التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{قَالَ يَٰقَوۡمِ أَرَءَيۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنۡهُ رِزۡقًا حَسَنٗاۚ وَمَآ أُرِيدُ أَنۡ أُخَالِفَكُمۡ إِلَىٰ مَآ أَنۡهَىٰكُمۡ عَنۡهُۚ إِنۡ أُرِيدُ إِلَّا ٱلۡإِصۡلَٰحَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُۚ وَمَا تَوۡفِيقِيٓ إِلَّا بِٱللَّهِۚ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَيۡهِ أُنِيبُ} (88)

ومع كل هذه السفاهة : ترى شعيبا - عليه السلام - وهو خطيب الأنبياء - يتغاضى عن سفاهاتهم ، لأنه يحس بقصورهم وجهلهم ، كما يحس بقوة الحق الذى أتاهم به من عند ربه ، فيرد عليهم بقوله : { قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي . . } والبينة : ما يتبين به الحق من الباطل ، ويتميز به الهدى من الضلال .

أى : قال شعيب لقومه بأسلوب مهذب حكيم : يا قوم أخبرونى إن كنت على حجة واضحة ، وبصيرة مستنيرة منحنى إياها ربى ومالك أمرى .

{ وَرَزَقَنِي مِنْهُ } - سبحانه - ، { رِزْقاً حَسَناً } يتمثل فى النبوة التى كرمنى بها ، وفى المال الحلال الذى بين يديى ، وفى الحياة الطيبة التى أحياها .

وجواب الشرط محذوف والتقدير : أخبرونى إن كنت كذلك ، هل يليق بى بعد ذلك أن أخالف أمره مسايرة لأهوائكم ؟ كلا إنه لا يليق بى ذلك ، وإنما اللائق بى أن أبلغ جميع ما أمرنى بتبليغه دون خوف أو تقصر .

ثم يكشف لهم عن أخلاقه وسلوكه معهم فيقول : { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ . . . }

أى : ما أريد بأمرى لكم بعبادة الله وحده ، وبنهيى إياكم عن التطفيف والبخس ، مجرد مخالفتكم ومنازعتكم ومعاكستكم ، أو أن آمركم بشئ ثم لا أفعله ، أو أنهاكم عنه ثم أفعله ، من أجل تحقيق منفعة دنيوية . .

كلا ، كلا إنى لا أريد شيئا من ذلك وإنما أنا إنسان يطابق قولى فعلى ، وأختار لكم ما أختاره لنفسى .

قال صاحب الكشاف ما ملخصه : قوله { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } يقال : خالفنى فلان إلى كذا : إذا ق صده وأنت مول عنه . وخالفنى عنه : إذا ولى عنه وأنت تقصده .

ويلقاك الرجل صادرا عن المال فتسأله عن صاحبه فيقول : خالفنى إلى الماء ، يريد أنه ذهب إليه واردا ، وهو ذهب عنه صادراً ، ومنه قوله - سبحانه - { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } يعنى : ما أريد أن أسبقكم إلى شهواتكم التى نهيتكم عنها لأستبد بها دونكم .

وقال الإِمام ابن كثير ، وعن مسروق أن امرأة جاءت إلى ابن مسعود - رضى الله عنه - فقالت له : أأنت الذى نتهى عن الواصلة - أى التى تصل شعرها بشعر آخر - ؟ قال : نعم . فقالت : فلعله فى بعض نسائك ، فقال : ما حفظت إذاً وصية العبد الصالح { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } .

ثم بين لهم أنه ما ريد لهم إلا الإِصلاح فيقول : { إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإصلاح مَا استطعت . . . }

أى : ما أريد بما أنصحكم به إلا إصلاحكم وسعادتكم ، وما دمت أستطيع ذلك ، وأقدر عليه ، فلن أقصر فى إسداء الهداية لكم .

ثم يفوض الأمور إلى الله - تعالى - فيقول : { وَمَا توفيقي إِلاَّ بالله عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } .

أى : وما توفيقى فيما أدعوكم إليه من خير أو أنهاكم عنه من شر إلا بتأييد الله وعونه ، فهو وحده الذى عليه أتوكل وأعتمد فى كل شئونى ، وهو وحده الذى إليه أرجع فى كل أمورى .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قَالَ يَٰقَوۡمِ أَرَءَيۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنۡهُ رِزۡقًا حَسَنٗاۚ وَمَآ أُرِيدُ أَنۡ أُخَالِفَكُمۡ إِلَىٰ مَآ أَنۡهَىٰكُمۡ عَنۡهُۚ إِنۡ أُرِيدُ إِلَّا ٱلۡإِصۡلَٰحَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُۚ وَمَا تَوۡفِيقِيٓ إِلَّا بِٱللَّهِۚ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَيۡهِ أُنِيبُ} (88)

84

ويتلطف شعيب تلطف صاحب الدعوة الواثق من الحق الذي معه ؛ ويعرض عن تلك السخرية لا يباليها وهو يشعر بقصورهم وجهلهم . . يتلطف في إشعارهم أنه على بينة من ربه كما يجده في ضميره وقلبه ؛ وأنه على ثقة مما يقول لأنه أوتي من العلم ما لم يؤتوا ، وأنه إذ يدعوهم إلى الأمانة في المعاملة سيتأثر مثلهم بنتائجها لأنه مثلهم ذو مال وذو معاملات ؛ فهو لا يبغي كسبا شخصيا من وراء دعوته لهم ؛ فلن ينهاهم عن شيء ثم يفعله هو لتخلو له السوق ! إنما هي دعوة الإصلاح العامة لهم وله وللناس . وليس فيما يدعوهم إليه خسارة عليهم كما يتوهمون :

( قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ، ورزقني منه رزقا حسنا ؟ وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت ، وما توفيقي إلا بالله ، عليه توكلت وإليه أنيب ) . .

( يا قوم . . . ) . .

في تودد وتقرب ، وتذكير بالأواصر القريبة .

( أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ؟ ) . .

أجد حقيقته في نفسي وأستيقن أنه هو يوحي إلي ويأمرني بما أبلغكم إياه . وعن هذه البينة الواضحة في نفسي ، أصدر واثقا مستيقنا .

( ورزقني منه رزقا حسنا ) . .

ومنه الثروة التي أتعامل مع الناس مثلكم فيها .

( وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ) .

فأنهاكم ثم أذهب من خلفكم فأفعل ما نهيتكم عنه لأحقق لنفسي نفعا به !

( إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت ) . .

الإصلاح العام للحياة والمجتمع الذي يعود صلاحه بالخير على كل فرد وكل جماعة فيه ؛ وإن خيل إلى بعضهم أن اتباع العقيدة والخلق يفوت بعض الكسب الشخصي ، ويضيع بعض الفرص . فإنما يفوت الكسب الخبيث ويضيع الفرص القذرة ؛ ويعوض عنهما كسبا طيبا ورزقا حلالا ، ومجتمعا متضامنا متعاونا لا حقد فيه ولا غدر ولا خصام !

( وما توفيقي إلا بالله ) .

فهو القادر على إنجاح مسعاي في الإصلاح بما يعلم من نيتي ، وبما يجزي على جهدي .

( عليه توكلت ) . .

عليه وحده لا اعتمد على غيره .

( وإليه أنيب ) . .

إليه وحده أرجع فيما يحزبني من الأمور ، وإليه وحده أتوجه بنيتي وعملي ومسعاي .

ثم يأخذ بهم في واد آخر من التذكير ، فيطل بهم على مصارع قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط :

فقد يفعل هذا في مثل تلك القلوب الجاسية ما لم يفعله التوجيه العقلي اللين الذي يحتاج إلى رشد وتفكير :

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{قَالَ يَٰقَوۡمِ أَرَءَيۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنۡهُ رِزۡقًا حَسَنٗاۚ وَمَآ أُرِيدُ أَنۡ أُخَالِفَكُمۡ إِلَىٰ مَآ أَنۡهَىٰكُمۡ عَنۡهُۚ إِنۡ أُرِيدُ إِلَّا ٱلۡإِصۡلَٰحَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُۚ وَمَا تَوۡفِيقِيٓ إِلَّا بِٱللَّهِۚ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَيۡهِ أُنِيبُ} (88)

يقول لهم أرأيتم يا قوم { إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي } أي : على بصيرة فيما أدعو إليه ، { وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا } قيل : أراد النبوة . وقيل : أراد الرزق الحلال ، ويحتمل الأمرين .

وقال الثوري : { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } أي : لا أنهاكم عن شيء{[14871]} وأخالف أنا في السر فأفعله خفية{[14872]} عنكم ، كما قال قتادة في قوله : { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } يقول : لم أكن لأنهاكم عن أمر وأركَبَه{[14873]} { إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ } أي : فيما آمركم وأنهاكم ، إنما مرادي إصلاحكم جهدي وطاقتي ، { وَمَا تَوْفِيقِي } أي : في إصابة الحق فيما أريده { إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } في جميع أموري ، { وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } أي : أرجع ، قاله مجاهد وغيره .

قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا أبو قَزْعَةَ سُوَيد بن حُجَير{[14874]} الباهلي ، عن حكيم بن معاوية ، عن أبيه : أن أخاه مالكًا قال : يا معاوية ، إن محمدًا أخذ جيراني ، فانطَلق إليه ، فإنه قد كلمك وعرفك ، فانطلقت معه فقال : دع لي جيراني ، فقد كانوا أسلموا . فأعرض عنه . [ فقام مُتَمَعطًا ]{[14875]} فقال : أما والله لئن فَعلتَ إن الناس يزعمون أنك تأمر بالأمر وتخالف إلى غيره . وجعلت أجرّه وهو يتكلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما تقول ؟ " فقال : إنك والله لئن فعلت ذلك . إن الناس ليزعمون أنك لتأمر بالأمر وتخالف إلى غيره . قال : فقال : " أوَ قد قالوها - أو قائلهم - ولئن فعلت ذلك ما ذاك إلا عليّ ، وما عليهم من ذلك من شيء ، أرسلوا له جيرانه{[14876]} .

وقال أحمد أيضا : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن بَهْز{[14877]} بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده

قال : أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ناسًا من قومي في تُهَمة فحبسهم ، فجاء رجل من قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب ، فقال : يا محمد ، علام تحبس جيرتي ؟ فصَمت رسول الله صلى الله عليه وسلم [ عنه ]{[14878]} فقال : إن ناسًا ليقولون : إنك تنهى عن الشيء وتستخلي به ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما يقول ؟ " قال : فجعلت أعرض بينهما الكلام مخافة أن يسمعها فيدعو على قومي دَعوة لا يفلحون بعدها أبدًا ، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم به حتى فهمها ، فقال : " أو قد قالوها - أو : قائلها منهم - والله لو فعلتُ لكان عليّ وما كان عليهم ، خلوا له عن جيرانه " {[14879]} .

ومن هذا القبيل الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا أبو عامر ، حدثنا سليمان بن بلال ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن عبد الملك بن سعيد بن سويد الأنصاري قال : سمعت أبا حميد وأبا أسيد يقولان : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم ، وتلين له أشعاركم وأبشاركم ، وترون أنه منكم قريب ، فأنا أولاكم به ، وإذا سمعتم الحديث عني تُنكره قلوبكم ، وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم ، وترون أنه منكم بعيد فأنا أبعدكم منه " {[14880]} . هذا{[14881]} إسناد صحيح ، وقد أخرج مسلم بهذا السند حديث : " إذا دخل أحدكم المسجد فليقل : اللهم ، افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليقل : اللهم ، إني أسألك من فضلك " {[14882]} ومعناه - والله أعلم - : مهما بلغكم عني من خير فأنا أولاكم به ومهما يكن من مكروه فأنا أبعدكم منه ، { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ [ عَنْهُ ] } {[14883]} .

وقال قتادة ، عن عَزْرَة{[14884]} عن الحسن العُرَني ، عن يحيى بن الجزار ، عن مسروق ، أن امرأة جاءت ابن مسعود قالت{[14885]} أتنهى عن الواصلة ؟ قال : نعم . فقالت [ المرأة ]{[14886]} فلعله في بعض نسائك ؟ فقال : ما حفظت إذا وصية العبد الصالح : { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } .

وقال عثمان بن أبي شيبة : حدثنا جرير ، عن أبي سليمان العتبي{[14887]} قال : كانت تجيئنا كتب عمر بن عبد العزيز فيها الأمر والنهي ، فيكتب في آخرها : وما كانت{[14888]} من ذلك إلا كما قال العبد الصالح : { وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } .


[14871]:- في ت ، أ : "الشيء".
[14872]:- في ت : "خيفة".
[14873]:- في أ : "وأرتكبه".
[14874]:- في ت : "ابن حجر".
[14875]:- زيادة من ت ، أ ، والمسند.
[14876]:- المسند (4/447).
[14877]:- في ت ، أ : "شهر".
[14878]:- زيادة من ت ، أ ، والمسند.
[14879]:- المسند (5/2) ورواه أبو داود في السنن برقم (3630) عن عبد الرزاق والترمذي في السنن برقم (1417) عن ابن المبارك كلاهما من طريق معمر به مختصرا جدا ، وقال الترمذي : "حديث بهز عن أبيه عن جده حديث حسن".
[14880]:- المسند (3/497).
[14881]:- في ت ، أ : "وهذا".
[14882]:- صحيح مسلم برقم (713).
[14883]:- زيادة من ت ، أ.
[14884]:- في ت ، أ : "عروة".
[14885]:- في ت : "فقالت".
[14886]:- زيادة من ت ، أ.
[14887]:- في ت ، أ : "الضبي".
[14888]:- في ت : "وما كنت" ، وفي أ : "وما كتب".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{قَالَ يَٰقَوۡمِ أَرَءَيۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنۡهُ رِزۡقًا حَسَنٗاۚ وَمَآ أُرِيدُ أَنۡ أُخَالِفَكُمۡ إِلَىٰ مَآ أَنۡهَىٰكُمۡ عَنۡهُۚ إِنۡ أُرِيدُ إِلَّا ٱلۡإِصۡلَٰحَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُۚ وَمَا تَوۡفِيقِيٓ إِلَّا بِٱللَّهِۚ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَيۡهِ أُنِيبُ} (88)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ يَقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيّنَةٍ مّن رّبّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىَ مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِيَ إِلاّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } .

يقول تعالى ذكره : قال شعيب لقومه : يا قوم أرأيتم إن كنت على بيان وبرهان من ربي فيما أدعوكم إليه من عبادة الله ، والبراءة من عبادة الأوثان والأصنام ، وفيما أنهاكم عنه من إفساد المال ، وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقا حَسَنا ، يعني : حلالاً طيبا . { وَما أُرِيدُ أنْ أُخالِفَكُمْ إلى ما أنهاكُمْ عَنْهُ } ، يقول : وما أريد أن أنهاكم عن أمر ثم أفعل خلافه ، بل لا أفعل إلا بما آمركم به ، ولا أنتهي إلا عما أنهاكم عنه . كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَما أُرِيدُ أنْ أُخالِفَكُمْ إلى ما أنهاكُم عَنْهُ } ، يقول : لم أكن لأنهاكم عن أمر أركبه أو آتيه .

{ إنْ أُرِيدُ إلاّ الإصْلاحَ } ، يقول : ما أريد فيما آمركم به وأنهاكم عنه ، إلا إصلاحكم وإصلاح أمركم ، { ما اسْتَطَعْتُ } ، يقول : ما قدرت على إصلاحه ، لئلا ينالكم من الله عقوبة منكلة ، بخلافكم أمره ومعصيتكم رسوله . { وَما تَوْفِيقي إلاّ باللّه } ، ِ يقول : وما إصابتي الحقّ في محاولتي إصلاحكم وإصلاح أمركم إلا بالله ، فإنه هو المعين على ذلك ، إن لا يعنّي عليه لم أصب الحقّ فيه .

وقوله : { عَلَيهِ تَوَكّلْتُ } ، يقول : إلى الله أفوّض أمري ، فإنه ثقتي وعليه اعتمادي في أموري . وقوله : { وَإلَيْهِ أُنِيبُ } ، وإليه أقبل بالطاعة وأرجع بالتوبة . كما :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن إسحاق نجيح ، عن مجاهد : { وَإلَيْهِ أُنِيبُ } ، قال : أرجع .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد . قال : وحدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : { وإلَيْهِ أُنِيبُ } ، قال : أرجع .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : { وإلَيْهِ أُنِيبُ } ، قال : أرجع .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قَالَ يَٰقَوۡمِ أَرَءَيۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنۡهُ رِزۡقًا حَسَنٗاۚ وَمَآ أُرِيدُ أَنۡ أُخَالِفَكُمۡ إِلَىٰ مَآ أَنۡهَىٰكُمۡ عَنۡهُۚ إِنۡ أُرِيدُ إِلَّا ٱلۡإِصۡلَٰحَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُۚ وَمَا تَوۡفِيقِيٓ إِلَّا بِٱللَّهِۚ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَيۡهِ أُنِيبُ} (88)

وقوله تعالى : { قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بيّنة } ، الآية ، هذه مراجعة لطيفة واستنزال{[6474]} حسن واستدعاء رفيق ونحوها عن محاورة شعيب عليه السلام ، قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذاك خطيب الأنبياء . وجواب الشرط الذي في قوله : { إن كنت على بيّنة من ربي } محذوف تقديره : أأضل كما ضللتم وأترك تبليغ الرسالة ؟ ونحو هذا مما يليق بهذه المحاجة ؟ و { بيّنة } يحتمل أن تكون بمعنى : بيان أو بين ، ودخلت الهاء للمبالغة - كعلامة - ويحتمل أن تكون صفة لمحذوف ، فتكون الهاء هاء تأنيث{[6475]} .

وقوله : { ورزقني منه رزقاً حسناً } يريد : خالصاً من الفساد الذي أدخلتم أنتم أموالكم . ثم قال لهم : ولست أريد أن أفعل الشيء الذي نهيتكم عنه من نقص الكيل والوزن ، فأستأثر بالمال لنفسي ، وما أريد إلا إصلاح الجميع ، و { أنيب } معناه : أرجع وأتوب وأستند{[6476]} .


[6474]:- جاءت هذه العبارة في بعض النسخ: "هذه مراجعة لطيفة واستنزال حسن"، واختارها البحر المحيط في النقل عن ابن عطية.
[6475]:- ويكون التقدير: "أرأيتم إن كنت على محجة بينة".
[6476]:- من الاستناد بمعنى الاعتماد على الله واللجوء إليه.