وقوله { ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ الناس وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } تبشير لهم بأن الخير سيأتيهم ، بعد تلك السنوات الشداد ، فقد جرت سنة الله - تعالى - أن يعقب العسر باليسر .
ولفظ { يغاث } من الغوث بمعنى إزالة الهم والكرب عن طريق الأمطار التي يسوقها الله - تعالى - لهم بعد تلك السنوات الشداد التي قل فيها المطر .
يقال : غاث الله - تعالى - البلاد غيثا ، إذا ساق لها المطر بعد أن يئسوا من نزوله ، ويعصرون من العصر وهو الضغط على ما من شأنه أن يعصر ، لإِخراج ما فيه من مائع سواء كان هذا المائع زيتاً أم ماء أم غيرهما .
أى : ثم يأتى من بعد تلك السنين السبع الشداد ، عام فيه تزول الهموم والكروب ونقص الأموال عن الناس ، بسبب إرسال الله - تعالى - المطر عليهم ، فتخضر الأرض وتنبتمن كل زوج بهيج ، وفيه يعصرون من ثمار مزروعاتهم ما من شأنه أن يعصر كالزيتون وما يشبهه .
وهذا كناية عن بدء حلول الرخاء بهم ، بعد تلك السنوات الشداد ، وما قاله يوسف - عليه السلام - عن هذا العام الذي يأتى في أعقاب السنوات السبع الشداد ، لا مقابل له في رؤيا الملك ، بل هو خارج عنها ، وذلك لزيادة التبشير لملك والناس ، ولإِفهامهم أن هذا العلم إنما بوحى من الله - تعالى - الذي يجب أن يخلص له الجميع العبادة والطاعة .
وإلى هنا نرى أن يوسف - عليه السلام - قد فسر رؤيا الملك تفسيرا سليما حكيما ، من نتائجه الخير للملك وقومه . . .
( ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون ) . .
أي ثم تنقضي هذه السنوات الشداد العجاف المجدبة ، التي تأتي على ما خزنتم وادخرتم من سنوات الخصب . تنقضي ويعقبها عام رخاء ، يغاث الناس فيه بالزرع والماء ، وتنمو كرومهم فيعصرونها خمرا ، وسمسمهم وخسهم وزيتونهم فيعصرونه زيتا . .
وهنا نلحظ أن هذا العام الرخاء لا يقابله رمز في رؤيا الملك ؛ فهو إذن من العلم اللدني الذي علمه الله يوسف . فبشر به الساقي ليبشر الملك والناس ، بالخلاص من الجدب والجوع بعام رخي رغيد .
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } .
وهذا خبر من يوسف عليه السلام للقوم عما لم يكن في رؤيا ملكهم ، ولكنه من علم الغيب الذي آتاه الله دلالة على نبوّته وحجة على صدقة . كما :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : ثم زاده الله علم سنة لم يسألوه عنها ، فقال : ثُمّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ .
ويعني بقوله : فِيهِ يُغاثُ النّاسُ بالمطر والغيث .
وبنحو ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ثُمّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النّاسُ قال : فيه يغاثون بالمطر .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن يزيد الواسطي ، عن جويبر ، عن الضحاك : فِيهِ يُغاثُ النّاسُ قال : بالمطر .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : ثُمّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلكَ عامٌ قال : أخبرهم بشيء لم يسألوه عنه ، وكان الله قد علّمه إياه عام فيه يغاث الناس بالمطر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فِيهِ يُغاثُ النّاسُ بالمطر .
وأما قوله : وَفِيهِ يَعْصِرُونَ فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : وفيه يعصرون العنب والسمسم وما أشبه ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : وَفِيهِ يَعْصِرُونَ قال : الأعناب والدهن .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : وَفِيهِ يَعْصِرُونَ السمسم دهنا ، والعنب خمرا ، والزيتون زيتا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : عامٌ فِيهِ يُغاثُ النّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ يقول : يصيبهم غيث ، فيعصرون فيه العنب ، ويعصرون فيه الزيت ، ويعصرون من كلّ الثمرات ،
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَفِيهِ يَعْصِرُونَ قال : يعصرون أعنابهم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السديّ : وَفِيهِ يَعْصِرُونَ قال : العنب .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن يزيد الواسطي ، عن جويبر ، عن الضحاك : وَفِيهِ يَعْصِرُونَ قال : كانوا يعصرون الأعناب والثمرات .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَفِيهِ يَعْصِرُونَ قال : يعصرون الأعناب والزيتون والثمار من الخصب ، هذا علم آتاه الله يوسف لم يسئل عنه .
وقال آخرون : معنى قوله : وَفِيهِ يَعْصِرُونَ وفيه يحلبون . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني فضالة ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : وَفِيهِ يَعْصِرُونَ قال : فيه يحلبون .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ، قال : حدثنا الفرج بن فضالة ، عن عليّ بن أبي طلحة ، قال : كان ابن عباس يقرأ : «وَفِيهِ تَعْصِرُونَ » بالتاء ، يعني تحتلبون .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأه بعض أهل المدينة والبصرة والكوفة : وَفِيهِ يَعْصِرُونَ بالياء ، بمعنى ما وصفت من قول من قال : عصر الأعناب والأدهان . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين : «وَفِيهِ تَعْصِرُونَ » بالتاء . وقرأه بعضهم : «وَفِيهِ يَعْصَرُونَ » بمعنى : يُمطرون ، وهذه قراءة لا أستجيز القراءة بها لخلافها ما عليه من قرّاء الأمصار .
والصواب من القراءة في ذلك أن لقارئه الخيار في قراءته بأيّ القراءتين الأخريين شاء ، إن شاء بالياء ردّا على الخبر به عن الناس ، على معنى : فِيهِ يُغاثُ النّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ أعْنابهم وأدهانهم . وإن شاء بالتاء ردّا على قوله : إلاّ قَلِيلاً مِمّا تُحْصِنُونَ وخطابا به لمن خاطبه بقوله : يَأْكُلْنَ ما قَدّمْتُمْ لَهُنّ إلاّ قَلِيلاً مِمّا تُحْصِنُونَ لأنهما قراءتان مستفيضتان في قِرَاءَة الأمصار باتفاق المعنى ، وإن اختلفت الألفاظ بهما . وذلك أن المخاطبين بذلك كان لا شكّ أنهم أغيثوا وعصروا : أغيث الناس الذين كانوا بناحيتهم وعصروا ، وكذلك كانوا إذا أغيث الناس بناحيتهم وعصروا ، أغيث المخاطبون وعصروا ، فهما متفقتا المعنى ، وإن اختلفت الألفاظ بقراءة ذلك . وكان بعض من لا علم له بأقوال السلف من أهل التأويل ممن يفسر القرآن برأيه على مذهب كلام العرب يوجه معنى قوله : وَفِيهِ يَعْصِرُونَ إلى : وفيه يَنْجون من الجدب والقحط بالغيث ، ويزعم أنه من العَصر والعصر التي بمعنى المنجاة ، من قول أبي زبيد الطائي :
صَادِيا يَسْتَغِيثُ غَيْرَ مُغاثٍ *** وَلَقَدْ كانَ عُصْرَةَ المَنْجُودِ
فباتَ وأسْرَى القَوْمُ آخِرَ لَيْلهِمْ *** وَما كانَ وَقّافا بغَيْرِ مُعَصّرِ
وذلك تأويل يكفي من الشهادة على خطئه خلافه قول جميع أهل العلم من الصحابة والتابعين . وأما القول الذي روى الفَرج بن فضالة عن عليّ بن أبي طلحة ، فقول لا معنى له ، لأنه خلاف المعروف من كلام العرب وخلاف ما يعرف من قول ابن عباس رضي الله عنهما .
وقوله : { يغاث } جائز أن يكون من الغيث ، وهو قول ابن عباس ومجاهد وجمهور المفسرين ، أي يمطرون ، وجائز أن يكون من أغاثهم الله ، أذا فرج عنهم ، ومنه الغوث وهو الفرج .
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم «يَعصِرون » بفتح الياء وكسر الصاد ، وقرأ حمزة والكسائي ذلك بالتاء على المخاطبة ، وقال جمهور المفسرين : هي من عصر النباتات كالزيتون والعنب والقصب والسمسم والفجل وجميع ما يعصر ، ومصر بلد عصر لأشياء كثيرة ؛ وروي أنهم لم يعصروا شيئاً مدة الجدب ، والحلب منه لأنه عصر للضروع . وقال أبو عبيدة وغيره : ذلك مأخوذ من العصرة والعصر{[6718]} وهو الملجأ ومنه قول أبي زبيد في عثمان رضي الله عنه : [ الخفيف ]
صادياً يستغيث غير مغاث*** ولقد كان عصرة المنجود{[6719]}
ومنه قول عدي بن زيد : [ الرمل ]
لو بغير الماء حلقي شرق*** كنت كالغصّان بالماء اعتصاري{[6720]}
وصاحبي وهوه مستوهل زعل*** يحول بين حمار الوحش والعصر{[6721]}
فبات وأسرى القوم آخر ليلهم*** وما كان وقافاً بغير معصر{[6722]}
أي بغير ملتجأ ، فالآية على معنى ينجون بالعصرة .
وقرأ الأعرج وعيسى وجعفر بن محمد » يُعصَرون «بضم الياء وفتح الصاد ، وهذا مأخوذ من العصرة ، أي يؤتون بعصرة ؛ ويحتمل أن يكون من عصرات السحاب ماءها عليهم ، قال ابن المستنير : معناها يمطرون ، وحكى النقاش أنه قرىء » يعصرون «وجعلها من عصر البلل ونحوه . ورد الطبري على من جعل اللفظة من العصرة رداً كثيراً بغير حجة{[6723]} .
أما قوله : { ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يُغاث الناس } فهو بشارة وإدخال المسرة والأمل بعد الكلام المؤيس ، وهو من لازم انتهاء مدة الشدة ، ومن سنن الله تعالى في حصول اليسر بعد العسر .
و { يغاث } معناه يعطون الغيث ، وهو المطر . والعصر : عصر الأعناب خموراً . وتقدم آنفاً في قوله : { أعصر خمراً } [ سورة يوسف : 36 ] .