ثم أرشدهم - سبحانه - إلى لون ثالث من الأدب السامى ، فناداهم للمرة الثالثة بقوله : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرسول فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
والمراد بقوله - تعالى - { إِذَا نَاجَيْتُمُ } : إذا أردتم المناجاة ، كما فى قوله - تعالى - { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة } والمراد بقوله : { بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ } أى : قبل مناجاتكم للرسول - صلى الله عليه وسلم - بقليل ، والكلام من باب الاستعارة التمثيلية . حيث شبهت هيئة قرب الشىء من آخر بهيئة وصول الشخص إلى من يريد الوصول إليه ، على سبيل تشبيه المعقول بالمحسوس .
واسم الإشارة فى قوله : { ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ } يعود إلى تقديم الصدقة ، والجملة بمنزلة التعليل للأمر بتقديمها .
والمعنى : يا من آمنتم بالله - تعالى - حق الإيمان ، إذا أردتم مناجاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والحديث معه فى أمر ما على سبيل السر ، فقدموا صدقة للفقراء قبل مناجاته - صلى الله عليه وسلم - فذلك التقديم خير لكم لما فيه من الثواب ، وأكثر طهرا لنفوسكم ، فإن لم تجدوا شيئا تتصدقون به قبل مناجاتكم له - صلى الله عليه وسلم - فلا تحزنوا فإن الله - تعالى - واسع المغفرة والرحمة .
وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات ، منها : ما جاء عن ابن عباس - رضى الله عنهما - أنه قال : نزلت بسبب أن المسلمين كانوا يكثرون المسائل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه ، فأراد الله - تعالى - أن يخفف عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - فلما نزلت هذه الآية ، كف كثير من الناس ، ثم وسع الله عليهم بالآية التى بعدها .
وقال بعض العلماء : إن هذا الأمر قد اشتمل على فوائد كثيرة :
منها : تعظيم أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإكبار شأن مناجاته ، كأنها شىء لا ينال بسهولة .
ومنها : التخفيف عن النبى - صلى الله عليه وسلم - بالتقليل من المناجاة ، حتى يتفرغ - صلى الله عليه وسلم - للمهام العظمى التى كلفه - سبحانه - بها .
ومنها : تهوين الأمر على الفقراء الذين قد يغلبهم الأغنياء على مجلس الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنهم إذا علموا أن قرب الأغنياء من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومناجاتهم له ، تسبقها الصدقة ، لم يضجروا .
ومنها : عدم شغل الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما لا يكون مهما من الأمور ، فيتفرغ للرسالة ، فإن الناس وقد جبلوا على الشح بالمال ، يقتصدون فى المناجاة التى تسبقها الصدقة .
ومنها : تمييز محب الدنيا من محب الآخرة ، فإن المال محك الدواعى .
كذلك يعلمهم القرآن أدبا آخر في علاقتهم برسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فيبدو أنه كان هناك تزاحم على الخلوة برسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ليحدثه كل فرد في شأن يخصه ؛ ويأخذ فيه توجيهه ورأيه ؛ أو ليستمتع بالانفراد به مع عدم التقدير لمهام رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] الجماعية ؛ وعدم الشعور بقيمة وقته ، وبجدية الخلوة به ، وأنها لا تكون إلا لأمر ذي بال . فشاء الله أن يشعرهم بهذه المعاني بتقرير ضريبة للجماعة من مال الذي يريد أن يخلو برسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ويقتطع من وقته الذي هو من حق الجماعة . في صورة صدقة يقدمها قبل أن يطلب المناجاة والخلوة :
( يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة . ذلك خير لكم وأطهر . فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم ) . .
وقد عمل بهذه الآية الإمام علي - كرم الله وجهه - فكان معه - كما روي عنه - دينار فصرفه دراهم . وكان كلما أراد خلوة برسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لأمر تصدق بدرهم ! ولكن الأمر شق على المسلمين . وعلم الله ذلك منهم . وكان الأمر قد أدى غايته ، وأشعرهم بقيمة الخلوة التي يطلبونها .
يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين إذا أراد أحدهم أن يناجي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي : يساره فيما بينه وبينه ، أن يقدم بين يدي ذلك صدقة تطهره وتزكيه وتؤهله لأن يصلح لهذا المقام ؛ ولهذا قال :{ ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ } {[28450]} ، ثم قال :{ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا } أي : إلا من عجز عن ذلك لفقده{ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فما أمر بها إلا من قدر عليها .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرّسُولَ فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لّمْ تَجِدُواْ فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : ياأيها الذين صدقوا الله ورسوله ، إذا ناجيتم رسول الله ، فقدّموا أمام نجواكم صدقة تتصدّقون بها على أهل المسكنة والحاجة ذَلكَ خَيْرٌ لَكُمْ يقول : وتقديمكم الصدقة أمام نجواكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خير لكم عند الله وأطْهَرُ لقلوبكم من المآثم ، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
حدثني محمد بن عمر ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : { فَقَدّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً }قال : نُهُوا عن مناجاة النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى يتصدّقوا ، فلم يناجه إلا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، قدّم دينارا فتصدّق به ، ثم أنزلت الرّخصة في ذلك .
حدثنا محمد بن عبيد بن محمد المحاربي ، قال : حدثنا المطلب بن زياد ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : قال عليّ رضي الله عنه : إن في كتاب الله عزّ وجلّ لاَية ما عمل بها أحد قبلي ، ولا يعمل بها أحد بعدي : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا ناجَيْتُمُ الرّسُولَ فَقَدّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَة }قال : فُرضت ، ثم نُسخت .
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن شبل بن عباد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا ناجَيْتُمُ الرّسُولَ فَقَدّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَة }قال : نهوا عن مناجاة النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى يتصدّقوا ، فلم يناجه إلا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، قدّم دينارا صدقةً تصدّق به ، ثم أنزلت الرخصة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت ليثا ، عن مجاهد ، قال : قال عليّ رضي الله عنه : آية من كتاب الله لم يعمل بها أحد قبلي ، ولا يعمل بها أحد بعدي ، كان عندي دينار فصرفته بعشرة دراهم ، فكنت إذا جئت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم تصدقت بدرهم ، فنسخت فلم يعمل بها أحد قبلي { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا ناجَيْتُمُ الرّسُولَ فَقَدّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَة } .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا ناجَيْتُمُ الرّسُولَ فَقَدّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً }قال : سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة ، فوعظهم الله بهذه الآية . وكان الرجل تكون له الحاجة إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فلا يستطيع أن يقضيها حتى يقدّم بين يديه صدقة ، فاشتد ذلك عليهم ، فأنزل الله عزّ وجل الرخصة بعد ذلك { فإنْ لَمْ تَجِدُوا فإنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة { إذَا ناجَيْتُمُ الرّسُولَ فَقَدّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً }قال : إنها منسوخة ما كانت إلا ساعة من نهار .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا ناجَيْتُمُ الرّسُولَ فَقَدّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً . . . إلى فإنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }قال : كان المسلمون يقدّمُونَ بين يدي النجوى صدقة ، فلما نزلت الزكاة نُسخ هذا .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : { فَقَدّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً }وذاك أن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه ، فأراد الله أن يخفف عن نبيه فلما قال ذلك صبر كثير من الناس ، وكفوا عن المسألة ، فأنزل الله بعد هذا { فإذَا لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللّهُ عَلَيْكُمْ فأَقِيمُوا الصّلاةَ وآتُوا الزّكاةَ } فوسّع الله عليهم ، ولم يضيق .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن عثمان بن أبي المغيرة ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن عليّ بن علقمة الأنماريّ ، عن عليّ ، قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «ما تَرَى ؟ دِينارٌ ؟ » قال : لا يطيقون ، قال : «نِصْفُ دِينارٍ ؟ » قال : «ما تَرَى ؟ » قال : شعيرة ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إنّكَ لَزَهِيدٌ » قال عليّ رضي الله عنه : فبي خفف الله عن هذه الأمة ، وقوله : { إذَا ناجَيْتُمُ الرّسُولَ فَقَدّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً }فنزلت { أأشْفَقْتُمْ أنْ تُقدّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقاتٍ } .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا ناجَيْتُمُ الرّسُولَ فَقَدّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } لئلا يناجي أهل الباطل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيشُقّ ذلك على أهل الحقّ ، قالوا : يا رسول الله ما نستطيع ذلك ولا نطيقه ، فقال الله عزّ وجلّ : { أأشْفَقْتُمْ أنْ تُقدّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقاتٍ فإذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللّهُ عَلَيْكُمْ فأقِيمُوا الصّلاَةَ وآتُوا الزّكاةَ } وقال : { لا خَيْرَ في كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ ، إلاّ مَنْ أمَرَ بِصدَقَةٍ أوْ مَعْرُوفٍ أوْ إصْلاحٍ بَيْنَ النّاسِ } ، من جاء يناجيك في هذا فاقبل مناجاته ، ومن جاء يناجيك في غير هذا فاقطع أنت ذاك عنه لا تناجه . قال : وكان المنافقون ربما ناجوا فيما لا حاجة لهم فيه ، فقال الله عزّ وجلّ : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ نَهُوا عَنِ النّجْوَى ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بالإثْم والعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرّسُولِ }قال : لأن الخبيث يدخل في ذلك .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة والحسن البصري قالا : قال في المجادلة : { إذَا ناجَيْتُمُ الرّسُولَ فَقَدّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَة ذلكَ خَيْرٌ لَكُمْ وأطْهَرُ فإنْ لَمْ تَجدُوا فإنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }فنسختها الآية التي بعدها ، فقال : { أأشْفَقْتُمْ أنْ تُقدّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقاتٍ فإذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللّهُ عَلَيْكُمْ فأقِيمُوا الصّلاة وآتُوا الزّكاةَ وأطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } .
وقوله : { فإنْ لَمْ تَجِدُوا }يقول تعالى ذكره : فإن لم تجدوا ما تتصدّقُون به أمام مناجاتكم رسول الله صلى الله عليه وسلم { فإنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }يقول : فإن الله ذو عفو عن ذنوبكم إذا تبتم منها ، رحيم بكم أن يعاقبكم عليها بعد التوبة ، وغير مؤاخذكم بمناجاتكم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تقدّموا بين يدي نجواكم إياه صدقة .
استئناف ابتدائي عاد به إلى ذكر بعض أحوال النجوى وهو من أحوالها المحمودة . والمناسبة هي قوله تعالى : { وتناجوا بالبر والتقوى } [ المجادلة : 9 ] . فهذه الصدقة شرعها الله تعالى وجعل سببها مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم فذكرت عقب آي النجوى لاسْتيفاء أنواع النجوى من محمود ومذموم . وقد اختلف المتقدمون في سبب نزول هذه الآية ، وحكمة مشروعية صدقة المناجاة . فنقلت عن ابن عباس وقتادة وجابر بن زياد وزيد بن أسلم ومقاتل أقوال في سبب نزولها متخالفة ، ولا أحسبهم يريدون منها إلا حكاية أحوال للنجوى كانت شائعة ، فلما نزل حكم صدقة النجوى أقلّ الناس من النجوى . وكانت عبارات الأقدمين تجري على التسامح فيطلقون على أمثلة الأحكام وجزئيات الكليات اسمَ أسباب النزول ، كما ذكرناها في المقدمة الخامسة من مقدمات هذا التفسير ، وأمسك مجاهد فلم يذكر لهذه الآية سبباً واقتصر على قوله : نهوا عن مناجاة الرسول حتى يتصدّقُوا .
والذي يظهر لي : أن هذه الصدقة شرعها الله وفرضها على من يجد ما يتصدق به قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وأسقطها عن الذين لا يجدون ما يتصدقون به ، وجعل سببها ووقتَها هو وقت توجههم إلى مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وكان المسلمون حريصين على سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمور الدين كل يوم فشرع الله لهم هذه الصدقة كل يوم لنفع الفقراء نفعاً يومياً ، وكان الفقراء أيامئذٍ كثيرين بالمدينة منهم أهل الصُفّة ومعظم المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم .
والأظهر أن هذه الصدقة شرعت بعد الزكاة فتكون لحكمة إغناء الفقراء يوماً فيوماً لأن الزكاة تدفع في رؤوس السنين وفي مُعيَّن الفصول ، فلعل ما يصل إلى الفقراء منها يستنفدونه قبل حلول وقت الزكاة القابلة .
وعن ابن عباس : أن صدقة المناجاة شرعت قبل شرع الزكاة ونسخت بوجوب الزكاة ، وظاهر قوله في الآية التي بعدها { فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } [ المجادلة : 13 ] أن الزكاة حينئذٍ شَرْع مفرد معلوم ، ولعل ما نقل عن ابن عباس إن صح عنه أراد أنها نسخت بالاكتفاء بالزكاة .
وقد تعددت أخبار مختلفة الأسانيد تتضمن أن هذه الآية لم يدم العمل بها إلا زمناً قليلاً ، قيل : إنه عشرة أيام . وعن الكلبي قال : كان ساعة من نهار ، أي أنها لم يدم العمل بها طويلاً إن كان الأمر مراداً به الوجوب وإلا فإن ندب ذلك لم ينقطع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لتكون نفس المؤمن أزكى عند ملاقاة النبي مثل استحباب تجديد الوضوء لكل صلاة .
وتضافرت كلمات المتقدمين على أن حكم الأمر في قوله : { فقدموا بين يدي نجواكم صدقة } قد نسخه قوله : { فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم } [ المجادلة : 13 ] الآية .
وهذا مؤذن بأن الأمر فيها للوجوب . وفي تفسير القرطبي وأحكام ابن الفرس حكاية أقوال في سبب نزول هذه الآية تحوم حول كون هذه الصدقة شرعت لصرف أصناف من الناس عن مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم إذ كانوا قد ألحَفُوا في مناجاته دون داع يدعوهم فلا ينثلج لها صدر العالم لضعفها سنداً ومعنى ، ومنافاتها مقصد الشريعة . وأقرب ما روي عن خبر تقرير هذه الصدقة ما في « جامع الترمذي » عن علي بن علقمة الأنماري عن علي بن أبي طالب قال : لما نزلت { يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة } قال لي النبي صلى الله عليه وسلم " ما ترى ديناراً ؟ قلت : لا يطيقونه ، قال فنصف دينار ؟ قلت : لا يطيقونه . قال : فكم ؟ قلت : شعيرة " قال الترمذي : أي وزن شعيرة من ذهب . قال : إنك لزهيد فنزلت : { أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات } [ المجادلة : 13 ] الآية . قال : « فبي خفف الله عن هذه الأمة » . قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، إنما نعرفه من هذا الوجه اه .
قلت : علي بن علقمة الأنماري قال البخاري : في حديثه نظر ، ووثقه ابن حبان . وقال ابن الفرس : صححوا عن علي أنه قال : « ما عمل بها أحد غيري » . وساق حديثاً .
ومحمل قول علي « فبي خفف الله عن هذه الأمة » ، أنه أراد التخفيف في مقدار الصدقة من دينار إلى زنة شعيرة من ذهب وهي جزء من اثنين وسبعين جزءاً من أجزاء الدينار .
وفعل { ناجيتم } مستعمل في معنى إرادة الفعل كقوله : { يأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } [ المائدة : 6 ] الآية . وقوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } [ النحل : 98 ] .
والقرينة قوله : { فقدموا بين يدي نجواكم } .
والجمهور على أن الأمر في قوله : { فقدموا } للوجوب ، واختاره الفخر ورجحه بأنه الأصل في صيغة الأمر ، وبقوله : { فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم } فإن ذلك لا يقال إلا فيما بفقده يزول الوجوب . ويناسب أن يكون هذا هو قول من قال : إن هذه الصدقة نسخت بفرض الزكاة ، وهو عن ابن عباس . وقال فريق : الأمر للندب وهو يناسب قول من قال : إن فرض الزكاة كان سابقاً على نزول هذه الآية فإن شرع الزكاة أبطَل كلَّ حقّ كان واجباً في المال .
و { بين يدي نجواكم } معناه : قبل نجواكم بقليل ، وهي استعارة تمثيلية جرت مجرى المثل للقرب من الشيء قبيل الوصول إليه . شبهت هيئة قرب الشيء من آخر بهيئة وصول الشخص بين يدي من يرد هو عليه تشبيه معقول بمحسوس .
ويستعمل في قرب الزمان بتشبيه الزمان بالمكان كما هنا وهو كقوله تعالى : { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } وقد تقدم في سورة [ البقرة : 255 ] .
والإِشارة بـ{ ذلك خير لكم } إلى التقديم المفهوم من « قدموا » على طريقة قوله : { اعدلوا هو أقرب للتقوى } [ المائدة : 8 ] .
وقوله : { ذلك خير لكم وأطهر } تعريف بحكمة الأمر بالصدقة قبل نجوى الرسول صلى الله عليه وسلم ليرغب فيها الراغبون .
و{ خير } يجوز أن يكون اسم تفضيل ، أصله : أَخْير وهو المزاوج لقوله : { وأطهر } أي ذلك أشد خيرية لكم من أن تناجوا الرسول صلى الله عليه وسلم بدون تقديم صدقة ، وإن كان في كلّ خير . كقوله : { وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم } [ البقرة : 271 ] .
ويجوز أن يكون اسماً على وزن فَعْل وهو مقابل الشَّر ، أي تقديم الصدقة قبل النجوى فيه خير لكم وهو تحصيل رضى الله تعالى في حين إقبالهم على رسوله صلى الله عليه وسلم فيحصل من الانتفاع بالمناجاة ما لا يحصل مثله بدون تقديم الصدقة .
وأما { أطهر } فهو اسم تفضيل لا محالة ، أي أطْهر لكم بمعنى : أشد طهراً ، والطهر هنا معنوي ، وهو طهر النفس وزكاؤها لأن المتصدق تتوجه إليه أنوار ربانية من رضى الله عنه فتكون نفسه زكية كما قال تعالى : { تطهرهم وتزكيهم بها } [ التوبة : 103 ] . ومنه سميت الصدقة زكاة .
وصفة هذه الصدقة أنها كانت تعطى للفقير حين يعمد المسلم إلى الذهاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليناجيه .
وعذَر الله العاجزين عن تقديم الصدقة بقوله : { فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم } أي فإن لم تجدوا ما تتصدقون به قبل النجوى غفر الله لكم المغفرةَ التي كانت تحصل لكم لو تصدقتم لأن من نوى أن يفعل الخير لو قدر عليه كان له أجر على نيته .
وأما استفادة أن غير الواجد لا حرج عليه في النجوى بدون صدقة فحاصلة بدلالة الفحوى لأنه لا يترك مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن إرادة مناجاته الرسول صلى الله عليه وسلم ليست عبثاً بل لتحصيل علم من أمور الدين .
وأما قوله : { رحيم } فهو في مقابلة ما فات غير الواجد ما يتصدق به من تزكية النفس إشعاراً له بأن رحمة الله تنفعه .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، إذا ناجيتم رسول الله، فقدّموا أمام نجواكم صدقة تتصدّقون بها على أهل المسكنة والحاجة.
"ذَلكَ خَيْرٌ لَكُمْ" يقول: وتقديمكم الصدقة أمام نجواكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، خير لكم عند الله وأطْهَرُ لقلوبكم من المآثم... عن قتادة {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا ناجَيْتُمُ الرّسُولَ فَقَدّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} قال: سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة، فوعظهم الله بهذه الآية. وكان الرجل تكون له الحاجة إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، فلا يستطيع أن يقضيها حتى يقدّم بين يديه صدقة، فاشتد ذلك عليهم، فأنزل الله عزّ وجل الرخصة بعد ذلك {فإنْ لَمْ تَجِدُوا فإنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}... عن ابن عباس، قوله: {فَقَدّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} وذاك أن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه، فأراد الله أن يخفف عن نبيه فلما قال ذلك صبر كثير من الناس، وكفوا عن المسألة، فأنزل الله بعد هذا {فإذَا لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللّهُ عَلَيْكُمْ فأَقِيمُوا الصّلاةَ وآتُوا الزّكاةَ} فوسّع الله عليهم، ولم يضيق.
وقوله: {فإنْ لَمْ تَجِدُوا} يقول تعالى ذكره: فإن لم تجدوا ما تتصدّقُون به أمام مناجاتكم رسول الله صلى الله عليه وسلم {فإنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يقول: فإن الله ذو عفو عن ذنوبكم إذا تبتم منها، رحيم بكم أن يعاقبكم عليها بعد التوبة، وغير مؤاخذكم بمناجاتكم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تقدّموا بين يدي نجواكم إياه صدقة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة} يشبه أن يكون ما ذكر من مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم على وجوه، والناس في مناجاته طبقات: أحدهم: يناجيه مسترشدا في أمر الدين وما ينزل به من النوازل. والآخر: يناجيه افتخارا به على غيره من الناس ومباهاة منه ليعلم أن له خصوصية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وفضلا له عنده، وهو صنيع المنافقين. والفريق الثالث: يناجونه ليسمّعوا الناس الكذب، ويسمعوهم غير الذي سمعوا كقوله تعالى: {سمّاعون للكذب سمّاعون لقوم آخرين} {المائدة: 41} وهم اليهود، وصنيعهم ما ذكر. فجائز أن تخرج المناجاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الوجوه التي ذكرنا. ثم ما ذكر من تقديم الصدقة على المناجاة تخرج على وجوه:
أحدها: أمر بتقديم الصدقة لعظم قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم والخصوصية له تظهر بتلك الصدقة، ويصير أهلا للمناجاة بها، وهو كالطهارة التي جعلها سببا للوصول إلى مناجاة الرب سبحانه وتعالى.
والثاني: لما خصهم بمناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وجعلهم أهلا لها أمرهم بتقديم الصدقة شكرا له منه بذلك...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وصح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: ما عمل بها أحد غيري وأنا كنت سبب الرخصة والتخفيف عن المسلمين وذلك أني أردت مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم في أمر ضروري فصرفت ديناراً بعشرة دراهم، ثم ناجيته عشر مرار أقدم في كل مرة درهماً، وروي عنه أنه تصدق في كل مرة بدينار، فقال علي ثم فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذه العبادة قد شقت على الناس فقال لي يا علي: كم ترى أن يكون حد هذه الصدقة، أتراه ديناراً؟، قلت: لا، قال نصف دينار، قلت: لا، قال فكم: قلت حبة من شعير قال إنك لزهيد، فأنزل الله الرخصة.
هذا التكليف يشتمل على أنواع من الفوائد؛
(أولها) إعظام الرسول عليه السلام وإعظام مناجاته فإن الإنسان إذا وجد الشيء مع المشقة استعظمه، وإن وجده بالسهولة استحقره.
(وثانيها) نفع كثير من الفقراء بتلك الصدقة المقدمة قبل المناجاة.
(وسادسها) أنه يتميز به محب الآخرة عن محب الدنيا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
"بين يدي نجواكم" أي قبل سركم الذي تريدون أن ترتفعوا به {صدقة} تكون لكم برهاناً قاطعاً على إخلاصكم كما ورد أن الصدقة برهان، فهي مصدقة لكم في دعوى الإيمان التي هي التصديق بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وبكل ما جاء به عن الله تعالى... {ذلك} أي الخلق العالي جداً من تقديم التصدق قبل المناجاة يا خير الخلق، ولعله أفرده بالخطاب لأنه لا يعلم كل ما فيه من الأسرار غيره. وعاد إلى الأول فقالك {خير لكم} أي في دينكم من الإمساك عن الصدقة {وأطهر} لأن الصدقة طهرة ونماء وزيادة في كل خير... {فإن لم تجدوا} أي ما تقدمونه...
فليس عليكم شيء، دل عليه بأحسن منه فإن الله} أي الذي له جميع صفات الكمال، وأكده لاستبعاد مثله فإن المعهود من الملك إذا ألزم رعيته بشيء أنه لا يسقطه أصلاً ورأساً، ولا سيما... {إن كان يسيراً، ودل على أنه سبحانه لن يكلف بما فوق الطاقة بقوله: {غفور رحيم} أي له صفتا الستر للمساوئ والإكرام بإظهار المحاسن ثابتتان على الدوام فهو يغفر ويرحم تارة بعدم العقاب للعاصي، وتارة للتوسعة للضيق بأن ينسخ ما يشق إلى ما يخف...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
يأمر تعالى المؤمنين بالصدقة، أمام مناجاة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم تأديبا لهم وتعليما، وتعظيما للرسول صلى الله عليه وسلم، فإن هذا التعظيم، خير للمؤمنين وأطهر أي: بذلك يكثر خيركم وأجركم، وتحصل لكم الطهارة من الأدناس، التي من جملتها ترك احترام الرسول صلى الله عليه وسلم والأدب معه بكثرة المناجاة التي لا ثمرة تحتها، فإنه إذا أمر بالصدقة بين يدي مناجاته صار هذا ميزانا لمن كان حريصا على الخير والعلم، فلا يبالي بالصدقة، ومن لم يكن له حرص ولا رغبة في الخير، وإنما مقصوده مجرد كثرة الكلام، فينكف بذلك عن الذي يشق على الرسول
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والذي يظهر لي: أن هذه الصدقة شرعها الله وفرضها على من يجد ما يتصدق به قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وأسقطها عن الذين لا يجدون ما يتصدقون به، وجعل سببها ووقتَها هو وقت توجههم إلى مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وكان المسلمون حريصين على سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمور الدين كل يوم فشرع الله لهم هذه الصدقة كل يوم لنفع الفقراء نفعاً يومياً، وكان الفقراء أيامئذٍ كثيرين بالمدينة منهم أهل الصُفّة ومعظم المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم. والأظهر أن هذه الصدقة شرعت بعد الزكاة فتكون لحكمة إغناء الفقراء يوماً فيوماً لأن الزكاة تدفع في رؤوس السنين وفي مُعيَّن الفصول، فلعل ما يصل إلى الفقراء منها يستنفدونه قبل حلول وقت الزكاة القابلة... وأما {أطهر} فهو اسم تفضيل لا محالة، أي أطْهر لكم بمعنى: أشد طهراً، والطهر هنا معنوي، وهو طهر النفس وزكاؤها لأن المتصدق تتوجه إليه أنوار ربانية من رضى الله عنه فتكون نفسه زكية كما قال تعالى: {تطهرهم وتزكيهم بها} [التوبة: 103]. ومنه سميت الصدقة زكاة. وصفة هذه الصدقة أنها كانت تعطى للفقير حين يعمد المسلم إلى الذهاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليناجيه. وأما استفادة أن غير الواجد لا حرج عليه في النجوى بدون صدقة فحاصلة بدلالة الفحوى لأنه لا يترك مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن إرادة مناجاته الرسول صلى الله عليه وسلم ليست عبثاً بل لتحصيل علم من أمور الدين. وأما قوله: {رحيم} فهو في مقابلة ما فات غير الواجد ما يتصدق به من تزكية النفس إشعاراً له بأن رحمة الله تنفعه.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
ويتبادر لنا أن حكمة فرض هذه الصدقة بين يدي مناجاة أحد من المسلمين لرسول الله هو جعل مراجعات الناس للنبي صلى الله عليه وسلم في قضايا ومشاكلهم الخاصة وسيلة من وسائل أخذ بعض المال من ميسوريهم لإنفاقه على المحتاجين والمصالح العامة...
وتعبير {إذا ناجيتم} يفيد معنى الاجتماع الخاص من أجل عرض قضية أو مشكلة خاصة للاستفتاء أو التقاضي. ويجوز أن تكون حكمة التنزيل اقتضت ذلك حينما أخذت استفتاءات الناس الخاصة تكثر على النبي صلى الله عليه وسلم لتكون تلك الوسيلة ومصداق ذلك في القرآن الكريم أيضا؛ حيث لم يجعل لرسول الله نصيب في الصدقات كما جاء في آية سورة التوبة هذه {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل} (60)، بينما جعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم نصيب خمس الغنائم كما جاء في آية سورة الأنفال هذه: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} (41). وجعل له نصيب في الفيء أيضا، وهو ما عاد للمسلمين من الأعداء بدون حرب كما جاء في آية سورة الحشر هذه: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} (7)، فتكون الصدقة التي أمر الله المسلمين بتقديمها بين يدي نجواه قد أريد بها مورد لبيت المال لإنفاقه على مصالح المسلمين وفقرائهم كما ذكرنا والله أعلم.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وبدلا من استعمال "الشعر " وسيلة لقضاء الحاجات، حسبما كان متعارفا عند العرب، لأنه من أفضل ما عندهم، فكان الرجل يقدمه أمام حاجته " يستمطر به الكريم، ويستنزل به اللئيم " على حد قول عمر بن الخطاب، جاء كتاب الله بنمط جديد يتفق مع روح الإسلام وأهدافه الإنسانية السامية، فخاطب المؤمنين الذين يرغبون في مناجاة الرسول والتحدث إليه في شؤونهم الخاصة أن يتقربوا إلى الله قبل لقاء الرسول، بتقديم الصدقات إلى الفقراء المسلمين، ثم يأتوا إليه وقد ازدادوا طهرا وصفاء، أما الذين لا يملكون ما يتصدقون به على الفقراء، لكونهم من نفس الفقراء، فلا حرج عليهم في لقائه ومناجاته دون تقديم أية صدقة فلما تلقى المسلمون هذا التوجيه الإلهي كان لهم بمنزلة " الفطام". وكان فيه نوع من التخفيف على رسول الله، حتى يستطيع التفرغ للقيام بمهام الرسالة الجسام، عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.