ثم بين - سبحانه - بعد ذلك بعض العقوبات التى عاقب بها اليهود بسبب كفرهم وظلمهم فقال : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة أَيْنَ مَا ثقفوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ الله وَحَبْلٍ مِّنَ الناس } .
وأصل الضرب في كلام العرب يرجع إلى معنى التقاء ظاهر جسم بظاهر جسم آخر بشدة يقال ضرب فلان بيده الأرض إذا ألصقها بها ، وتفرعت عن هذا المعنى معان مجازية أخرى ترجع إلى شدة اللصوق .
والذلة على وزن فعلة من قول القائل : ذل فلان يذل ذلة وذلا . والمراج بها الصغار والهوان والحقارة .
فضرب الذلة عليهم كناية عن لزومها لهؤلاء اليهود ، وإحاطتها بهم ، كما يحيط السرادق بمن يكون فى داخله .
قال صاحب الكشاف : جعلت الذلة محيطة بهم مشتملة عليهم ، فهم كمن يكون فى القبة من ضربت عليهم ، أو الصقت بهم حتى لزمتهم ضربة لازب كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه . فاليهود صاغرون أذلاء أهل مسكنة ومدقعة " .
و { ثقفوا } أى وجدوا ، أو ظفر بهم . يقال : ثقفه أى صادفه أو ظفر به أو أدركه . وهذه المادة تدل على التمكن من أخذ الشىء ومن التصرف فيه بشدة ومنها سمى الأسير ثقافا . والثقاف آلة تكسر بها أغماد الرماح .
والحبل : هو ما يربط بين شيئين ويطلق على العهد لأن الناس يرتبطون بالعهود : كما يقع الارتباط الحسى بالحبال ، وهذا الإطلاق هو المراد هنا .
ولذا قال ابن جرير : وأما الحبل الذى ذكره الله - تعالى - فى هذا الموضوع ، فإنه السبب الذى يأمنون به على أنفسهم من المؤمنين وعلى أموالهم وذراريهم من عهد وأمان تقدم لهم عقده قبل أن يثقفوا فى بلاد الإسلام .
والمعنى : أن هؤلاء اليهود أحاطت بهم الذلة فى جميع أحوالهم أينما وجدوا وحيثما حلوا إلا فى حال اعتصامهم بعهد من الله أو بعهد من الناس .
وقد فسر العلماء عهد الله بعقد الجزية الذى يربط بينهم وبين المسلمين .
وإنما كان عقد الجزية عهدا من الله لهم ، لأنه - سبحانه - هو الذى شرعه ، وما شرعه الله فالوفاء به واجب .
وكان عهدا من المسلمين لهم ، لأنهم أحد طرفيه ، فهم الذين باشروه مع اليهود وبمقتضاه يحفظون حقوقهم ودماءهم وأموالهم ؛ ويكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم ، ولعى المسلمين حمايتهم ، وصون أموالهم لقاء مقدار من المال يدفع لهم كل عام وهو المسمى بالجزية .
وأما عهد الناس ، فهو العهود التى يعيشون بمقتضاها فى أى أمة من أمم الأرض مسلمة كانت هذه الأمة أو كافرة .
فإن كانت العهود صادرة من المسلمين ، جاز أن يطلق عليها عهد الله - أيضاً - باعتبار أن الله هو الذى شرعها .
وإن كانت من غير المسلمين فهى عهود من الناس سواء أوافقت شريعة الله تعالى - أم لا .
والمعنى الإجمالي للآية : أن اليهود قد ضرب الله - تعالى - عليهم الذلة والمسكنة فى كل زمان ومكان بسبب كفرهم وطغيانهم ، وسلب عنهم السلطان والملك ، فهم يعيشون فى بقاع الأرض فى حماية غيرهم من الأمم الأخرى ، بمقتضى عهود يعقدونها معهم وقد تكون هذه العهود موافقة لشرع الله - تعالى - وقد لا تكون موافقة .
فإن قال قائل : إنهم الآن أصحاب جاه وسلطان ، بعد أن أنشأوا دولتهم بفلسطين ! !
والجواب : أنهم مع قيام هذه الدولة يعيشون تحت حماية غيرهم من دول الكفر الكبرى . فهى التى تحميهم وتمدهم بأسباب الحياة والقوة ، فينطبق على هذه الحالة - أيضاً - أنها بحبل من الناس . فاليهود لا سلطان لهم ، ولا عزة تكمن فى نفوسهم ، ولكنهم مأمورون مسخرون أن يعيشوا فى تلك البقعة من الأرض لتكون مركزا لتلك الأمم الت تعهدت بحمايتهم ما استطاعوا من قوة لقتال أعداء الله وأعدائهم .
لو أنهم فعلوا ذلك لما كان حالهم كما ترى الآن من ضعف وتخاذل وتفرق والأمل كبير فى أن يتنبه المسلمون إلى ما يحيط بهم من أخطار فيعملوا على دفعها ويعتصموا بحبل الله لتعود لهم قوتهم وهيبتهم .
لو أنهم فعلوا ذلك لما كان حالهم كما ترى الآن من ضعف وتخاذل وتفرق والأمل كبير فى أن يتنبه المسلمون إلى ما يحيط بهم من أخطار فيعملوا على دفعها ويعتصموا بحبل الله لتعود لهم قوتهم وهيبتهم .
هذا ، وقوله : { أَيْنَ مَا } اسم شرط ، وهو ظرف مكان و " ما " مزيدة فيها للتأكيد .
وقوله { ثقفوا } فى محل جزم بها .
وجواب الشرك محذوف يدل عليه ما قبله أى : أينما ثقفوا غلبوا أو ذلوا .
ويجوز أن يكون جواب الشرط قوله { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة } عند من يجوز تقديم جواب الشرط على الشرط .
والاستثناء فى قوله { إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ الله وَحَبْلٍ مِّنَ الناس } مفرغ من عموم الأحوال أى ضربت عليهم الذلة فى عامة الأحوال إلا فى حال اعتصامهم بحبل من الله وحبل من الناس .
ثم ذكر - سبحانه - عقوبتين أخريين أنزلهما بهم جزاء كفرهم وتعديهم لحدوده فقال تعالى : { وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المسكنة } .
قال ابن جرير : قوله - تعالى - { وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله } أى انصرفوا ورجعوا .
ولا يقال باؤوا ، إلا موصولا إما بخير وإما بشر . يقال منه : باء فلان بذنبه يبوء به بوأ وبواء . ومنه قوله - تعالى - { إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } يعنى تنصرف متحملهما ، وترجع بهما قد صارا عليك دونى . فمعنى الكلام إذا : ورجعوا منصرفين متحملين غضب الله ، قد صار عليهم من الله غضب ، ووجب عليهم منه سخط " .
والمسكنة : مفعلة من السكون ، ومنها أخذ لفظ المسكين . لأن الهم قد أثقله فجعله قليل الحركة والنهوض لما به من الفاقة والفقر .
والمراد بها فى الآية الكريمة الضعف النفسي ، والفقر القلبي الذى يستولى على الشخص فيجعله يحس بالهوان مهما تكن لديه من أسباب القوة .
والفرق بينها وبين الذلة : أن الذلة تجىء أسبابها من الخارج . كأن يغلب المرء على أمره نتيجةانتصار عدوه عليه فيذل لهذا العدو .
أما المسكنة فهى تنشأ من داخل النفس نتيجة بعدها عن الحق ، واستيلاء المطامع والشهوات وحب الدنيا عليها .
والمعنى : أن هؤلاء اليهود يجانب ضرب الذلة عليهم حينما حلوا ، قد صاروا فى غضب من الله ، وأصبحوا أحقاء به ، وضربت عليهم كذلك المسكنة التى تجعلهم يحسون بالصغار مهما ملكوا من قوة ومال .
ثم ذكر - سبحانه - الأسباب التى جعلتهم أحقاء بهذه العقوبات فقال - تعالى - : { ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ ذلك بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } .
فاسم الإشارة ذلك يعود إلى تلك العقوبات العادلة التى عاقبهم الله بها بسبب كفرهم وفسقهم .
والآيات : تطلق ويراد بها الأدلة الشاهدة على وحدانية الله - تعالى - وربوبيته وتطلق ويراد بها النصوص التى تشتمل عليها الكتب السماوية ، وتطلق ويراد بها الأدلة الشاهدة على صدق الرسل - عليهم الصلاة والسلام - فيما يبلغون عن الله - تعالى - ، وهى التي يسميها علماء التوحيد بالمعجزات .
وقد كفر اليهود بكل هذه الضروب من الآيات ومردوا على ذلك كما يفيده التعبير بالفعل المضارع { يَكْفُرُونَ } .
أى : ذلك الذى أصابهم من عقوبات رادعة ، سببه أنهم كانوا يكفرون بآيات الله وأدلته الدالة على وحدانيته وعلى صدق رسله - عليهم الصلاة والسلام - وتلك هى جريمة بنى إسرائيل الأولى .
أما جريمتهم الثانية فقد عبر عنها - سبحانه - بقوله { وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ } أى أنهم لم يكتفوا بالكفر ، بل امتدت أيديهم الأثيمة إلى دعاة الحق وهم أنبياء الله - تعالى - الذين أرسلهم لهدايتهم فقتلوهم بدون أدنى شبهة تحمل على الإساءة إليهم فضلا عن قتلهم .
وقال - سبحانه - { بِغَيْرِ حَقٍّ } مع أن قتل الأنبياء لا يكون بحق أبدا . لإفادة أن قتلهم لهم كان بغير وجه معتبر فى شريعتهم لأنها تحرمه .
قال - تعالى - { مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا على بني إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً }
فهذا القيد المقصود به الاحتجاج عليهم بأصول دينهم ، وتخليد مذمتهم ، وتقبيح إجرامهم حيث إنهم قتلوا أنبياءهم بدون خطأ فى الفهم ، أو تأول فى الحكم أو شبهة فى الأمر ، وإنما فعلوا ما فعلوا وهم عالمون بقبح ما ارتكبوا ، ومخالفون لشرع الله عن تعمد وإصرار .
ولذا قال صاحب الكشاف : فإن قلت : قتل الأنبياء لا يكون إلا بغير الحق ، فما فائدة ذكره ؟ قلت : معناه أنهم قتلوهم بغير الحق عندهم ، لأنهم لم يقتلوا ولا أفسدوا فى الأرض فيقتلوا ، وإنما نصحوهم ودعوهم إلى ما ينفعهم فقتلوهم .
فلو سئلوا وأنصفوا من أنفسهم لم يذكروا وجها يستحقون به القتل عندهم .
وقال الفخر الرازى ما ملخصه : فإن : قيل : قال هنا : { وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ } وقال فى سورة البقرة { وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق } فما الفرق ؟ قلت : إن الحق المعلوم بين المسلمين الذى يوجب القتل يتجلى فى حديث : " لا تحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان ، وزنا بعد إحصان وقتل نفس بغير حق " فالحق المذكور فى سورة البقرة إشارة إلى هذا . وأما الحق المنكر هنا فالمراد به تأكيد العموم أى لم يكن هناك أى حق يستندون إليه ، لا هذا الذى يعرفه المسلمون ولا غيره ألبتة .
ونسب - سبحانه - القتل إلى أولئك اليهود المعاصرين للعهد النبوى مع أن القتل قد صدر عن أسلافهم ، لأن أولئك المعاصرين كانوا راضين بفعل آبائهم وأجدادهم ، فصحت نسبة القتل إليهم ، ولأن بعض أولئك المعاصرين قد هَمَّ بقتل النبى صلى الله عليه وسلم فكف الله - تعالى - أيديهم الأثيمة عنه .
ثم سجل الله - تعالى - جريمتهم الثالثة بقوله { ذلك بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } .
العصيان : الخروج عن طاعة الله ، والاعتداء : تجاوز الحد الذى حده الله - تعالى - لعباده إلى غيره وكل متجاوز حد شىء إلى غيره فقد تعداه إلى ما جاوز إليه .
وللمفسرين فى مرجع اسم الإشارة { ذلك } فى قوله { ذلك بِمَا عَصَوْاْ } رأيان :
أولهما : أنه يعود إلى كفرهم بآيات الله وقتلهم لأنبيائه ، وعليه يكون المعنى :
إن هؤلاء اليهود قد ألفوا العصيان لخالقهم والتعدى لحدوده بجرأة وعدم مبالاة ، فنشأ عن هذا التمرد والطغيان أن كفروا بآيات الله وقتلوا أنبياءه ، وباشروا تلك الكبائر بقلوب كالحجارة أو أشد قسوة .
والجملة الكريمة على هذا الرأى تفيد أن التردى فى المعاصى ، وارتكاب ما نهى الله عنه ، وتجاوز الحدود المشروعة ، يؤدى إلى الانتقال من صغير الذنوب إلى كبيرها ومن حقيرها إلى عظيمها لأن هؤلاء اليهود حين استمرأوا المعاصى ، هانت على نفوسهم الفضائل ، وانكسرت أمام شهواتهم كل المثل العليا فكذبوا بآيات الله تكذيبا ، وقتلوا من جاءهم بالهدى ودين الحق .
وثانيهما : أن اسم الإشارة { ذلك } فى قوله { ذلك بِمَا عَصَوْاْ } يعود إلى نفس المشار إليه باسم الإشارة الأول وهو قوله { ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ } .
وتكون الحكمة فى تكرار الإشارة هو تمييز المشار إليه ، حرصاً على معرفته ، ويكون العصيان والاعتداء سببين آخرين لضرب الذلة والمسكنة عليهم واستحقاقهم لغضب الله كما أشرنا من قبل .
والإشارة حينئذ من قبيل التكرير المغنى عن العطف كما فى قوله - تعالى - { أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون } والمعنى : أن هؤلاء اليهود قد لزمتهم الذلة والمسكنة ، وصاروا أحقاء بسخط الله بسبب كفرهم بآياتنا وقتلهم أنبياءنا وخروجهم عن طاعتنا ، وتعديهم حدودنا .
وعلى هذا الرأى يكون ذكر أسباب العقوبة التى حلت بهم فى الدرجة العيا من حسن الترتيب فقد بدأ - سبحانه - بما فعلوه فى حقه وهو كفرهم بآياته . ثم ثنى بما يتلوه فى العظم وهو قتلهم لأنبيائه ، ثم وصمهم بعد ذلك بالعصيان والخروج عن طاعته ، ثم ختم أسباب العقوبة بدمغهم بالاعتداء وتخطى الحدود ، وعدم المبالاة بالعهود .
وهذا الترتيب من لطائف أسلوب القرآن الكريم فى سوق الأحكام مشفوعة بعللها وأسبابها .
وبذلك نرى أن الآيات الكريمة قد بدأت حديثها بمدح الأمة الإسلامية بأنها خير أمة أخرجت للناس ، ثم ثنت بدعوة أهل الكتاب إلى الإسلام وبإخبار المؤمنين بأن أعداءهم لن يضروهم ضررا يؤثر فى كيانهم ما داموا معتصمين بتعاليم دينهم ، ثم ختمت حديثها ببيان العقوبات التى حلت باليهود بسبب كفرهم وبغيهم .
وبعد هذا الحديث المحكم عن أهل الكتاب ، وعن العقوبات التى أنزلها - سبحانه - باليهود بسبب فسقهم وظلمهم ، بعد كل ذلك ساق - سبحانه - آيات كريمة تمدح من يستحق المدح من أهل الكتاب إنصافا لهم وتكريما لذواتهم فقال - تعالى - : { لَيْسُواْ سَوَآءً . . . } .
ذلك أنه قد ( ضربت عليهم الذلة ) وكتبت لهم مصيرا . فهم في كل أرض يذلون ، لا تعصمهم إلا ذمة الله وذمة المسلمين - حين يدخلون في ذمتهم فتعصم دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وتنيلهم الأمن والطمأنينة - ولم تعرف يهود منذ ذلك الحين الأمن إلا في ذمة المسلمين . ولكن يهود لم تعاد أحدا في الأرض عداءها للمسلمين ! . . ( وباءوا بغضب من الله ) كأنما رجعوا من رحلتهم يحملون هذا الغضب . ( وضربت عليهم المسكنة ) تعيش في ضمائرهم وتكمن في مشاعرهم . .
ولقد وقع ذلك كله بعد نزول هذه الآية . فما كانت معركة بين المسلمين وأهل الكتاب إلا كتب الله فيها للمسلمين النصر - ما حافظوا على دينهم واستمسكوا بعقيدتهم ، وأقاموا منهج الله في حياتهم - وكتب لأعدائهم المذلة والهوان إلا أن يعتصموا بذمة المسلمين أو أن يتخلى المسلمون عن دينهم .
ويكشف القرآن عن سبب هذا القدر المكتوب على يهود . فإذا هو سبب عام يمكن أن تنطبق آثاره على كل قوم ، مهما تكن دعواهم في الدين : إنه المعصية والاعتداء :
( ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ، ويقتلون الأنبياء بغير حق . ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ) .
فالكفر بآيات الله - سواء بإنكارها أصلا ، أو عدم الاحتكام إليها وتنفيذها في واقع الحياة - وقتل الأنبياء بغير حق . وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس كما جاء في آية أخرى في السورة - والعصيان والاعتداء . . هذه هي المؤهلات لغضب الله ، وللهزيمة والذلة والمسكنة . . وهذه هي المؤهلات التي تتوافر اليوم في البقايا الشاردة في الأرض من ذراري المسلمين . الذين يسمون أنفسهم - بغير حق - مسلمين ! هذه هي المؤهلات التي يتقدمون بها إلى ربهم اليوم ، فينالون عليها كل ما كتبه الله على اليهود من الهزيمة والذلة والمسكنة . فإذا قال أحد منهم : لماذا نغلب في الأرض ونحن مسلمون ؟ فلينظر قبل أن يقولها : ما هو الإسلام ، ومن هم المسلمون ؟ !
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أخبر عن اليهود، فقال سبحانه: {ضربت عليهم الذلة}، يعني: المذلة، {أين ما ثقفوا}، يعني وجدوا، {إلا بحبل من الله وحبل من الناس}، يقول: لا يأمنوا حيث ما توجهوا إلا بعهد من الله، وعهد من الناس، يعني النبي صلى الله عليه وسلم وحده، {وباءوا بغضب من الله}، يعني استوجبوا الغضب من الله، {وضربت عليهم} الذلة و {المسكنة}، يعني الذل والفقر، {ذلك} الذي نزل بهم {بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك} الذي أصابهم {بما عصوا وكانوا يعتدون} في دينهم بما خبر عنهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بقوله جلّ ثناؤه: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذّلّةُ}: ألزموا الذلة، والذلة: الفعلة من الذُّلّ...
{أيْنَما ثُقِفُوا} يعني: حيثما لقوا. يقول جلّ ثناؤه: ألزم اليهود المكذّبون بمحمد صلى الله عليه وسلم الذلة أينما كانوا من الأرض، وبأيّ مكان كانوا من بقاعها من بلاد المسلمين والمشركين، إلا بحبل من الله، وحبل من الناس... أما الحبل الذي ذكره الله في هذا الموضع، فإنه السبب الذي يأمنون به على أنفسهم من المؤمنين، وعلى أموالهم وذراريهم من عهد وأمان تقدم لهم عقده قبل أن يثقفوا في بلاد الإسلام...
واختلف أهل العربية في المعنى الذي جلب الباء في قوله: {إلاّ بحَبْلٍ مِنَ اللّه وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ}... والقول عندنا أن الباء في قوله: {إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّهِ} أدخلت لأن الكلام الذي قبل الاستثناء مقتض في المعنى الباء، وذلك أن معنى قولهم: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةَ أيْنَما ثُقِفُوا}: ضربت عليهم الذلة بكل مكان ثقفوا، ثم قال: {إلاّ بَحْبلٍ مِنَ اللّهِ وَحبْلٍ مِنَ النّاسِ} على غير وجه الاتصال بالأول، ولكنه على الانقطاع عنه، ومعناه: ولكن يثقفون بحبل من الله وحبل من الناس...
{وَباءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المَسْكَنَةُ ذَلِكَ بأنّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بآياتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقّ}. يعني تعالى ذكره: {وَباءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ}: وتحملوا غضب الله، فانصرفوا به مستحقيه... ومعنى المسكنة؛ ... ذلّ الفاقة والفقر وخشوعهما...
وقوله: {ذَلِكَ بأنّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بآياتِ اللّهِ} يعني جلّ ثناؤه بقوله ذلك: أي بَأوهم الذي باءوا به من غضب الله، وضرب الذلة عليهم، بدل مما كانوا يكفرون بآيات الله، يقول: مما كانوا يجحدون أعلام الله وأدلته على صدق أنبيائه، وما فرض عليهم من فرائضه. {وَيَقْتُلُونَ الأنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقّ} يقول: وبما كانوا يقتلون أنبياءهم ورسل الله إليهم، اعتداء على الله، وجراءة عليه بالباطل، وبغير حقّ استحقوا منهم القتل. فتأويل الكلام: ألزموا الذلة بأيّ مكان لقوا، إلا بذمة من الله وذمة من الناس، وانصرفوا بغضب من الله متحمليه، وألزموا ذلّ الفاقة، وخشوع الفقر، بدلاً مما كانوا يجحدون بآيات الله، وأدلته وحججه، ويقتلون أنبياءه بغير حقّ ظلما واعتداء. القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ}. يقول تعالى ذكره: فعلنا بهم ذلك بكفرهم، وقتلهم الأنبياء، ومعصيتهم ربهم، واعتدائهم أمر ربهم...
فأعلم ربنا جلّ ثناؤه عباده، ما فعل بهؤلاء القوم من أهل الكتاب، من إحلال الذلة والخزي بهم في عاجل الدنيا، مع ما ادّخر لهم في الاَجل من العقوبة والنكال، وأليم العذاب، إذ تعدّوا حدود الله، واستحلوا محارمه، تذكيرا منه تعالى ذكره لهم، وتنبيها على موضع البلاء الذي من قبله أتوا لينيبوا ويذّكروا، وعظة منه لأمتنا، أن لا يستنوا بسنتهم، ويركبوا منهاجهم، فيسلك بهم مسالكهم، ويحلّ بهم من نقم الله ومثلاته ما أحلّ بهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل أن الله تعالى جعل كل حاجتهم إلى ما يفنى، وهو الدنيا التي لا بقاء لها، ولا منفعة في الحقيقة، فهي حاجة. ثم بما فيهم بالجهل أن ذلك فيهم حاجة. ويحتمل أن الله مع ما وسع عليهم الدنيا، جعل في قلوبهم خوف الفقر وأعظم الحاجات، فهي المسكنة...
وقوله تعالى: {ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق} يحتمل وجوها: أن أوائلهم قد قتلوا الأنبياء بغير حق، وهؤلاء رضوا بذلك وإن كانوا لم يتولوهم بأنفسهم، فأضاف الله تعالى ذلك إليهم لأنهم شاركوا في صنيعهم، وهو كقوله: {من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا} [المائدة: 32] ويحتمل أن يكونوا قصدوا قتل محمد صلى الله عليه وسلم فإذا قصدوا ذلك فكأنهم قصدوا الأنبياء كلهم كما ذكرنا في قوله: {من قتل نفسا} الآية [المائدة: 32] ويحتمل أن يكونوا هموا بقتل محمد صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يكون غارهم بآبائهم إذ هم قلدوهم في الدين، فبين سوء صنيعهم بالأنبياء عليهم السلام ليعرفوا به سفههم وسفه كل من قصد تقليدهم، والله أعلم. ويحتمل أن يكونوا قتلوا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم فأضاف [القتل إليهم]، وهو كما أضاف مخادعتهم المؤمنين إلى نفسه وكما أضاف نصر أوليائه إليه، وإن كان لا يخادع، ولا ينصر. فعلى ذلك إضافة القتل إليه لقتلهم الأتباع، والله اعلم.
وهو يعني به اليهود المتقدم ذكرهم. فيه الدلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هؤلاء اليهود صاروا كذلك من الذّلّة والمَسْكَنَةِ إلاّ أن يجعل المسلمون لهم عهد الله وذِمَّته، لأن الحبل في هذا الموضع هو العهد والأمان...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
علَمُ الهجران لا ينكتم، وسِمَةُ البُعْد لا تَخْفَى، ودليل القطيعة لا يستتر؛ فهم في صغار الطرد، وذُلِّ الرد، يعتبر بهم أولو الأبصار، ويغترُّ بهم أضرابُهم من الكفار الفُجَّار...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{إلا بحبل من الله} أي لكن قد يعتصمون بالعهد إذا أعطوه والمعنى أنهم أذلاء في كل مكان إلا أنهم يعتصمون بالعهد والمراد...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{بِحَبْلٍ مّنْ الله} في محل النصب على الحال، بتقدير: إلا معتصمين أو متمسكين أو متلبسين بحبل من الله وهو استثناء من أعم عام الأحوال. والمعنى: ضربت عليهم الذلة في عامّة الأحوال إلا في حال اعتصامهم بحبل الله وحبل الناس، يعني ذمّة الله وذمّة المسلمين، أي لا عز لهم قط إلا بهذه الواحدة وهي التجاؤهم إلى الذمّة لما قبلوه من الجزية {وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ الله} استوجبوه {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المسكنة} كما يضرب البيت على أهله، فهم ساكنون في المسكنة غير ظاعنين عنها، وهم اليهود عليهم لعنة الله وغضبه {ذلك} إشارة إلى ما ذكر من ضرب الذلة والمسكنة والبواء بغضب الله أي ذلك كائن بسبب كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء، ثم قال: {ذلك بِمَا عَصَواْ} أي ذلك كائن بسبب عصيانهم لله واعتدائهم لحدوده ليعلم أنّ الكفر وحده ليس بسبب في استحقاق سخط الله، وأنّ سخط الله يستحق بركوب المعاصي كما يستحق بالكفر. ونحوه {مّمَّا خطيئاتهم أُغْرِقُواْ} [نوح: 25]، {وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أموال الناس بالباطل} [النساء: 161]...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
الحبل: العهد، شبه به لأنه يصل قوماً بقوم كما يفعل الحبل في الأجرام، و {باءوا} معناه مضوا متحملين لهذا الحكم، و «غضب الله عليهم»، بما دلت عليه هذه الأمور التي أوقع بهم، وأفعال بني إسرائيل على وجه الدهر من التعنت والعصيان توجب الغضب، فلذلك خصوا به، والنصارى إنما ضلوا فقط، و {المسكنة} التذلل والضعة، وهي حالة الطواف الملتمس للقمة واللقمتين المضارع المفارق لحالة التعفف والتعزز به، فليس أحد من اليهود وإن كان غنياً إلا وهو بهذه الحال، وقوله تعالى: {ذلك} إشارة إلى الغضب وضرب الذلة والمسكنة، فعاقبهم الله على كفرهم وقتلهم الأنبياء بذلك، و {آيات الله}: يحتمل أن يراد بها المتلوة، ويحتمل أن يريد العبر التي عرضت عليهم، وقوله: {بغير حق} تأكيد ومبالغة وقطع لما عسى أن يكون في وهم إنسان ممكناً بوجه ما، وقوله تعالى: {ذلك بما عصوا} حمله المفسرون على أن الإشارة بذلك إلى الشيء الذي أشير إليه بذلك الأول، قاله الطبري والزجّاج وغيرهما. والذي أقول: إن الإشارة ب {ذلك} الأخير إنما هي إلى كفرهم وقتلهم، وذلك أن الله تعالى، استدرجهم فعاقبهم على العصيان والاعتداء بالمصير إلى الكفر وقتل الأنبياء، وهو الذي يقول أهل العلم: إن الله تعالى يعاقب على المعصية بالإيقاع في معصية، ويجازي على الطاعة بالتوفيق إلى الطاعة، وذلك موجود في الناس إذا تأمل، وعصيان بني إسرائيل واعتداؤهم في السبت وغيره متقرر في غير ما موضع من كتاب الله، وقال قتادة رحمه الله عندما فسر هذه الآية: اجتنبوا المعصية والعدوان فإن بها أهلك من كان قبلكم من الناس.
اعلم أنه تعالى لما بين أنهم إن قاتلوا رجعوا مخذولين غير منصورين ذكر أنهم مع ذلك قد ضربت عليهم الذلة...
[و] الذلة هي الذل، وفي المراد بهذا الذل أقوال... [منها]: وهو الأقوى أن المراد أن يحاربوا ويقتلوا وتغنم أموالهم وتسبى ذراريهم وتملك أراضيهم فهو كقوله تعالى: {اقتلوهم حيث ثقفتموهم} [البقرة: 191]. ثم قال تعالى: {إلا بحبل من الله} والمراد إلا بعهد من الله وعصمة وذمام من الله ومن المؤمنين لأن عند ذلك تزول الأحكام، فلا قتل ولا غنيمة ولا سبي...
[و] المراد من حبل الله عهده، وقد ذكرنا فيما تقدم أن العهد إنما سمي بالحبل لأن الإنسان لما كان قبل العهد خائفا، صار ذلك الخوف مانعا له من الوصول إلى مطلوبه، فإذا حصل العهد توصل بذلك العهد إلى الوصول إلى مطلوبه، فصار ذلك شبيها بالحبل الذي من تمسك به تخلص من خوف الضرر. فإن قيل: إنه عطف على حبل الله حبلا من الناس وذلك يقتضي المغايرة فكيف هذه المغايرة؟ قلنا:... والذي عندي فيه أن الأمان الحاصل للذمي قسمان أحدهما: الذي نص الله عليه وهو أخد الجزية والثاني: الذي فوض إلى رأي الإمام فيزيد فيه تارة وينقص بحسب الاجتهاد فالأول: هو المسمى بحبل الله والثاني: هو المسمى بحبل المؤمنين والله أعلم.
ثم قال: {وباؤوا بغضب من الله} وقد ذكرنا أن معناه: أنهم مكثوا، ولبثوا وداموا في غضب الله، وأصل ذلك مأخوذ من البوء وهو المكان، ومنه: تبوأ فلان منزل كذا وبوأته إياه، والمعنى أنهم مكثوا في غضب من الله وحلوا فيه، وسواء قولك: حل بهم الغضب وحلوا به...
[سؤال:] لم كرر قوله {ذلك بما عصوا} وما الحكمة فيه ولا يجوز أن يقال التكرير للتأكيد، لأن التأكيد يجب أن يكون بشيء أقوى من المؤكد، والعصيان أقل حالا من الكفر فلم يجز تأكيد الكفر بالعصيان؟. والجواب من وجهين الأول: أن علة الذلة والغضب والمسكنة هي الكفر وقتل الأنبياء، وعلة الكفر وقتل الأنبياء هي المعصية، وذلك لأنهم لما توغلوا في المعاصي والذنوب فكانت ظلمات المعاصي تتزايد حالا فحالا، ونور الإيمان يضعف حالا فحالا، ولم يزل كذلك إلى أن بطل نور الإيمان وحصلت ظلمة الكفر، وإليه الإشارة بقوله {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} [المطففين: 14] فقوله {ذلك بما عصوا} إشارة إلى علة العلة ولهذا المعنى قال أرباب المعاملات، من ابتلي بترك الآداب وقع في ترك السنن، ومن ابتلي بترك السنن وقع في ترك الفريضة، ومن ابتلي بترك الفريضة وقع في استحقار الشريعة، ومن ابتلي بذلك وقع في الكفر.
الثاني: يحتمل أن يريد بقوله {ذلك بأنهم كانوا يكفرون} من تقدم منهم، ويريد بقوله {ذلك بما عصوا} من حضر منهم في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا لا يلزم التكرار، فكأنه تعالى بين علة عقوبة من تقدم، ثم بين أن من تأخر لما تبع من تقدم كان لأجل معصيته وعداوته مستوجبا لمثل عقوبتهم حتى يظهر للخلق أن ما أنزله الله بالفريقين من البلاء والمحنة ليس إلا من باب العدل والحكمة.
جهود القرافي في التفسير 684 هـ :
- هذه الباء تحتمل أيضا المصاحبة كما تقدم، وتحتمل السببية، وهو الظاهر. وتقدير الكلام: الذلة لازمة لهم مع كل الأسباب المتخيلة إلا هذا السبب. فإن الذلة تنتفي عنهم بسببه. فإن قلتم: هل الحبلان المذكوران واحد أو متعددان؟ وما معنى الحبل في هذه الآية؟ قلت: قال الزجاج: الحبل هاهنا: العهد، أي: هم مقتولون مذلون مهانون إلا أن يحصل هذا السبب. قلت: ويحتمل أن يكون هذان الحبلان واحدا، فإن العهد واحد في نفسه، وله نسبة إلى الله تعالى بالمشروعية وإلى الخلق بالمباشرة، فلذلك حسن التعدد في الإضافة في اللفظ. ويحتمل أن يكون حبلين، ويكون حبل الله تعالى: إذنه للناس في المعاهدة، وحبل الناس: المباشرة والمعاهدة، فإذا أذن الله تعالى وعقد المؤمنون لهم العهد عصمت دماؤهم وأموالهم وذهبت ذلة وخوف الموت. وسمي العهد حبلا مجازا، من باب مجاز التشبيه، لأن الحبل شأنه أن يصل بين الشيئين، وهذا العهد وصل بين المؤمنين واليهود حتى صاروا كالملة الواحدة من جهة عدم القتل والقتال، وهذا هو شأن الملة الواحدة، ووقع الأمن والأمان. (الاستغناء: 496-497)...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
قال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} أي: وإنما حملهم على ذلك الكبْر والبَغْي وَالْحسَد، فأعْقَبَهم ذلك الذِّلة والصَّغَار والمسكنة أبدا، متصلا بذلة الآخرة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أخبر عنهم سبحانه وتعالى بهذا الذل أتبعه الإخبار بأنه في كل زمان وكل مكان معاملة منه لهم بضد ما أرادوا، فعوضهم عن الحرص على الرئاسة إلزامهم الذلة، وعن الإخلاد إلى المال إسكانهم المسكنة، وأخبر أن ذلك لهم طوق الحمامة غير مزائلهم إلى آخر الدهر باقٍ في أعقابهم بأفعالهم هذه التي لم ينابذهم فيها الأعقاب فقال سبحانه وتعالى مستأنفاً: {ضربت عليهم الذلة} وهي الانقياد كرهاً، وأحاطت بهم كما يحيط البيت المضروب بساكنه {أين ما ثقفوا} أي وجدهم من هو حاذق خفيف فطن في كل مكان وعلى كل حال {إلا} حال كونهم معتصمين {بحبل} أي عهد وثيق مسبب للأمان، وهو عهد الجزية وما شاكله {من الله} أي الحائز لجميع العظمة {وحبل من الناس} أي قاطبة: الذي آمنوا وغيرهم، موافقٍ لذلك الحبل الذي من الله سبحانه وتعالى. ولما كان الذل ربما كان مع الرضى ولو من وجه قال: {وبآءوا} أي رجعوا عما كانوا فيه من الحال الصالح {بغضب من الله} الملك الأعظم، ملازمٍ لهم، ولما كان الوصفان قد يصحبهما اليسار قال: {وضربت} أي مع ذلك {عليهم} أي كما يضرب البيت {المسكنة} أي الفقر ليكونوا بهذه الأوصاف أعرق شيء في الذل، فكأنه قيل: لم استحقوا ذلك؟ فقيل: {ذلك} أي الإلزام لهم بما ذكر {بأنهم} أي أسلافهم الذين رضوا هم فعلهم {كانوا يكفرون} أي يجددون الكفر مع الاستمرار {بآيات الله} اي الملك الأعظم الذي له الكمال كله، وذلك أعظم الكفر لمشاهدتهم لها مع اشتمالها من العظم على ما يليق بالاسم الأعظم {ويقتلون الأنبياء} أي الآتين من عند الله سبحانه وتعالى حقاً على كثرتهم بما دل عليه جمع التكسير، فهو أبلغ مما في أولها الأبلغ مما في البقرة ليكون ذمهم على سبيل الترقي كما هي قاعدة الحكمة. ولما كانوا معصومين ديناً ودنيا قال: {بغير حق} أي يبيح قتلهم؛ ثم علل إقدامهم على هذا الكفر بقوله: {ذلك} أي الكفر والقتل العظيمان {بما عصوا وكانوا} أي جبلة وطبعاً {يعتدون} أي يجددون تكليف أنفسهم الاعتداء، فإن الإقدام على المعاصي والاستهانة بمجاوزة الحدود يهوّن الكفر...
تيسير التفسير لاطفيش 1332 هـ :
{إلاّ بِحَبْلٍ مّنَ اللهِ} أي في جميع الأحوال إلا حال تلبسهم بعهد الله، وهو أيضاً حبل من الناس، كما قال {وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ} وهما حبل واحد، كان من الله بخلقه، ومن الناس يجريه على أيديهم، وذلك أن يقضى الله أن يكونوا تحت إمام أو رئيس مسلم بالجزية، أو يحسب ما يظهر له مما هو صلاح للإسلام، أو تحت كافر يرد عنهم الظلم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
"ثقفوا": وجدوا. والذلة: -بكسر الذال- ضرب مخصوص من الذُّل، لأنها من الصيغ التي تدل على الهيئة، قيل: المراد بها هنا... ما يحدثه في النفس فَقْد السلطة...
قال الأستاذ الإمام: أي أن حالهم معكم أن يكونوا أذلاء مهضومي الحقوق رغم أنوفهم إلا بحبل من الله، وهو ما قررته شريعته لهم إذ دخلوا في حكمكم من المساواة في الحقوق والقضاء وتحريم إيذائهم وهضم شيء من حقوقهم، وحبل من الناس وهو ما تقتضيه المشاركة في المعيشة من احتياجكم إليهم واحتياجهم إليكم في بعض الأمور. أي فهذا القدر المستثنى من عموم الذلة لم يأتهم من أنفسهم وإنما جاءهم من غيرهم، فهم لا عزة لهم في أنفسهم لأن السلطان والملك قد فقدا منهم. وأنت ترى أن هذا الذي قاله الأستاذ الإمام أظهر وأشد انطباقا على الواقع، فلقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحسن معاملتهم ويقترض منهم، وكذلك كان الخلفاء الراشدون يفعلون وقضية علي مع اليهودي عند عمر مشهورة، وفيها أن عليا أنكر على عمر مخاطبته أمام خصمه اليهودي بالكنية، وفيها تعظيم ينافي المساواة بينهما...
وقد فسر بعضهم المسكنة بالفقر... قال الأستاذ الإمام هنا: إن المسكنة حالة للشخص منشؤها استصغاره لنفسه حتى لا يدعي له حقا والذلة حالة تعتري الشخص من سلب غيره لحقه وهو يتمناه، فمنشؤها وسببها غيره لا نفسه كالمسكنة...
ثم علل تعالى هذا الجزاء وبين سببه فقال: (ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق)...
وفي التنصيص على كون ذلك بغير حق مع العلم به تغليظ عليهم وتشنيع على تحريهم الباطل وكون ذلك عن عمد لا عن خطأ. ثم بين سبب هذا الكفر والعدوان الشنيع فقال: (ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) أي جرأهم على ذلك سبق المعاصي والاستمرار على الاعتداء فتدرجوا من الصغائر إلى الكبائر إلى أكبر الموبقات وهو الكفر وقتل الأنبياء المرشدين والهداة الصالحين الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؛ فصار هذا العصيان والاعتداء خلقا للأمة وطبعا يتوارثه الأبناء عن الآباء بلا نكير، ولهذا نسب إلى متأخريهم عمل متقدميهم والأمم متكافلة ينسب إلى مجموعها ما فشا فيهم وإن ظهر بعض آثاره في زمن دون زمن...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أخبر تعالى أنه عاقبهم بالذلة في بواطنهم والمسكنة على ظواهرهم، فلا يستقرون ولا يطمئنون...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ذلك أنه قد (ضربت عليهم الذلة) وكتبت لهم مصيرا. فهم في كل أرض يذلون، لا تعصمهم إلا ذمة الله وذمة المسلمين -حين يدخلون في ذمتهم فتعصم دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وتنيلهم الأمن والطمأنينة- ولم تعرف يهود منذ ذلك الحين الأمن إلا في ذمة المسلمين. ولكن يهود لم تعاد أحدا في الأرض عداءها للمسلمين!.. (وباءوا بغضب من الله) كأنما رجعوا من رحلتهم يحملون هذا الغضب. (وضربت عليهم المسكنة) تعيش في ضمائرهم وتكمن في مشاعرهم.. ولقد وقع ذلك كله بعد نزول هذه الآية. فما كانت معركة بين المسلمين وأهل الكتاب إلا كتب الله فيها للمسلمين النصر -ما حافظوا على دينهم واستمسكوا بعقيدتهم، وأقاموا منهج الله في حياتهم- وكتب لأعدائهم المذلة والهوان إلا أن يعتصموا بذمة المسلمين أو أن يتخلى المسلمون عن دينهم. ويكشف القرآن عن سبب هذا القدر المكتوب على يهود. فإذا هو سبب عام يمكن أن تنطبق آثاره على كل قوم، مهما تكن دعواهم في الدين: إنه المعصية والاعتداء: (ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله، ويقتلون الأنبياء بغير حق. ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون). فالكفر بآيات الله -سواء بإنكارها أصلا، أو عدم الاحتكام إليها وتنفيذها في واقع الحياة- وقتل الأنبياء بغير حق. وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس كما جاء في آية أخرى في السورة -والعصيان والاعتداء.. هذه هي المؤهلات لغضب الله، وللهزيمة والذلة والمسكنة.. وهذه هي المؤهلات التي تتوافر اليوم في البقايا الشاردة في الأرض من ذراري المسلمين. الذين يسمون أنفسهم- بغير حق -مسلمين! هذه هي المؤهلات التي يتقدمون بها إلى ربهم اليوم، فينالون عليها كل ما كتبه الله على اليهود من الهزيمة والذلة والمسكنة. فإذا قال أحد منهم: لماذا نغلب في الأرض ونحن مسلمون؟ فلينظر قبل أن يقولها: ما هو الإسلام، ومن هم المسلمون؟!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ومعنى ضرب الذلّة: اتَّصالها بهم وإحاطتها، ففيه استعارة مكنية وتبعية شبّهت الذلّة، وهي أمر معقول، بقية أو خيمة شملتهم وشبّه اتّصالها وثباتها بضرب القبة وشَدّ أطنابها، وقد تقدّم نظيره في البقرة.
و {ثُقفُوا} في الأصل: أخذوا في الحرب {فإمّا تثقفنّهم في الحرب} [الأنفال: 57] وهذه المادة تدلّ على تمكّن من أخذ الشيء، وتصرّف فيه بشدّة، ومنها سمي الأسْر ثِقافاً، والثقاف آلة كالكلُّوب تكسر به أنابيب قنا الرّماح...
والمعنى هنا: أينما عثر عليهم، أو أينما وجدوا، أي هم لا يوجدون إلا محكومين، شبّه حال ملاقاتهم في غير الحرب بحال أخذ الأسير لشدّة ذلّهم.
وقوله {إلا بحبل من الله وحبل من الناس} الحبل مستعار للعهد، وتقدّم ما يتعلق بذلك عند قوله تعالى {فقد استمسك بالعروة الوثقى} في سورة البقرة (256) وعهد الله ذمّته، وعهد النَّاس حلفهم، ونصرهم، والاستثناء من عموم الأحوال وهي أحوال دلّت عليها الباء التي للمصاحبة. والتَّقدير: ضربت عليهم الذلّة متلبِّسين بكُلّ حال إلاّ متلبّسين بعهد من الله وعهد من النَّاس، فالتَّقدير: فذهبوا بذلّة إلاّ بحبل من الله.
والمعنى لا يسلمون من الذلّة إلاّ إذا تلبَّسُوا بعهد من الله، أي ذمّة الإسلام، أو إذا استنصروا بقبائل أولى بأس شديد، وأمّا هم في أنفسهم فلا نصر لهم. وهذا من دلائل النُّبوّة فإنّ اليهود كانوا أعزّة بيثربَ وخيبر والنضير وقريظة، فأصبحوا أذلّة، وعمَّتهم المذلّة في سائر أقطار الدنيا.
{وباءوا بغضب من الله} أي رجعوا وهو مجاز لمعنى صاروا إذ لا رجوع هنَا.
والمسكنة الفقر الشَّديد مشتقة من اسم المسكين وهو الفقير، ولعلّ اشتقاقه من السكون وهو سكون خيالي أطلق على قلّة الحيلة في العيش. والمراد بضرب المسكنة عليهم تقديرها لهم وهذا إخبار بمغيّب لأن اليهود المخبر عنهم قد أصابهم الفقر حين أخذت منازلهم في خيبر والنَّضِير وقينُقاع وقُريظةَ، ثُمّ بإجلائهم بعد ذلك في زمن عمر.
{ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بآيات الله وَيَقْتُلُونَ الانبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ ذلك بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ}.
الإشارة إلى ضرب الذلّة المأخوذ من {ضربت عليهم الذلّة}. ومعنى {يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء} تقدّم عند قوله تعالى: {إنّ الذين يكفرون بآيات الله} [آل عمران: 21] أوائل هذه السورة.
وقوله: {ذلك بما عَصوا وكانوا يعتدون} يحتمل أن يكون إشارة إلى كفرهم وقتلهم الأنبياء بغير حقّ، فالباء سبب السبب، ويحتمل أن يكون إشارة ثانية إلى ضرب الذلّة والمسكنة فيكون سبباً ثانياً. (وما) مصدرية أي بسبب عصيانهم واعتدائهم، وهذا نشر على ترتيب اللفّ فكفرهم بالآيات سببه العصيان، وقتلهم الأنبياء سببه الاعتداء.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس} أي: أحاطت بهم الذلة كما يحيط السرادق بمن فيه، وكما تحيط القبة بما في داخلها، فهم في نشاطهم وحركتهم في ذلة، لا ينتقلون من ذل إلا إلى ذل، و {أين ما ثقفوا} معناها: أينما وجدوا جماعات ووحدانا، فجماعاتهم في ذلة، وآحادهم في جبن، ذلك بأنهم فقدوا الإيمان بالله، والاعتزاز بعزته، فاعتمدوا على عزة من الناس، ومن اعتمد على أن يستمد عزته من غير الله فهو الذليل، فأولئك الذين فقدوا الإذعان لأحكام الله تعالى قد استعانوا بغير الله، فحقت عليهم كلمة الذلة. ولقد استثنى سبحانه حالا يرتفعون فيها من الذلة فقال تعالى: {إلا بحبل من الله وحبل من الناس}... فالمعنى لا ترفع الذلة عن هؤلاء اليهود إلا بعهد من الله تعالى وعهد من الناس، وذلك العهد هو عقد الجزية... وهذا تفسير حسن، وهو مشتق من قواعد الإسلام ذاتها وأحكامه المقررة الثابتة، ولكن يلاحظ أن الله سبحانه قرر الاستثناء أن حبل العزة هو حبل من الناس، ولم يذكر أنه حبل من المؤمنين؛ إذ يقول سبحانه: {إلا بحبل من الله وحبل من الناس} ولذلك يصح أن نفسره بما هو أعم من الجزية، فإن حبل الناس أوسع من معنى الجزية، وإن ذلك يفسره بعض الوقائع التي تجري في العصور الأخيرة، فقد كانت لهم عزة وقتية بسبب اتصالهم ببعض الناس، وتخاذل المسلمين عن الأخذ بحكم الكتاب والسنة والهدى الإسلامي، ولكنه على كل حال استثناء؛ لأن الله ضرب عليهم الذلة، وإنه ليرجى أن يعود الإسلام كما بدأ في قلوب أهله، فيتحقق وعد الله لهم، إذا تحققت أسبابه...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وإذا كانوا يعيشون هذه الهزيمة النفسية في حياتهم، فإنَّ ذلك يوحي لهم بعدم الثقة بالنفس، ما يدفعهم إلى الابتعاد عن الاندماج في المجتمعات الأخرى خوفاً من عواقب التحدّي، فيظلّون على الهامش من ناحية ذاتية، وهذا ما تعبّر عنه الآية:] ضربت عليهم الذِّلَّةُ أين ما ثقفوا [أي وجدوا، لأنَّ قضية العزّ والذل لا تنبع من خارج الذات بل تنطلق من داخلها، من خلال الشعور بالقوّة والاكتفاء والاستقرار الروحي، فإذا فقدت ذلك كنت ذليلاً في نفسك وإن أحاطت بك مظاهر العزّ من حولك، وهذا ما عاشه اليهود في مختلف العصور مع سائر الأمم، فقد كانوا يعيشون هاجس الخوف من الآخرين، ما جعلهم يعيشون العزلة، ويوحون لغيرهم من خلال ذلك باضطهادهم نتيجة فقدان روح المقاومة التي تتحدّى الموت عندهم. وهكذا كانت القضية في التاريخ، ولكن ذلك لا يمنع من أن يملكوا بعض زمام القوّة في مراحل أخرى من الحاضر والمستقبل، لأنَّ الظروف الموضوعية التي تحيط بحركة الحياة، ربَّما تفسح المجال للذليل أن يكون عزيزاً، وللضعيف أن يكون قوياً، لا من جهة العزّة والقوّة الداخليتين، بل من جهة ضعف الآخرين، ووقوفهم في مواقع الذِّلَّة، وبذلك تمتد لهؤلاء الفرصة] إلاَّ بحبل من اللّه [في ما تقدّره من ارتباط المسببّات بأسبابها،] وحبل من النَّاس [في ما يهيّئونه لهم من وسائل القوّة الخارجية السياسية والعسكرية وغير ذلك. بين ضرب الذِّلَّة على اليهود وسيطرتهم على مقدرات العالم: وبهذا كانت المسألة في الآية في موضوع ضرب الذّلّة على اليهود خاضعةً للحالة الذاتية التي يعيشونها على أساس عقدتهم التاريخية في الشعور بالانفصال عن الآخرين، ما يوحي بالانكماش والعزلة الروحيّة التي تختزن الخوف والذّلّة النفسية، فلا مانع من أن يحصلوا على القوّة من خارج. ومن هنا، لا تبقى أمامنا مشكلة الواقع الذي يعيشه اليهود الآن في سيطرتهم على مقدرات العالم السياسيّة والماليّة من خلال ما استطاعوا أن يحصلوا عليه من مراكز القوى في مختلف أنحاء العالم، الأمر الذي أدّى إلى سيطرتهم على أرض فلسطين وتشريدهم أهلها منها؛ فإنَّ ذلك كان من خلال المعادلات السياسيّة العالميّة التي تمكنوا من استغلالها واللعب على تناقضاتها بمختلف أساليب اللف والدوران، التي كانت تصل بهم إلى أهدافهم من مواقع إثارة حالة الاضطهاد التي عانوها، ما جعل العالم الأوروبي يعيش عقدة الذنب تجاه مشكلتهم... هذا بالإضافة إلى ضعف المسلمين وانسحابهم من الساحة وتخاذلهم وابتعادهم عن القاعدة الفكرية التي تمنحهم قوّة الروح والموقف؛ ما جعل كلّ فئةٍ تعيش مشاكلها الخاصّة بعيداً عن مشاكل بقية المسلمين، وذلك من خلال الحدود والشخصيات المصطنعة التي وضعت لكلّ جماعة منهم، فلم يواجهوا المخططات اليهودية بوجهٍ واحد قويّ، بل واجهوها بالأساليب المهزومة الضعيفة؛ وربَّما حاول الكثيرون منهم أن يشاركوا في دعم تلك المخططات لحساب القوى الاستعمارية الكافرة التي يرتبطون بها سياسياً واقتصادياً وعسكرياً...
إنَّ خلاصة الفكرة القرآنية هي أنَّ اليهود شعب معقّد معزول عن العالم من خلال العقد التاريخية والجرائم الكثيرة التي قام بها تجاه الحياة في مقدساتها وقضاياها... فلا يمكن له أن يستقل ويتقدّم ويأخذ بأسباب العزّة من ناحية ذاتية، بل لا بُدَّ في ذلك من وجود ظروف للآخرين تسهّل لهم مهمة القفز إلى المواقع التي تركها الآخرون أو سهلوا لهم أمر السيطرة عليها...] وباءوا بغضبٍ من اللّه وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنَّهم كانوا يكفرون بآيات اللّه ويقتلون الأنبياء بغير حقٍّ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون [في ضعف الروح التي تعيش الهزيمة. إنَّ السبب في ذلك هو الكفر المستمر بآيات اللّه التي يظهرها على أيدي أنبيائه الذين لا يتعاطفون معهم، وجرائمهم الكثيرة في قتل الأنبياء بغير حقّ ومعصيتهم وعدوانهم، الأمر الذي فرض عليهم العقوبة في الدُّنيا والآخرة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إن الآيات المذكورة وإن لم تصرح باسم اليهود ولكن بقرينة القرائن الموجودة في هذه الآية والآيات السابقة وكذا بقرينة الآية 61 من سورة البقرة ونظائرها ممّا صرّح فيه باسم اليهود يستفاد أن قوله تعالى: (ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلاّ بحبل من الله وحبل من الناس) يرتبط باليهود، ويعنيهم.
ففي هذا المقطع من الآية يقول سبحانه: أن أمام اليهود طريقين يستطيعون بهما أن يتخلصوا من لباس الذلة:
إما أن يعودوا إلى الله، ويعقدوا حبلهم بحبله، وإما أن يتمسكوا بحبل من الناس، ويعتمدوا على هذا وذاك، ويعيشوا ذيولاً وأتباعاً للآخرين.
وتعني لفظة «ثقفوا» المأخوذة من «ثقف» على وزن «سقف». الحذق في إدراك الشيء، والظفر به بمهارة.
ويقصد القرآن من ذلك: أن اليهود أينما وجدوا فإنهم يوجدون وقد ختموا بخاتم الذلة على جباههم مهما حاولوا إخفاء ذلك ـ وكان ذلك هي الصفة البارزة لهم بسبب مواقفهم المشينة من تعاليم السماء، ورسالات الأنبياء العظام، إلاَّ إذا عادوا إلى منهج السماء، أو استعانوا بهذا أو ذاك من الناس لتخليصهم من هذا الذل. وإنقاذهم من هذا الهوان.
وأما التعبير بـ (حبل من الله وحبل من الناس) وإن ذهب المفسّرون فيه إلى احتمالات عديدة، بيد أن ما قد ذكر قريباً يمكن أن يقال بأنه أنسب إلى الآية من بقية الاحتمالات، لأنه عندما يوضع «حبل الله» في قبال «حبل من الناس» يتبين أن هناك معنى متقابلاً متفاوتاً لهما لا أن الأول بمعنى الإيمان بالله، والثاني بمعنى العهد المعطى لهم من جانب المسلمين على وجه الأمان والذمة.
وعلى هذا تكون خلاصة المفهوم من هذه الآية هي: إن على اليهود أن يعيدوا النظر في برنامج حياتهم، ويعودوا إلى الله، ويمسحوا عن أدمغتهم كلّ الأفكار الشيطانية، وكلّ النوايا الشريرة، ويطرحوا النفاق والبغضاء للمسلمين جانباً، أو أن يستمروا في حياتهم النكدة المزيجة بالنفاق، مستعينين بهذا أو ذاك. فإما الإيمان بالله والدخول تحت مظلته وفي حصنه الحصين، وإما الاعتماد على معونة الناس الواهية. والاستمرار في الحياة التعسة.
لقد كان أمام اليهود طريقان: إما أن يعودوا إلى منهج الله، وإما أن يبقوا على سلوكهم فيعيشوا أذلاء ما داموا، ولكنهم اختاروا الثاني ولهذا لزمتهم الذلة (وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة).
ولفظة «باءوا» تعني في الأصل المراجعة واتخاذ السكنى، وقد استخدمت هنا للكناية عن الاستحقاق فيكون المعنى: أن اليهود بسبب إقامتهم على المعاصي استحقوا الجزاء الإلهي، واختاروا غضب الله كما يختار الإنسان مسكناً ومنزلاً للإقامة.
وأمّا لفظة «مسكنة» فتعني الذلة والانقطاع الشديد الذي لا تكون معه حيلة أبداً، وهي مأخوذة من السكون أصلاً، لأن المساكين لشدة ما بهم من الفقر والضعف لا يقدرون على أية حركة، بل هم سكون وجمود.
ثمّ إنه لابدّ من الالتفات إلى أن المسكين لا يعني المحتاج والمعدم من الناحية المالية خاصّة، بل يشمل هذا الوصف كلّ من عدم الحيلة والقدرة على جميع الأصعدة، فيدخل فيه كلّ ضعف وعجز وافتقار شديد.
ويرى البعض أن الفرق بين الذلة والمسكنة هو أن الذلة ما كان مفروضاً على الإنسان من غيره، بينما تكون المسكنة ناشئة من عقدة الحقارة وازدراء الذات، أي أن المسكين هو من يستهين بشخصيته ومواهبه وذاته، فتكون المسكنة نابعة من داخله، بينما تكون الذلة مفروضة من الخارج.
وعلى هذا الأساس يكون مفاد قوله تعالى (وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة) هو: أن اليهود بسبب إقامتهم على المعاصي وتماديهم في الذنوب أصيبوا بأمرين: أولاً: طردوا من جانب المجتمع وحل عليهم غضب الله سبحانه، وثانياً: إن هذه الحالة «أي الذلة» أصبحت تدريجاً صفة ذاتية لازمة لهم حتّى أنهم رغم كلّ ما يملكون من إمكانيات وقدرات مالية وسياسية، يشعرون بحقارة ذاتية، وصغار باطني، ولهذا لا نجد أي استثناء في ذيل هذه الجملة من الآية.
وهذا هو ما يشير إليه قوله سبحانه إذ يقول: (ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله * ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) وبذلك يشير سبحانه إلى علة هذا المصير الأسود الذي يلازم اليهود، ولا يفارقهم.
إنهم لم يصابوا بما أصيبوا به من ذلة ومسكنة، وحقارة وصغار لأسباب قومية عنصرية أو ما شابه ذلك، بل لما كانوا يرتكبونه من الأعمال فهم:
أولاً: كانوا ينكرون آيات الله ويكذبون بها.
ثانياً: يصرون على قتل الأنبياء الهداة الذين ما كانوا يريدون سوى إنقاذ الناس من الجهل والخرافة، وتخليصهم من الشقاء والعناء.
ثالثاً: إنهم كانوا يرتكبون كلّ فعل قبيح، ويقترفون كلَّ جريمة نكراء، ويمارسون كلّ ظلم فظيع، وتجاوز على حقوق الآخرين، ولا شكّ أن أي قوم يرتكبون مثل هذه الأُمور يصابون بمثل ما أصيب به اليهود، ويستحقون ما استحقوه من العذاب الأليم والمصير الأسود.
إن التاريخ اليهودي الزاخر بالأحداث والوقائع يؤيد ما ذكرته الآيات السابقة تأييداً كاملاً، كما أن وضعهم الحاضر هو الآخر خير دليل على هذه الحقيقة، أي أن الذلة اللازمة لليهود والصغار الملتصق بهم أينما حلوا ونزلوا، ليس حكماً تشريعياً كما قال بعض المفسّرين، بل هو قضاء تكويني، وهو حكم التاريخ الصارم الذي يقضي بأن يلازم الذلة، ويصاب بالصغار كلّ قوم يتمادون في الطغيان، ويغرقون في الآثام، ويتجاوزون على حقوق الآخرين وحدودهم، ويسعون في إبادة القادة المصلحين والهداة المنقذين، إلاَّ أن يعيد هؤلاء القوم النظر في سلوكهم، ويغيروا منهجهم وطريقتهم، ويرجعوا ويعودوا إلى الله، أو يربطوا مصيرهم بالآخرين ليعيشوا بعض الأيام في ظل هذا أو ذاك كما هي حال الصهيونية اليوم.
فإن الصهيونية التي تعادي المسلمين اليوم وتحارب الإسلام نجدها لا تستطيع الوقوف أمام الأخطار التي تهددها إلاَّ بالاعتماد على الآخرين، وحمايتهم رغم كلّ ما تملك من الثروات والقدرات الذاتية، وكلّ هذا يؤكد ويؤيد ما ذكرته هذه الآيات وما يستفاد منها من الحقائق، ولا شكّ أن هذا الوضع سيستمر بالنسبة إلى اليهود إلاَّ إذا تخلوا عن سلوكهم العدواني وأعادوا الحقوق إلى أهلها، وعاشوا إلى جانب الآخرين على أساس من الوفاق لا الغصب والعدوان والاحتلال.