ثم سلى الله - تعالى - نبيه والمؤمنين ، فبين لهم أن هؤلاء المستكبرين الذين قالوا فى القرآن : إنه أساطير الأولين ، سيحيق بهم مكرهم السيئ ، كما حاق بالذين من قبهلم ، فقال - تعالى : { قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } .
وقوله - سبحانه - { مكر } من المكر ، وهو التدبير المحكم ، أو صرف الغير عما يريده بحيلته ، وهو مذموم إن تحرى به الماكر الشر والباطل ، ومحمود إن تحرى به الخير والحق .
والمراد بالذين من قبلهم : الكفار الذين كانوا قبل كفار مكة ، كقوم نوح وهود وصالح .
وقوله : { فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ . . } أى : أهلكهم ، كما فى قوله - تعالى -
{ . . . فَأَتَاهُمُ الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ . . } ويقال : أتى فلان من مأمنه أى : نزل به الهلاك من جهة أمنه . وأتى عليه الدهر . أى : أهلكه وأفناه . ومنه الأتوّ . وهو الموت والبلاء .
يقال : أتى على فلان أُتوّ ، أى موت أو بلاء يصيبه .
والقواعد : جمع قاعدة . وهى أساس البناء ، وبها يكون ثباته واستقراره .
والمعنى : لا تهتم - أيها الرسول الكريم - بما يقوله المستكبرون من قومك فى شأن القرآن الكريم لكى يصرفوا الناس عن الدخول فى الإِسلام ، فقد مكر الذين من قبلهم بأنبيائهم ، فكانت عاقبة مكرهم أن أتى الله بنيانهم من القواعد ، بأن اجتث هذا البنيان من أصله ؛ واقتلعه من أساسه { فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ } أى : فسقط عليهم سقف بنيانهم فأهلكهم { وأتاهم العذاب } المبير المدمر { مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } ولا يحتسبون بأنه سيأتيهم من هذه الجهة ، بل كانوا يتوقعون أن ما شيدوه سيحميهم من المهالك .
فالآية الكريمة تصور بأسلوب بديع معجز ، كيف أن هؤلاء الماكرين ، قد حصنوا أنفسهم بالبناء المحكم المتين ، ليتقوا ما يؤذيهم ، إلا أن جميع هذه التحصينات قد هوت وتساقطت على رءوسهم ، أمام قوة الله - تعالى - التى لا ترد ، فإذا بالبناء الذى بنوه ليحتموا به ، قد صار مقبرة لهم .
وصدق الله إذ يقول : { وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظلموا إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } وقال - سبحانه - : { فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ } مع أن السقف لا يكون إلا من فوق ، لتأكيد الكلام وتقويته .
وقال القرطبى : قال ابن الأعرابى : وكد ليعلمك أنهم كانوا حالين تحته ، والعرب تقول خر علينا سقف ، ووقع علينا حائط ، إذا كان يملكه وإن لم يكن وقع عليه . فجاء بقوله : { من فوقهم } ليخرج هذا الشك الذى فى كلام العرب ، فقال : { من فوقهم } أى : عليهم وقع وكانوا تحته فهلكوا وما أفلتوا . . .
هذا ومن المفسرين الذين رجحوا أن الآية مسوقة على سبيل التمثيل ، الفخر الرازى فقد قال : وفى قوله - سبحانه - { فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد } قولان :
والمعنى أنهم رتبوا حيلا ليمكروا بها على أنبياء الله ، فجعل الله - تعالى - حالهم فى تلك الحيل ، مثل حال قوم بنوا بنيانا وعموده بالأساطين ، فانهدم ذلك البناء ، وضعفت تلك الأساطين ، فسقط السقف عليهم ، ونظيره قولهم : من حفر بئرا لأخيه أوقعه الله فيه .
- ووجه الشبه أن ما عدوه سبب بقائهم ، صار سبب استئصالهم وفنائهم .
الثانى : أن المراد منه مادل عليه الظاهر ، وهو أن الله - تعالى - أسقط عليهم السقف وأماتهم تحته .
ومن المفسرين الذين رجحوا أن الكلام على حقيقته ، الإِمام ابن جرير فقد قال - بعد أن سرد بعض الأقوال - : وأولى الأقوال بتأويل الآية قول من قال : معنى ذلك ، تساقطت عليهم سقوف بيوتهم ، إذ أتى على أصولها وقواعدها أمر الله ، فانكفأت بهم منازلهم ، لأن ذلك هو الكلام المعروف من قواعد البنيان وخرّ السقف .
وتوجيه معانى كلام الله إلى الأشهر الأعرف منها ، أولى من توجيهها إلى غير ذلك ما وجد إليه سبيل .
ويبدو لنا أن ما ذهب إليه ابن جرير - رحمه الله - أولى بالقبول ، لأنه مادام اللفظ صالحا للحمل على الحقيقة ، فلا داعى لصرفه عن ذلك .
وقد حكى لنا القرآن الكريم صنوفا من العذاب الذى أنزله الله - تعالى - بالظالمين ، ومن ذلك قوله - تعالى - : { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }
فقد كانت حرب دعاية منظمة يديرها قريش على الدعوة ، ويديرها أمثال قريش في كل زمان ومكان من المستكبرين الذين لا يريدون الخضوع للحق والبرهان ، لأن استكبارهم يمنعهم من الخضوع للحق والبرهان . فهؤلاء المستكبرون من قريش ليسوا أول من ينكر ، وليسوا أول من يمكر . والسياق يعرض عليهم نهاية الماكرين من قبلهم ، ومصيرهم يوم القيامة ، بل مصيرهم منذ مفارقة أرواحهم لأجسادهم حتى يلقوا في الآخرة جزاءهم . يعرض عليهم هذا كله في مشاهد مصورة على طريقة القرآن المأثورة :
( قد مكر الذين من قبلهم . فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم ، وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون . ثم يوم القيامة يخزيهم ، ويقول : أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم ؟ قال الذين أوتوا العلم : إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين ، الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ، فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء . بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون . فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها ، فلبئس مثوى المتكبرين )
( قد مكر الذين من قبلهم ) والتعبير يصور هذا المكر في صورة بناء ذي قواعد وأركان وسقف إشارة إلى دقته وإحكامه ومتانته وضخامته . ولكن هذا كله لم يقف أمام قوة الله وتدبيره : ( فأتى الله بنيانهم من القواعد ، فخر عليهم السقف من فوقهم ) وهو مشهد للتدمير الكامل الشامل ، يطبق عليهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، فالقواعد التي تحمل البناء تحطم وتهدم من أساسها ، والسقف يخر عليهم من فوقهم فيطبق عليهم ويدفنهم ( وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ) فإذا البناء الذي بنوه وأحكموا واعتمدوا على الاحتماء فيه . إذا هو مقبرتهم التي تحتويهم ، ومهلكتهم التي تأخذهم من فوقهم ومن أسفل منهم . وهو الذي اتخذوه للحماية ولم يفكروا أن يأتيهم الخطر من جهته !
إنه مشهد كامل للدمار والهلاك ، وللسخرية من مكر الماكرين وتدبير المدبرين ، الذين يقفون لدعوة الله ، ويحسبون مكرهم لا يرد ، وتدبيرهم لا يخيب ، والله من ورائهم محيط !
وهو مشهد مكرر في الزمان قبل قريش وبعدها . ودعوة الله ماضية في طريقها مهما يمكر الماكرون ، ومهما يدبر المدبرون .
قال العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } قال : هو نمرود الذي{[16393]} بنى الصرح .
قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد نحوه .
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن زيد بن أسلم : أولُ جبار كان في الأرض نمرود ، فبعث الله عليه بَعُوضة ، فدخلت في منخرة ، فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق ، وأرحم الناس به من جمع يديه فضرب بهما رأسه ، وكان جبارا أربعمائة سنة ، فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه ، ثم أماته الله . وهو الذي كان بنى صرحًا إلى السماء ، وهو الذي قال الله : { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ }
وقال آخرون : بل هو بختنصر . وذكروا من المكر الذي حكى الله هاهنا ، كما قال في سورة إبراهيم : { وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ } [ إبراهيم : 46 ] .
وقال آخرون : هذا من باب المثل ، لإبطال ما صنعه هؤلاء الذين كفروا بالله وأشركوا في عبادته غيره ، كما قال نوح ، عليه السلام : { وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا } [ نوح : 22 ] أي : احتالوا في إضلال الناس بكل حيلة وأمالوهم إلى شركهم بكل وسيلة ، كما يقول لهم أتباعهم يوم القيامة : { بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا } [ الآية ]{[16394]} [ سبأ : 33 ] .
وقوله : { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ } أي : اجتثه من أصله ، وأبطل عملهم ، وأصلها{[16395]} كما قال تعالى : { كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ } [ المائدة : 64 ] .
وقوله : { فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ } [ الحشر : 2 ] .
وقال هاهنا : { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ }
أي : يظهر فضائحهم ، وما كانت تُجنّه ضمائرهم ، فيجعله علانية ، كما قال تعالى : { يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ } [ الطارق : 9 ] أي : تظهر وتشتهر{[16396]} ، كما في الصحيحين{[16397]} عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غَدْرَته ، فيقال : هذه غَدْرَة فلان بن فلان " {[16398]} .
وهكذا هؤلاء ، يظهر للناس ما كانوا يسرونه من المكر ، ويخزيهم الله على رءوس الخلائق ، ويقول لهم الرب تبارك وتعالى مقرعا لهم وموبخا : { أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ } تحاربون وتعادون في سبيلهم ، [ أي ]{[16399]} : أين هم عن نصركم وخلاصكم هاهنا ؟ { هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ } [ الشعراء : 93 ] ، { فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ } [ الطارق : 10 ] . فإذا توجهت عليهم الحجة ، وقامت عليهم الدلالة ، وحقت عليهم الكلمة ، وأسكتوا عن الاعتذار حين لا فرار{[16400]} { قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } - وهم السادة في الدنيا والآخرة ، والمخبرون عن الحق في الدنيا والآخرة ، فيقولون حينئذ : { إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ } أي : الفضيحة والعذاب اليوم [ محيط ]{[16401]} بمن كفر بالله ، وأشرك به ما لا يضره ولا ينفعه .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَدْ مَكَرَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُمْ مّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرّ عَلَيْهِمُ السّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : قد مكر الذين من قبل هؤلاء المشركين الذين يصدّون عن سبيل الله من أراد اتباع دين الله ، فراموا مغالبة الله ببناءٍ بَنَوه ، يريدون بزعمهم الارتفاع إلى السماء لحرب من فيها . وكان الذي رام ذلك فيما ذُكر لنا جبار من جبابرة النّبَط فقال بعضهم : هو نمرو بن كنعان ، وقال بعضهم : هو بختنصر ، وقد ذكرت بعض أخبارهما في سورة إبراهيم . وقيل : إن الذي ذُكر في هذا الموضع هو الذي ذكره الله في سورة إبراهيم . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : أمر الذين حاجّ إبراهيم في ربه بإبراهيم فأُخُرِجَ ، يعني من مدينته ، قال : فلقي لوطا على باب المدينة وهو ابن أخيه ، فدعاه فآمن به ، وقال : إني مهاجر إلى ربي . وحلف نمرود أن يطلب إله إبراهيم ، فأخذ أربعة أفراخ من فِراخ النسور ، فرباهنّ باللحم والخبز حتى كبرن وغلظن واستعجلن ، فربطهنّ في تابوت ، وقعد في ذلك التابوت ثم رفع لهنّ رِجلاً من لحم ، فطرن ، حتى إذا ذهبن في السماء أشرف ينظر إلى الأرض ، فرأى الجبال تدبّ كدبيب النمل . ثم رفع لهنّ اللحم ، ثم نظر فرأى الأرض محيطا بها بحر كأنها فلكة في ماء . ثم رفع طويلاً فوقع في ظلمة ، فلم ير ما فوقه وما تحته ، ففزع ، فألقى اللحم ، فاتّبعته منقضّات . فلما نظرت الجبال إليهنّ ، وقد أقبلن منقضات وسمعت حفيفهنّ ، فزعت الجبال ، وكادت أن تزول من أمكنتها ولم يفعلن وذلك قول الله تعالى : وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبالُ ، وهي في قراءة ابن مسعود : «وَإنْ كادَ مَكْرُهُمْ » . فكان طَيْرُورتهن به من بيت المقدس ووقوعهن به في جبل الدخان . فلما رأى أنه لا يطيق شيئا أخذ في بنيان الصرح ، فبنى حتى إذا شيده إلى السماء ارتقى فوقه ينظر ، يزعم إلى إله إبراهيم ، فأحدث ، ولم يكن يُحدث وأخذ الله بنيانه من القواعد فَخَرّ عَلَيْهِمُ السّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وأتاهُمْ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ يقول : من مأمنهم ، وأخذهم من أساس الصرح ، فتنقّض بهم فسقط . فتبلبلت ألسن الناس يومئذ من الفزع ، فتكلموا بثلاثة وسبعين لسانا ، فلذلك سميت بابل . وإنما كان لسان الناس من قبل ذلك بالسريانية .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَقَدْ مَكَرَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فأتَى اللّهُ بُنيانَهُمْ مِنَ القَوَاعِدِ قال : هو نمرود حين بنى الصرح .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا قال : عبد الرزاق ، عن معمر ، عن زيد بن أسلم : إن أوّل جبار كان في الأرض نمرود ، فبعث الله عليه بعوضة فدخلت في منخره ، فمكث أربع مئة سنة يُضرب رأسُه بالمطارق ، أرحم الناس به من جمع يديه ، فضرب رأسه بهما ، وكان جبارا أربع مئة سنة ، فعذّبه الله أربع مئة سنة كمُلكه ، ثم أماته الله . وهو الذي كان بنى صَرْحا إلى السماء ، وهو الذي قال الله : فَأَتى اللّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ القَوَاعِدِ فَخَرّ عَلَيْهِمُ السّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ .
وأما قوله : فأَتَى اللّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ القَوَاعِدِ فإن معناه : هدم الله بنيانهم من أصله . والقواعد : جمع قاعدة ، وهي الأساس . وكان بعضهم يقول : هذا مثل للاستئصال وإنما معناه : إن الله استأصلهم . وقال : العرب تقول ذلك إذا استؤصل الشيء .
وقوله : فَخَرّ عَلَيْهِمُ السّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه : فخرّ عليهم السقف من فوقهم أعالي بيوتهم من فوقهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : قَدْ مَكَرَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فأَتَى اللّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ القَوَاعِدِ إي والله ، لأتاها أمر الله من أصلها فَخَرّ عَلَيْهِمُ السّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ والسقف : أعالي البيوت ، فائتفكت بهم بيوتهم فأهلكهم الله ودمرهم ، وأتاهُمُ العَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : فَخَرّ عَلَيْهِمُ السّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ قال : أتى الله بنيانهم من أصوله ، فخرّ عليهم السقف .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حُذيفة ، قال : حدثنا شبل وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فأَتَى اللّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ القَوَاعِدِ قال : مكر نمرود بن كنعان الذي حاجّ إبراهيم في ربه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
وقال آخرون : عنى بقوله : فَخَرّ عَلَيْهِمُ السّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ أن العذاب أتاهم من السماء . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : فَخَرّ عَلَيْهِمُ السّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ يقول : عذاب من السماء لَما رأوه استسلموا وذلوا .
وأولى القولين بتأويل الاَية ، قول من قال : معنى ذلك : تساقطت عليهم سقوف بيوتهم ، إذ أتى أصولها وقواعدها أمر الله ، فائتفكت بهم منازلهم لأن ذلك هو الكلام المعروف من قواعد البنيان وخرّ السقف ، وتوجيه معاني كلام الله إلى الأشهر الأعرف منها ، أولى من توجيهها إلى غير ذلك ما وُجِد إليه سبيل . وأتاهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ يقول تعالى ذكره : وأتى هؤلاء الذين مكروا من قَبْل مشركي قريش ، عذاب الله من حيث لا يدرون أنه أتاهم منه .
قال ابن عباس وغيره من المفسرين : الإشارة ب { الذين من قبلهم } إلى نمرود الذي بنى صرحاً ليصعد فيه إلى السماء على زعمه ، فلما أفرط في علوه وطوله في السماء فرسخين على ما حكى النقاش ، بعث الله عليه رمحاً فهدمته ، «وخر سقفه » عليه وعلى أتباعه ، وقيل : جبريل هدمه بجناحه وألقى أعلاه في البحر وانحقف من أسفله ، وقالت فرقة أخرى : المراد ب { الذين من قبلهم } جميع من كفر من الأمم المتقدمة ومكر ونزلت فيه عقوبة من الله تعالى ، وقوله على هذا { فأتى الله بنيانهم من القواعد } إلى آخر الآية ، تمثيل وتشبيه ، أي حالهم بحال من فعل به هذا ، وقالت فرقة : المراد بقوله { فخر عليهم السقف من فوقهم } أي جاءهم العذاب من قبل السماء .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ينحو إلى اللعن ، ومعنى قوله { من فوقهم } رفع الاحتمال في قوله { فخر عليهم السقف } فإنك تقول انهدم على فلان بناؤه وهو ليس تحته ، كما تقول : انفسد عليه متاعه ، وقوله { من فوقهم } ألزم أنهم كانوا تحته . وقوله { فأتى } أي أتى أمر الله وسلطانه ، وقرأ الجمهور «بنيانهم » ، وقرأت فرقة «بنيتهم » ، وقرأ جعفر بن محمد «بيتهم » ، وقرأ الضحاك «بيوتهم » ، وقرأ الجمهور «السقْف » بسكون القاف ، وقرأت فرقة بضم القاف وهي لغة فيه ، وقرأ الأعرج «السُّقُف » بضم السين والقاف ، وقرأ مجاهد «السُّقْف » بضم السين وسكون القاف .
لمّا ذكر عاقبة إضلالهم وصدّهم السائلين عن القرآن والإسلام في الآخرة أتبع بالتهديد بأن يقع لهم ما وقع فيه أمثالهم في الدّنيا من الخزي والعذاب مع التأييس من أن يبلغوا بصنعهم ذلك مبلغ مرادهم ، وأنهم خائبون في صنعهم كما خاب من قبلهم الذين مكَروا برسلهم .
ولما كان جوابهم السائلين عن القرآن بقولهم هو { أساطير الأولين } [ سورة النحل : 24 ] مظهرينه بمظهر النصيحة والإرشاد وهم يريدون الاستبقاء على كفرهم ، سمّي ذلك مكراً بالمؤمنين ، إذ المكر إلحاق الضرّ بالغير في صورة تمويهه بالنّصح والنّفع ، فنُظّر فعلهم بمكر من قبلهم ، أي من الأمم السابقة الذين مكروا بغيرهم مثل قوم هود ، وقوم صالح ، وقوم لوط ، وقوم فرعون ، قال تعالى في قوم صالح : { ومكروا مكراً ومكرنا مكراً } [ سورة النحل : 50 ] الآية ، وقال : { وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون } [ سورة الأنعام : 123 ] .
فالتعريف بالموصول في قوله تعالى : { الذين من قبلهم } مساوٍ للتعريف بلام الجنس .
ومعنى « أتى الله بنيانهم » استعارة بتشبيه القاصد للانتقام بالجائي نحو المنتقم منه ، ومنه قوله تعالى : { فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا } [ سورة الحشر : 2 ] .
وقوله تعالى : { فأتى الله بنيانهم من القواعد } تمثيل لحالات استئصال الأمم ، فالبنيان مصدر بمعنى المفعول . أي المبنى ، وهو هنا مستعار للقوّة والعزّة والمنعة وعلوّ القدر .
وإطلاق البناء على مثل هذا وارد في فصيح الكلام . قال عبدة بن الطبيب :
فما كان قيس هُلْكُه هُلْكَ واحد *** ولكنّه بنيان قوم تهدّما
وقالت سعدة أمّ الكميت بن معروف :
بنى لك معروفٌ بناءً هدمته *** وللشرف العاديّ بانٍ وهادم
و { من القواعد } متعلق ب « أتى » . { ومِن } ابتدائيّة ، ومجرورها هو مبْدأ الإتيان الذي هو بمعنى الاستئصال ، فهو في معنى هدمه .
و { القواعد } : الأسس والأساطين التي تجعل عَمداً للبناء يقام عليها السقف . وهو تخييل أو ترشيح ، إذ ليس في الكلام شيء يشبّه بالقواعد .
والخرور : السقوط والهويّ ، ففعل خرّ مستعار لِزوال ما به المنعة نظير قوله تعالى : { يخرّبون بيوتهم بأيديهم } [ سورة الحشر : 2 ] .
{ والسّقْف } : حقيقته غطاء الفراغ الذي بين جدران البيت ، يجعل على الجدران ويكون من حَجر ومن أعواد ، وهو هنا مستعار لما استعير له البناء .
و { من فوقهم } تأكيد لجملة { فسخرّ عليهم السّقف } .
ومن مجموع هذه الاستعارات تتركّب الاستعارة التمثيليّة . وهي تشبيه هيئة القوم الّذين مكروا في المنعة فأخذهم الله بسرعة وأزال تلك العزّة بهيئة قوم أقاموا بنياناً عظيماً ذا دعائم وآووا إليه فاستأصله الله من قواعده فخرّ سقف البناء دفعة على أصحابه فهلكوا جميعاً . فهذا من أبدع التمثيليّة لأنها تنحلّ إلى عدّة استعارات .
وجملة { وأتاهم العذاب } عطف على جملة { فأتى الله بنيانهم من القواعد } . وأل في { العذاب } للعهد فهي مفيدة مضمون قوله { من فوقهم } مع زيادة قوله تعالى : { من حيث لا يشعرون } . فباعتبار هذه الزيادة وردت معطوفة لحصول المغايرة وإلا فإن شأن الموكدة أن لا تعطف . والمعنى أن العذاب المذكور حلّ بهم بغتة وهم لا يشعرون فإن الأخذ فَجْأ أشدّ نكاية لما يصحبه من الرّعب الشديد بخلاف الشيء الوارد تدريجاً فإنّ النّفس تتلقّاه بصبر .