التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{لَّقَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٞ وَنَحۡنُ أَغۡنِيَآءُۘ سَنَكۡتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتۡلَهُمُ ٱلۡأَنۢبِيَآءَ بِغَيۡرِ حَقّٖ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلۡحَرِيقِ} (181)

ثم أخذت السورة الكريمة - بعد أن فضحت المنافقين - فى الحديث عن بعض رذائل أهل الكتاب ، وفى التحذير من شرورهم ، وفى بيان طبيعة هذه الحياة وما تحمله من بلاء واختبار فقال - تعالى - : { لَّقَدْ سَمِعَ . . . . } .

قال ابن كثير : عن ابن عباس قال : لما نزل قوله - تعالى - ( مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً ) قالت اليهود : يا محمد ! ! افتقر ربك فسأل عباده القرض ، فأنزل الله هذه الآية .

وروى محمد بن إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس قال : " دخل أبو بكر الصديق بيت المدراس . فوجد من يهود ناسا كثيرة قد اجتمعوا على رجل منهم يقال له " فحناص " وكان من علمائهم وأحبارهم ، ومعه حبر يقال له " اشيع " . فقال له أبو بكر : ويحك يا فنحاص اتق الله وأسلم فوالله إنك لتعلم أن محمدا رسول من عند الله ، قد جاءكم بالحق من عنده ، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل . فقال فنحاص : والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من حاجة من فقر ، وإنه إلينا لفقير ، ما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا ، وإنا عنه لأغنياء . ولو كان عنا غنيا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم . ينهاكم عن الربا ويعطينا ، ولو كان غنيا ما أعطانا الربا .

فغضب أبو بكر وضرب وجه فنحاص ضربا شديدا ، وقال : والذي نفسي بيده لولا الذى بيننا وبينك من العهد لضربت عنقك يا عدو الله . . .

فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد : أبصر ما صنع بي صاحبك .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما حملك على ما صنعت يا أبا بكر ؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله . إن عدو الله قال قولا عظيما . يزعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء . فلما قال ذلك غضبت لله مما قال فضربت وجهه .

فجحد فنحاص ذلك وقال : ما قلت ذلك . فأنزل الله فيما قال فنحاص : { لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا . . . } " .

والمعنى : لقد سمع الله - تعالى - قول أولئك اليهود الذين نطقوا بالزور والفحش فزعموا أن الله - تعالى - فقير وهم أغنياء .

والمقصود من هذا السمع لازمه وهو العلم والإحاطة بما يقولون من قبائح ، ثم محاسبتهم على ما تفوهوا به من أقوال ، وما ارتكبوه من أعمال ، ومعاقبتهم على جرائمهم بالعقاب المهين الذين يستحقونه .

وقوله { سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ } أى سنسجل عليهم فى صحائف أعمالهم قولهم هذا ، كما سنسجل عليهم قتلهم أنبياء الله بغير حق ، فالاسناد مجازى والكتابة حقيقية .

أو المعنى : سنحفظه فى علمنا ولا نهمله ، وسنعاقبهم بما يستحقونه من عقوبات ، فيكون الإسناد حقيقة والكتابة مجازا .

والسين للتأكيد ، أى لن يفوتنا أبدا تدوينه وإثباته ، بل سنسجله عليهم ونعاقبهم عليه عقابا اليما بسبب أقوالهم القبيحة ، وأعمالهم المنكرة .

وقد قرن - سبحانه - قولهم المنكر هذا ، بفعل شنيع من أفعال أسلافهم ، وهو قتلهم الأنبياء بغير حق ؛ وذلك لإثبات أصالتهم فى الشر ، وإستهانتهم بالحقوق الدينية ، وللتنبيه على أن قولهم هذا ليس أول جريمة ارتكبوها ، ومعصية استباحوها ، فقد سبق لأسلافهم أن قتلوا الأنبياء بغير حق ، وللإشعار بأن هاتين الجريمتين من نوع واحد ، وهو التجرؤ على الله - تعالى - ، فقتل الأنبياء هو تعد على أمناء الله فى الأرض الذين اختارهم لتبليغ رسالاته ، وقولهم { إِنَّ الله فَقِيرٌ } وهو تطاول على ذات الله ، وكذب عليه ، ووصف له بما لا يليق به - سبحانه - وبهذا كله يكونون قد عتوا عتواً كبيراً ، وضلوا ضلالا بعيدا .

وأضاف - سبحانه - القتل إلى المعاصرين للعهد النبوى من اليهود ، مع أنه حدث من اسلافهم ؛ لأن هؤلاء المعاصرين كانوا راضين بفعل أسلافهم ولم ينكروه وإن لم يكونوا قد باشروه ، ومن رضى بجريمة قد فعلها غيره فكأنما قد فعلها هو .

وفى الحديث الشريف : إذا عملت الخطيئة فى الرض كان من شهدها فأنكرها كمن غاب عنها . ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها .

ووصف - سبحانه - قتلهم الأنبياء بأنه { بِغَيْرِ حَقٍّ } مع أن هذا الإجرام لا يكون بحق أبدا ، للإشارة إلى شناعة أفعالهم ، وضخامة شرورهم ، وأنهم لخبث نفوسهم ، وقسوة قلوبهم لا يبالون أكان فعلهم فى موضعه أم فى غير موضعه .

ثم - صرح سبحانه - بالعقوبة بعد أن كنى عنها فقال : { وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق } أى : سنجازيهم بما فعلوا ، ونلقى بهم فى جهنم ، مخاطبين إياهم بقولنا : ذوقوا عذاب تلك النار المحرقة التى كنتم بها تكذبون .

ففى الاية الكريمة إيجاز بالحذف دل عليه سياق الكلام .

والذوق حقيقته إدراك المطعومات ، والأصل فيه أن يكون فى أمر مرغوب فى ذوقه وطلبه ، والتعبير به هنا عن ذوق العذاب هو لون من التهكم عليهم ، والاستهزاء بهم كما فى قوله - تعالى - { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لَّقَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٞ وَنَحۡنُ أَغۡنِيَآءُۘ سَنَكۡتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتۡلَهُمُ ٱلۡأَنۢبِيَآءَ بِغَيۡرِ حَقّٖ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلۡحَرِيقِ} (181)

180

ثم يندد باليهود الذين وجدوا في أيديهم المال - الذي آتاهم الله من فضله - فحسبوا أنفسهم أغنياء عن الله ، لا حاجة بهم إلى جزائه ، ولا إلى الأضعاف المضاعفة التي يعدها لمن يبذل في سبيله - وهو ما يسميه تفضلا منه ومنة اقراضا له سبحانه - وقالوا في وقاحة : ما بال الله يطلب الينا أن نقرضه من مالنا . ويعطينا عليه الأضعاف المضاعفة ، وهو ينهى عن الربا والأضعاف المضاعفة ؟ ! وهو تلاعب بالألفاظ ينم عن القحة وسوء الأدب في حق الله :

( لقد سمع الله قول الذين قالوا : إن الله فقير ونحن أغنياء . سنكتب ما قالوا ! وقتلهم الأنبياء بغير حق ، ونقول ذوقوا عذاب الحريق . ذلك بما قدمت أيديكم ، وأن الله ليس بظلام للعبيد ) .

وسوء تصور اليهود للحقيقة الإلهية شائع في كتبهم المحرفة . ولكن هذه تبلغ مبلغا عظيما من سوء التصور ومن سوء الأدب معا . . ومن ثم يستحقون هذا التهديد المتلاحق :

( سنكتب ما قالوا ) . .

لنحاسبهم عليه ، فما هو بمتروك ولا منسي ولا مهمل . . وإلى جانبه تسجيل آثامهم السابقة - وهي آثام جنسهم وأجيالهم متضامنة فيه - فكلهم جبلة واحدة في المعصية والإثم :

( وقتلهم الأنبياء بغير حق ) . .

وقد حفظ تاريخ بني إسرائيل سلسلة أثيمة في قتل الأنبياء ، آخرها محاولتهم قتل المسيح عليه السلام . . وهم يزعمون أنهم قتلوه ، متباهين بهذا الجرم العظيم . . !

( ونقول ذوقوا عذاب الحريق ) . .

والنص على " الحريق " هنا مقصود لتبشيع ذلك العذاب وتفظيعه . ولتجسيم مشهد العذاب بهوله وتأججه وضرامه . . جزاء على الفعلة الشنيعة : قتل الأنبياء بغير حق . وجزاء على القولة الشنيعة : إن الله فقير ونحن أغنياء .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{لَّقَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٞ وَنَحۡنُ أَغۡنِيَآءُۘ سَنَكۡتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتۡلَهُمُ ٱلۡأَنۢبِيَآءَ بِغَيۡرِ حَقّٖ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلۡحَرِيقِ} (181)

قال سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما نزل قوله : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } [ البقرة : 245 ] قالت اليهود : يا محمد ، افتَقَرَ ربّك . يَسأل{[6271]} عباده القرض ؟ فأنزل الله : { لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ } الآية . رواه ابن مردويه وابن أبي حاتم .

وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عِكْرمة أنه حدثه عن ابن عباس ، رضي الله عنه ، قال : دخل أبو بكر الصديق ، رضي الله عنه ، بيت المدراس ، فوجد من يهود أناسا كثيرا قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له : فِنْحَاص{[6272]} وكان من علمائهم وأحبارهم ، ومعه حَبْرٌ يقال له : أشيع . فقال أبو بكر : ويحك يا فِنْحَاص{[6273]} اتق الله وأسلم ، فوالله إنك لتعلم أن محمدًا رسول الله ، قد جاءكم بالحق من عنده ، تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل ، فقال فنحاص : والله - يا أبا بكر - ما بنا إلى الله من حاجة من فقر ، وإنه إلينا لفقير . ما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا ، وإنا عنه لأغنياء ، ولو كان عنا غنيًا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم ، ينهاكم عن الربا ويُعْطناه{[6274]} ولو كان غنيا ما أعطانا الربا فغضب أبو بكر ، رضي الله عنه ، فضرب وجه فِنْحَاص ضربًا شديدًا ، وقال : والذي نفسي بيده ، لولا الذي بيننا وبينك من العهد لضربت عنقك يا عدو الله ، فَاكْذبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين ، فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أبصر{[6275]} ما صنع بي صاحبك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : " ما حَمَلَكَ على ما صَنَعْت ؟ " فقال : يا رسول الله ، إن عَدُوَّ الله قد قال قولا عظيما ، زعَم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء ، فلما قال ذلك غَضبْتُ لله مما قال ، فضربت وجهه فجَحَد ذلك فنحاص{[6276]} وقال : ما قلتُ ذلك فأنزل الله فيما قال فنحاص ردا عليه وتصديقًا لأبي بكر : { لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ } الآية . رواه ابن أبي حاتم .

وقوله : { سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا } تهديد ووعيد ؛ ولهذا قرنه بقوله : { وَقَتْلَهُمُ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ } أي : هذا قولهم في الله ، وهذه معاملتهم لرسل الله ، وسيجزيهم الله على ذلك شَرّ الجزاء ؛ ولهذا قال : { وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ . ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ } أي : يقال{[6277]} لهم ذلك تقريعًا وتحقيرًا وتصغيرًا .


[6271]:في ر، و: "فسأل".
[6272]:في ر: "فيحاص".
[6273]:في ر: "فيحاص".
[6274]:في أ، و: "يعطينا".
[6275]:في جـ، ر، أ، و: "فقال: يا محمد، أبصر".
[6276]:في ر: "فيحاص".
[6277]:في جـ، أ، و: "فقال".