على المشركين ما تدعوهم إليه } [ الشورى : 13 ] .
وقوله : { إلا على الخاشعين } أي الذين اتصفوا بالخشوع ، والخشوع لغة هو الانزواء والانخفاض قال النابغة :
ونُؤْيٌ كجِذْم الحَوْض أَثلم خَاشِع ***
أي زال ارتفاع جوانبه . والتذلل خشوع ، قال جعفر بن عبلة الحارثي :
فلا تحسبي أني تَخَشعت بعدكم *** لِشْيءٍ ولا أني من الموت أفرق
وهو مجاز في خشوع النفس وهو سكون وانقباض عن التوجه إلى الإباية أو العصيان .
والمراد بالخاشع هنا الذي ذلل نفسه وكسر سورتها وعودها أن تطمئن إلى أمر الله وتطلب حسن العواقب وأن لا تغتر بما تزينه الشهوة الحاضرة فهذا الذي كانت تلك صفته قد استعدت نفسه لقبول الخير . وكأن المراد بالخاشعين هنا الخائفون الناظرون في العواقب فتخف عليهم الاستعانة بالصبر والصلاة مع ما في الصبر من القمع للنفس وما في الصلاة من التزام أوقات معينة وطهارة في أوقات قد يكون للعبد فيها اشتغال بما يهوى أو بما يحصِّل منه مالاً أو لذة . وقريب منه قول كثير :
فقلت لها يا عز كل مصيبة *** إذا وُطنت يوماً لها النفس ذلت
وأحسب أن مشروعية أحكام كثيرة قصد الشارع منها هذا المعنى وأعظمها الصوم .
ولا يصح حمل الخشوع هنا على خصوص الخشوع في الصلاة بسبب الحال الحاصل في النفس باستشعار العبد الوقوف بين يدي الله تعالى حسبما شرحه ابن رشد في أول مسألة من كتاب الصلاة الأول من « البيان والتحصيل » وهو المعنى المشار إليه بقوله تعالى : { قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون } [ المؤمنون : 1 ، 2 ] ، فإن ذلك كله من صفات الصلاة وكمال المصلي فلا يصح كونه هو المخفف لكلفة الصلاة على المستعين بالصلاة كما لا يخفى .