ثم حكى القرآن لوناً من ألوان المزاعم الباطلة التي درج عليها أهل الكتاب ، ورد عليها بما يبطلها فقال : { وَأَقِيمُواْ الصلاة . . . }
الضمير في { قَالُواْ } يعود على أهل الكتاب من الفريقين .
والهود : جمع هائد أي متبع اليهودية وقدمهم القرآن الكريم على النصارى لتقدمهم في الزمان .
والمعنى : وقالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً ، وقالت النصارى لن يدخلها إلا من كان نصرانياً ، إلا أن الآية الكريمة سلكت في طريق الإِخبار عما زعموه مسلك الإِيجاز ، فحكت القولين في جملة واحدة ، وعطفت أحد الفريقين على الآخر بحرف " أو " ثقة بفهم السامع ، وأمنا من اللبس ، لما عرف من التعادي بين الفريقين ، وتضليل كل واحد منهما لصاحبه ، ونظير هذه الآية قوله تعالى حكاية عنهم { وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ } أي : قالت اليهود : كونوا هودا تهتدوا ، وقالت النصارى : كونوا نصارى تهتدوا .
ولذا قال الإِمام ابن جرير : " فإن قال قائل : وكيف جمع اليهود والنصارى في هذا الخبر مع اختلاف مقالة الفريقين ، واليهود تدفع النصارى عن أن يكون لها في ثواب الله نصيب ، والنصارى تدفع اليهود عن مثل ذلك ؟
قيل : إن معنى ذلك بخلاف الذي ذهبت إليه ، وإنما عني به وقالت اليهود : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا ، وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلا النصارى ، ولكن معنى الكلام لما كان مفهوماً عند المخاطبين به جمع الفريقان في الخبر عنهما فقيل : { وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى } .
وقوله تعالى : { تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ } جملة معترضة قصد بها بيان أن ما يدعونه من أن الجنة خاصة بهم ، ما هو إلا أماني منهم يتمنونها على الله بغير حق ولا برهان . سولتها لهم أنفسهم التي استحوذ عليها الشيطان فخدعها بالأباطيل والأكاذيب .
واسم الإِشارة { تِلْكَ } مشار به إلى ما تضمنه قوله تعالى : { وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى } وهو يتضمن أماني كثيرة : منها ، أن اليهود أمنيتهم أنه لن يدخل الجنة غيرهم ، والنصارى كذلك أمنيتهم أنهم هم وحدهم أصحاب الجنة ، وكلا الفريقين يعتقد أن المسلمين ليسوا أهلالها ، ولهذا جاء خبر اسم الإِشارة جمعاً فقال تعالى { تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ } .
ويرى صاحب الكشاف أنه المشار إليه أمور قد تعددت لفظاً وحكاها القرآن عنهم في قوله { مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب وَلاَ المشركين أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ } وفي قوله : { وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } وفي قوله : { وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى } ، وعبارته :
فإن قلت : لم قيل { تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ } وقولهم لن يدخل الجنة أمنية واحدة ؟ قلت : أشير بها إلى الأماني المذكورة وهو إمنيتهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم ، وأمنيتهم أن يردوهم كفاراً ، وأمنيتهم ألا يدخل الجنة غيرهم .
أي تلك الأماني الباطلة أمانيهم .
ويرى صاحب الانتصاف : أن المشار إليه واحد وهو قولهم { وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى } وجمع لإِفادة أن تلك الأمنية قد تمكنت من نفوسهم وأشربتها قلوبهم . فقال : والجواب القريب أنهم لشدة تمنيهم لهذه الأمنية ، ومعاودتهم لها ، وتأكدها في نفوسهم جمعت ليفيد جمعها أنها متأكدة في قلوبهم بالغة منهم كل مبلغ ، والجمع يفيد ذلك ، وإن كان مؤداه واحداً ونظيره قولهم : معي جياع ، فجمعوا الصفة ومؤداها واحد ، لأن موصوفها واحد ، تأكيداً لثبوتها وتمكنها ، وهذا المعني أحد ما روى في قوله تعالى : { إِنَّ هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ } فإنه جمع " قليلا " وقد كان الأصل إفراده فيقال " لشرذمة قليلة " كقوله تعالى { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ } لولا ما قصد إليه من تأكيد القلة بجمعها ، ووجه إفادة الجمع في مثل هذا التأكيد ، أن الجمع يفيد بوضعه الزيادة في الآحاد فنقل إلى تأكيد الواحد ، وإبانته زيادة على نظرائه ، نقلا مجازياً بديعاً فتدبر هذا الفصل فإنه من نفائس صناعة البيان والله المرفق " .
ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يطالبهم بالدليل على صحة ما يدعون ، فقال تعالى { قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } .
أي قل - يا محمد - لهؤلاء الزاعمين أن الجنة لهم خاصة من دون الناس ، هاتوا حجتكم على خلوص الجنة لكم ، إن كنتم صادقين في دعواكم ، لأنه لما كانت دعواهم الاختصاص بدخول الجنة لا تثبت إلا بوحي من الله وليس المجرد المني ، أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يطالبهم بالدليل من كتبهم على صحة دعواهم ، وهذه المطالبة من قبيل التعجيز لأن كتبهم خالية مما يدل على صحتها .
قال الإِمام ابن جرير : " وهذا الكلام وإن كان ظاهره دعاء القائلين { لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى } إلى إحضار حجة على دعواهم ، فإنه بمعنى التكذيب من الله لهم في دعواهم وقيلهم ، لأنهم ليسوا بقادرين على إحضار برهان على دعواهم تلك أبداً " .
هذا ، ويؤخذ من الآية الكريمة بطلان التقليد في أمور الدين ، وهو قبول قول الغير مجرداً من الدليل ، فلا ينبغي للإِنسان أن يقرر رأياً في الدين إلا أن يسنده إلى دليل ، كما أنه لا يقبل من غيره قولا إلا أن يكون مؤيداً بدليل .
أما عدم صحة التقليد في أصول الدين : أي فيما يرجع إلى حقيقة الإِيمان فالأمر فيه جلى ، لأنه يكتفي في إيمان الشخص بأي دليل ينشرح به صدره للإِسلام ، وتحصل له به الطمأنينة ، كأن يستمد إيمانه بالله من التنبيه لحكة الله في إتقان المخلوقات ، أو في رعاية اللطف والرفق بالإِنسان ، ويستمد إيمانه بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم من الاستماع إلى القرآن الكريم ، أو من سيرته التي لم يظهر بمثلها أو بما يقرب منها بشر غير رسول ، والقصد أن لا يكون إسلامه لمجرد أنه في بيئة إسلامية أو ولد من أب وأم مسلمين .
وأما التقليد في الفروع أي في الأحكام العملية ، فالناس بالنظر إلى القدرة على تمييز الخطأ من الصواب درجات ، فمن له قدرة على فهم الأدلة ومعرفة الراجح من الأحكام ، لا يجوز أن يتلقى الحكم من غيره إلا مقروناً بدليل ، وإن كان قاصراً عن هذه الدرجة أخذ بما يفتيه به العالم المشهود له بالرسوخ في علم الشريعة ، والمعروف بالمحافظة على لباس التقوى ما استطاع " .
ثم يمضي في تفنيد دعاوى أهل الكتاب عامة : اليهود والنصارى ، وقولهم : إنهم هم المهتدون وحدهم ! وإن الجنة وقف عليهم لا يدخلها سواهم ! على حين يجبه كل فريق منهم الآخر بأنهم ليسوا على شيء ! ويقرر في ثنايا عرض هذه الدعاوى العريضة حقيقة الأمر ، ويقول كلمة الفصل في العمل والجزاء :
( وقالوا : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى . تلك أمانيهم . قل : هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين . بلى ! من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون . وقالت اليهود : ليست النصارى على شيء ، وقالت النصارى : ليست اليهود على شيء - وهم يتلون الكتاب - كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم . فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ) . .
والذين كانوا يواجهون المسلمين في المدينة كانوا هم اليهود ؛ إذ لم تكن هناك كتلة من النصارى تقف مواقف اليهود . ولكن النص هنا عام يواجه مقولات هؤلاء وهؤلاء . ثم يجبه هؤلاء بهؤلاء ! ويحكي رأي المشركين في الطائفتين جميعا !
( وقالوا : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) . .
وهذه حكاية قوليهم مزدوجة . وإلا فقد كانت اليهود تقول : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا - أي من يهود - وكانت النصارى تقول : لن يدخل الجنة إلا من كان من النصارى . .
وهذه القولة كتلك ، لا تستند إلى دليل ، سوى الادعاء العريض ! ومن ثم يلقن الله رسوله [ ص ] أن يجبههم بالتحدي وأن يطالبهم بالدليل :
يبين تعالى اغترار اليهود والنصارى بما هم فيه ، حيث ادعت كل طائفة من اليهود والنصارى أنه لن يدخل الجنة إلا من كان على ملتها ، كما أخبر الله عنهم في سورة المائدة أنهم قالوا : { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] . فأكذبهم الله تعالى بما أخبرهم أنه معذبهم بذنوبهم ، ولو كانوا كما ادعوا لما كان الأمر كذلك ، وكما تقدم من{[2530]} دعواهم أنه لن تمسهم النار إلا أياما معدودة ، ثم ينتقلون إلى الجنة . وردَّ عليهم تعالى في ذلك ، وهكذا قال لهم في هذه الدعوى التي ادعوها بلا دليل ولا حجة
ولا بينة ، فقال { تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ }
وقال أبو العالية : أماني تمنوها على الله بغير حق . وكذا قال قتادة والربيع بن أنس .
ثم قال : { قُلْ } أي : يا محمد ، { هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ }
وقال أبو العالية ومجاهد والسدي والربيع بن أنس : حجتكم . وقال قتادة : بينتكم على ذلك . { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } كما تدعونه{[2531]} .
{ وقالوا } عطف على { ود } ، والضمير لأهل الكتاب من اليهود والنصارى . { لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى } لف بين قولي الفريقين كما في قوله تعالى : { وقالوا كونوا هودا أو نصارى } ثقة بفهم السامع ، وهود جمع هائد كعوذ وعائذ ، وتوحيد الاسم المضمر في كان ، وجمع الخبر لاعتبار اللفظ والمعنى . { تلك أمانيهم } إشارة إلى الأماني المذكورة ، وهي أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم ، وأن يردوهم كفارا ، وأن لا يدخل الجنة غيرهم ، أو إلى ما في الآية على حذف المضاف أي أمثال تلك الأمنية أمانيهم ، والجملة اعتراض والأمنية أفعولة من التمني كالأضحوكة والأعجوبة . { قل هاتوا برهانكم } على اختصاصكم بدخول الجنة . { إن كنتم صادقين } في دعواكم فإن كل قول لا دليل عليه غير ثابت .