التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلَّيۡلِ فَتَهَجَّدۡ بِهِۦ نَافِلَةٗ لَّكَ عَسَىٰٓ أَن يَبۡعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامٗا مَّحۡمُودٗا} (79)

وقوله - سبحانه - { وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } إرشاد إلى عبادة أخرى من العبادات التى تطهر القلب ، وتسمو بالنفس إلى مراقى الفلاح ، وتعينها على التغلب على الهموم والآلام .

والجار والمجرور { ومن الليل } متعلق بقوله { فتهجد } أى . تهجد بالقرآن بعض الليل . أو متعلق بمحذوف تقديره : وقم قومة من الليل فتهجد ، و { من } للتبعيض .

قال الجمل : " والمعروف فى كلام العرب أن الهجوة عبارة عن النوم بالليل . يقال : هجد فلان ، إذا نام بالليل .

ثم لما رأينا فى عرف الشرع أنه يقال لمن انتبه بالليل من نومه وقام إلى الصلاة أنه متهجد ، وجب أن يقال : سمى ذلك متهجدا من حيث أنه ألقى الهجود . فالتهجد ترك الهجود وهو النوم . . . " .

والضمير فى { به } يعود إلى القرآن الكريم ، المذكور فى قوله - تعالى - { وقرآن الفجر } ، إلا أنه ذكر فى الآية السابقة بمعنى الصلاة ، وذكر هنا بمعناه المشهور ، ففى الكلام ما يسمى فى البلاغة بالاستخدام .

والنافلة : الزيادة على الفريضة ، والجمع نوافل . يقال : تنفل فلان على أصحابه ، إذا أخذ زيادة عنهم .

أى : واجعل - أيها الرسول الكريم - جانبًا من الليل ، تقوم فيه ، لتصلى صلاة زائدة على الصلوات الخمس التى فرضها الله - تعالى - عليك وعلى أمتك .

قال - تعالى - : { ياأيها المزمل قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً } قالوا : وقيام الليل كان واجبًا فى حقه صلى الله عليه وسلم بصفة خاصة ، زيادة على الصلاة المفروضة .

أخرج البيهقي فى سننه عن عائشة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاث هن على فرائض ، وهن لكم سنة : الوتر ، والسلوك ، وقيام الليل " .

ومن العلماء من يرى أن قيام الليل كان مندوبًا فى حقه صلى الله عليه وسلم كما هو الشأن فى أمته ، ومعنى { نافلة لك } أى : زيادة فى رفع درجاتك ، فإن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، أما غيرك فقد شرعنا له النافلة تكفيرًا لخطاياه .

وقوله - عز وجل - : { عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } بيان لما يترتب على أدائه للصلوات بخشوع وخضوع ، من سمو فى المكانة ، ورفعة فى الدرجة .

وكلمة عسى فى كلام العرب تفيد التوقع ، أما فى كلام الله - تعالى - فتفيد الوجوب والقطع .

قال الجمل : " اتفق المفسرون على أن كلمة { عسى } من الله - تعالى - تدخل فيما هو قطعى الوقوع ، لأن لفظ عسى يفيد الإِطماع ، ومن أطمع إنسانا فى شئ ، ثم حرمه ، كان عارا عليه والله - تعالى - أكرم من أن يطمع أحدًا ثم لا يعطيه ما أطمعه فيه " .

أى : داوم أيها الرسول الكريم على عبادة الله وطاعته لنبعثك يوم القيامة ونقيمك مقامًا محمودًا ، ومكانًا عاليًا ، يحمدك فيه الخلائق كلهم .

والمراد بالمقام المحمود هنا ، هو مقام الشفاعة العظمى يوم القيامة . ليريح الناس من الكرب الشديد ، فى موقف الحساب .

وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية جملة من الأحاديث فى هذا منها : ما أخرجه البخارى عن ابن عمر قال : إن الناس يصيرون يوم القيامة جُثًا - جمع جثوة كخطوة وخطا - أى جماعات - كل أمة تتبع نبيها ، يقولون : يا فلان اشفع ، يا فلان اشفع ، حتى تنتهى الشفاعة إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، فذلك يوم يبعثه الله مقاما محمودًا " .

وروى الإِمام أحمد والترمذي عن أبى بن كعب عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " إذا كان يوم القيامة ، كنت إمام الأنبياء وخطيبهم . وصاحب شفاعتهم غير فخر " .

" وروى ابن جرير عن أبى هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله - تعالى - : { عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } فقال : " هو المقام الذى أشفع لأمتى فيه " " .

وقال الآلوسى : والمراد بذلك المقام ، مقام الشفاعة العظمى فى فصل القضاء حيث لا أحد إلا وهو تحت لوائه صلى الله عليه وسلم ، فقد أخرج البخارى وغيره عن ابن عمر قال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الشمس لتدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن ، فبينما هم كذلك ، استغاثوا بآدم ، فيقول : لست بصاحب ذلك ، ثم موسى فيقول كذلك . ثم محمد فيشفع فيقضى الله - تعالى - بين الخلق ، فيمشى صلى الله عليه وسلم حتى يأخذ بحلقة باب الجنة ، فيومئذ يبعثه الله - تعالى - مقامًا محمودًا ، يحمده أهل الجمع كلهم " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلَّيۡلِ فَتَهَجَّدۡ بِهِۦ نَافِلَةٗ لَّكَ عَسَىٰٓ أَن يَبۡعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامٗا مَّحۡمُودٗا} (79)

73

( ومن الليل فتهجد به نافلة لك ) . . والتهجد الصلاة بعد نومة أول الليل . والضمير في )به )عائد على القرآن ، لأنه روح الصلاة وقوامها .

( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) . . بهذه الصلاة وبهذا القرآن والتهجد به ، وبهذه الصلة الدائمة بالله . فهذا هو الطريق المؤدي إلى المقام المحمود وإذا كان الرسول [ ص ] يؤمر بالصلاة والتهجد والقرآن ليبعثه ربه المقام المحمود المأذون له به ، وهو المصطفى المختار ، فما أحوج الآخرين إلى هذه الوسائل لينالوا المقام المأذون لهم به في درجاتهم . فهذا هو الطريق . وهذا هو زاد الطريق .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلَّيۡلِ فَتَهَجَّدۡ بِهِۦ نَافِلَةٗ لَّكَ عَسَىٰٓ أَن يَبۡعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامٗا مَّحۡمُودٗا} (79)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنَ الْلّيْلِ فَتَهَجّدْ بِهِ نَافِلَةً لّكَ عَسَىَ أَن يَبْعَثَكَ رَبّكَ مَقَاماً مّحْمُوداً } .

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ومن الليل فاسهر بعد نومة يا محمد بالقرآن ، نافلة لك خالصة دون أمتك . والتهجد : التيقظ والسهر بعد نومة من الليل . وأما الهجود نفسه : فالنوم ، كما قال الشاعر :

ألا طَرَقْتَنا والرّفاقُ هُجُودُ *** فَباتَتْ بِعُلاّتِ النّوَالِ تَجُودُ

وقال الحُطَيئة :

ألا طَرَقَتْ هِنْدُ الهُنُودِ وُصحْبَتِي *** بِحَوْرَانَ حَوَرَانِ الجُنُودِ هُجُودُ

وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا أبي وشعيب بن الليث ، عن الليث ، عن مجاهد بن يزيد ، عن أبي هلال ، عن الأعرج أنه قال : أخبرني حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، عن رجل من الأنصار ، أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ، فقال : لأنظرنّ كيف يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم استيقظ ، فرفع رأسه إلى السماء ، فتلا أربع آيات من آخر سورة آل عمران إنّ فِي خَلْقٍ السّمَوَاتِ والأرْضِ وَاخْتِلافِ اللّيْلِ والنّهارِ حتى مرّ بالأربع ، ثم أهوى إلى القربة ، فأخذ سواكا فاستنّ به ، ثم توضأ ، ثم صلى ، ثم نام ، ثم استيقظ فصنع كصنعه أوّل مرّة ، ويزعمون أنه التهجد الذي أمره الله .

حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر وعبد الرحمن ، قالا : حدثنا سعيد ، عن أبي إسحاق ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن علقمة والأسود أنهما قالا : التهجد بعد نومة .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن الأسود ، قال : التهجد : بعد نومة .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن شعبة ، قال : ثني أبو إسحاق ، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد ، عن علقمة والأسود ، بمثله .

حدثني الحارث ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا هشيم ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، قال : التهجد : بعد النوم .

حدثني الحارث ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا يزيد ، عن هشام ، عن الحسن ، قال : التهجد : ما كان بعد العشاء الاَخرة .

حُدثت عن عبد الله بن صالح ، عن الليث ، عن جعفر بن ربيعة ، عن الأعرج ، عن كثير بن العباس ، عن الحجاج بن عمرو ، قال : إنما التهجد بعد رقدة .

وأما قوله نافِلَةً لَكَ فإنه يقول : نفلاً لك عن فرائضك التي فرضتها عليك .

واختُلف في المعنى الذي من أجله خصّ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع كون صلاة كلّ مصلّ بعد هجوده ، إذا كان قبل هجوده قد كان أدّى فرائضه نافلة نفلاً ، إذ كانت غير واجبة عليه ، فقال بعضهم : معنى خصوصه بذلك : هو أنها كانت فريضة عليه ، وهي لغيره تطوّع ، وقيل له : أقمها نافلة لك : أي فضلاً لك من الفرائض التي فرضتها عليك عما فرضت على غيرك . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَمِنَ اللّيْلِ فَتَهَجّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ يعني بالنافلة أنها للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة ، أُمر بقيام الليل وكُتب عليه .

وقال آخرون : بل قيل ذلك له عليه الصلاة والسلام لأنه لم يكن فعله ذلك يكفّر عنه شيئا من الذنوب ، لأن الله تعالى كان قد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر ، فكان له نافلة فضل ، فأما غيره فهو له كفارة ، وليس هو له نافلة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير ، عن مجاهد ، قال : النافلة للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة من أجل أنه قد غُفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر ، فما عمل من عمل سوى المكتوبة ، فهو نافلة من أجل أنه لا يعمل ذلك في كفارة الذنوب ، فهي نوافل وزيادة ، والناس يعملون ما سوى المكتوبة لذنوبهم في كفارتها ، فليست للناس نوافل .

وأولى القولين بالصواب في ذلك ، القول الذي ذكرنا عن ابن عباس ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الله تعالى قد خصه بما فرض عليه من قيام الليل ، دون سائر أمته . فأما ما ذكر عن مجاهد في ذلك ، فقول لا معنى له ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذُكِر عنه أكثر ما كان استغفارا لذنوبه بعد نزول قول الله عزّ وجلّ عليه لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأخّرَ وذلك أن هذه السورة أنزلت عليه بعد مُنْصَرِفَه من الحديبية ، وأنزل عليه إذَا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالفَتْحُ عام قبض . وقيل له فيها فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنّهُ كانَ تَوّابا فكان يُعدّ له صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد استغفار مئة مرّة ، ومعلوم أن الله لم يأمره أن يستغفر إلا لما يغفر له باستغفاره ذلك ، فبين إذن وجه فساد ما قاله مجاهد .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن الأعمش ، عن شمر ، عن عطية ، عن شهر ، عن أبي أُمامة ، قال : إنما كانت النافلة للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة نافِلَةً لَكَ قال : تطوّعا وفضيلة لك .

وقوله : عَسَى أنْ يَبْعَثَكَ رَبّكَ مَقاما مَحْمودا وعسى من الله واجبة ، وإنما وجه قول أهل العلم : عسى من الله واجبة ، لعلم المؤمنين أن الله لا يدع أن يفعل بعباده ما أطمعهم فيه من الجزاء على أعمالهم والعوض على طاعتهم إياه ليس من صفته الغرور ، ولا شكّ أنه قد أطمع من قال ذلك له في نفعه ، إذا هو تعاهده ولزمه ، فإن لزم المقول له ذلك وتعاهده ثم لم ينفعه ، ولا سبب يحول بينه وبين نفعه إياه مع الأطماع الذي تقدم منه لصاحبه على تعاهده إياه ولزومه ، فإنه لصاحبه غارّ بما كان من إخلافه إياه فيما كان أطمعه فيه بقوله الذي قال له . وإذ كان ذلك كذلك ، وكان غير جائز أن يكون جلّ ثناؤه من صفته الغرور لعباده صحّ ووجب أن كلّ ما أطمعهم فيه من طمع على طاعته ، أو على فعل من الأفعال ، أو أمر أو نهى أمرهم به ، أو نهاهم عنه ، فإنه موف لهم به ، وإنهم منه كالعدة التي لا يخلف الوفاء بها ، قالوا : عسى ولعلّ من الله واجبة .

وتأويل الكلام : أقم الصلاة المفروضة يا محمد في هذه الأوقات التي أمرتك بإقامتها فيها ، ومن الليل فتهجد فرضا فرضته عليك ، لعلّ ربك يبعثك يوم القيامة مقاما تقوم فيه محمودا تحمده ، وتغبط فيه .

ثم اختلف أهل التأويل في معنى ذلك المقام المحمود ، فقال أكثر أهل العلم : ذلك هو المقام الذي هو يقومه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدّة ذلك اليوم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن صلة بن زُفَر ، عن حُذيفة ، قال : يجمع الناس في صعيد واحد ، فيسمعهم الداعي ، وينفذهم البصر ، حُفاة عراة كما خُلقوا ، قياما لا تكلّم نفس إلا بإذنه ، ينادَى : يا محمد ، فيقول : «لبيك وسعديك والخير في يديك ، والشرّ ليس إليك ، والمهديّ من هَدَيت ، عبدك بين يديك ، وبك وإليك ، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك ، تبارك وتعاليت ، سبحانك ربّ هذا البيت » فهذا المقام المحمود الذي ذكره الله تعالى .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن صلة بن زُفر ، عن حُذيفة ، قال : يُجْمع الناس في صعيد واحد . فلا تَكَلّم نفس ، فأوّل ما يدعو محمد النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فيقوم محمد النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فيقول : «لبيك » ، ثم ذكر مثله .

حدثنا سليمان بن عمرو بن خالد الرقي ، قال : حدثنا عيسى بن يونس ، عن رشدين بن كريب ، عن أبيه عن ابن عباس ، قوله : عَسَى أنْ يَبْعَثَكَ رَبّكَ مَقاما مَحْمودا قال : المقام المحمود : مقام الشفاعة .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن سلمة بن كهيل ، قال : حدثنا أبو الزعراء ، عن عبد الله في قصة ذكرها ، قال : ثم يؤمر بالصراط فيضرب على جسر جهنم ، فيمرّ الناس بقدر أعمالهم يمرّ أوّلهم كالبرق ، وكمرّ الريح ، وكمرّ الطير ، وكأسرع البهائم ، ثم كذلك حتى يمرّ الرجل سعيا ، ثم مشيا ، حتى يجيء آخرهم يتلبّط على بطنه ، فيقول : ربّ لما أبطأت بي ، فيقول : إني لم أبطأ بك ، إنما أبطأ بك عملك ، قال : ثم يأذن الله في الشفاعة ، فيكون أوّل شافع يوم القيامة جبرئيل عليه السلام ، روح القُدس ، ثم إبراهيم خليل الرحمن ، ثم موسى ، أو عيسى ، قال أبو الزعراء : لا أدري أيهما قال قال : ثم يقوم نبيكم عليه الصلاة والسلام رابعا ، فلا يشفع أحد بعده فيما يشفع فيه ، وهو المقام المحمود الذي ذكر الله عَسَى أنْ يَبْعَثَكَ رَبّكَ مَقاما مَحْمودا .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن عوف ، عن الحسن في قول الله تعالى وَمِنَ اللّيْلِ فَتَهَجّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسَى أنْ يَبْعَثَك رَبّكَ مَقاما مَحْمُودا قال : المقام المحمود : مقام الشفاعة يوم القيامة .

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى : وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى : مَقاما مَحْمُودا قال : شفاعة محمد يوم القيامة .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن عاصم الأحول ، عن أبي عثمان ، عن سليمان ، قال : هو الشفاعة ، يشفعه الله في أمته ، فهو المقام المحمود .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : عَسَى أنْ يَبْعَثَكَ رَبّكَ مَقاما مَحْمُودا ، وقد ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم خُيّر بين أن يكون نبيا عبدا ، أو ملكا نبيا ، فأومأ إليه جبرئيل عليه السلام : أن تَوَاضَعْ ، فاختار نبيّ الله أن يكون عبدا نبيا ، فأُعْطِي به نبيّ الله ثنتين : إنه أوّل من تنشقّ عنه الأرض ، وأوّل شافع . وكان أهل العلم يَرَوْن أنه المقام المحمود الذي قال الله تبارك وتعالى عَسَى أنْ يَبْعَثَكَ رَبّكَ مَقاما مَحْمُودا شفاعة يوم القيامة .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة مَقاما مَحْمُودا قال : هي الشفاعة ، يشفّعه الله في أمته .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا مَعْمر والثوريّ ، عن أبي إسحاق ، عن صلة بن زُفَر ، قال : سمعت حُذيفة يقول في قوله : عَسَى أنْ يَبْعَثَكَ رَبّكَ مَقاما مَحْمُودا قال : يجمع الله الناس في صعيد واحد حيث يُسمعهم الداعي ، فَيْنَفُذُهم البصرُ حُفاة عُراة ، كما خُلِقوا سكوتا لا تكلّم نفس إلا بإذنه ، قال : فينادَى محمد ، فيقول : لَبّيك وسَعْديك ، والخيرُ في يديك ، والشرّ ليس إليك ، والمهديّ من هَدَيْت ، وعبدُك بين يديك ، ولك وإليك ، لا مْلجَأَ ولا منجَى منك إلا إليك ، تباركت وتعاليت ، سبحانك ربّ البيت ، قال : فذلك المقامُ المحمودُ الذي ذكر الله عَسَى أنْ يْبَعَثَكَ رَبّكَ مَقامَا مَحْمُودا .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن أبي إسحاق ، عن صلة بن زُفَر ، قال حُذيفة : يجمع الله الناس في صعيد واحد ، حيث يَنْفُذُهم البصر ، ويُسْمعهم الداعي ، حُفاة عُراة كما خُلقوا أوّل مرّة ، ثم يقوم النبيّ صلى الله عليه وسلم فيقول : «لبيك وسعديك » ، ثم ذكر نحوه ، إلا أنه قال : هو المقام المحمود .

وقال آخرون : بل ذلك المقام المحمود الذي وعد الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبعثه إياه ، هو أن يقاعده معه على عرشه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا عباد بن يعقوب الأسدي ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله : عَسَى أنْ يَبْعَثَكَ رَبّكَ مَقاما مَحْمُودا قال : يُجْلسه معه على عرشه .

وأولى القولين في ذلك بالصواب ما صحّ به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وذلك ما :

حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن داود بن يزيد ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عَسَى أنْ يَبْعَثَكَ رَبّكَ مَقاما مَحْمودا سُئل عنها ، قال : «هِيَ الشّفاعَةُ » .

حدثنا عليّ بن حرب ، قال : حدثنا مَكّيّ بن إبراهيم ، قال : حدثنا داود بن يزيد الأَوْدِيّ ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله : عَسَى أنْ يَبْعَثَكَ رَبّكَ مَقاما مَحْمُودا قال : «هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي » .

حدثنا أبو عُتبة الحِمْصِيّ أحمد بن الفَرَج ، قال : حدثنا بقية بن الوليد ، عن الزّبيديّ ، عن الزهريّ ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، عن كعب بن مالك ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «يُحشَرُ النّاسُ يَوْمَ القِيامَةِ ، فَأكُونُ أنا وأُمّتِي على تَلَ ، فَيَكْسُونِي رَبّي حُلّةً خَضْراءَ ، ثُمّ يُؤْذَنَ لِي ، فأقُولُ ما شاءَ اللّهُ أنْ أقُولَ ، فَذَلِكَ المَقامُ المَحْمُودُ » .

حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا شعيب بن الليث ، قال : ثني الليث ، عن عبيد الله بن أبي جعفر ، أنه قال : سمعت حمزة بن عبد الله بن عمر يقول : سمعت عبد الله بن عمر يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ الشّمْسَ لَتَدْنُو حتى يَبْلُغَ العَرَقُ نِصْفَ الأُذُنِ ، فَبَيْنَما هُمْ كَذلِكَ اسْتَغاثُوا بآدَمَ عَلَيْهِ السّلامُ ، فَيَقُولُ : لَسْتُ صَاحِبَ ذلكَ ، ثُمّ بِمُوسَى عَلَيْهِ السّلامُ ، فَيَقُولُ كَذلكَ ثُمّ بِمُحَمّدٍ فَيَشْفَعُ بينَ الخَلْقِ فَيَمْشِي حتى يَأْخُذَ بِحَلْقَةِ الجَنّةِ ، فَيَوْمَئِذٍ يَبْعَثُهُ اللّهُ مَقاما مَحْمُودا » .

حدثني أبو زيد عمر بن شَبّة ، قال : حدثنا موسى بن إسماعيل ، قال : حدثنا سعيد بن زيد ، عن عليّ بن الحكم ، قال : ثني عثمان ، عن إبراهيم ، عن الأسود وعلقمة ، عن ابن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّي لأَقُومُ المَقامَ المَحْمُودَ » فقال رجل : يا رسول الله ، وما ذلك المقام المحمود ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ذَاكَ إذَا جِيءَ بِكُمْ حُفاةً عُرَاةً غُرْلاً فَيَكُونُ أوّلَ مَنْ يُكْسَى إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السّلامُ ، فَيُؤْتَى برِيطَتْينِ بَيْضَاوَيْنِ ، فَيَلْبَسُهُما ، ثُمّ يَقْعُدُ مُسْتَقْبِلَ العَرْشِ ، ثُمّ أوَتى بكِسْوتَي فألْبَسُها ، فَأقُومُ عَنْ يَمِينِهِ مَقاما لا يَقُومُهُ غَيرِي يَغْبِطُنِي فِيهِ الأوّلُونَ والاَخِرُونَ ، ثُمّ يُفْتَحُ نَهْرٌ مِنَ الكَوْثَرِ إلى الحَوْضِ » .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهريّ ، عن عليّ بن الحسين ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «إذَا كانَ يَوْمَ القِيامَةِ مَدّ اللّهُ الأرْضُ مَدّ الأدِيمِ حتى لا يَكُونَ لِبَشِرٍ مِنَ النّاسِ إلاّ مَوْضِعُ قَدَمَيْهِ » ، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «فَأكُونُ أوّلَ مَنْ يُدْعَى وَجَبْرَئِيلُ عَنْ يَمِينِ الرّحْمَنِ ، واللّهِ ما رآهُ قَبْلَها ، فَأقُولُ : أيّ ربّ إنّ هَذَا أخْبَرَنِي أنّكَ أرْسَلْتَهُ إليّ ، فَيَقُولُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ : صَدَقَ ، ثُمّ أشْفَعُ ، قال : فَهُوَ المَقامُ المَحْمُودُ » .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهريّ ، عن عليّ بن الحسين ، قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إذَا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ » ، فذكر نحوه ، وزاد فيه : «ثُمّ أشْفَعُ فَأقُولُ : يا ربّ عِبادُكَ عَبَدُوكَ في أطْرافِ الأرْضِ ، وَهُوَ المَقامُ المَحْمُودُ » .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا إبراهيم بن طهمان ، عن آدم ، عن عليّ ، قال : سمعت ابن عمر يقول : إن الناس يحشرون يوم القيامة ، فيجيء مع كلّ نبيّ أمته ، ثم يجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الأمم هو وأمته ، فيرقى هو وأمته على كَوم فوق الناس ، فيقول : يا فلان اشفع ، ويا فلان اشفع ، ويا فلان اشفع ، فما زال يردّها بعضهم على بعض يرجع ذلك إليه ، وهو المقام المحمود الذي وعده الله إياه .

حدثنا محمد بن عوف ، قال : حدثنا حَيْوة وربيع ، قالا : حدثنا محمد بن حرب ، عن الزبيديّ ، عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، عن كعب بن مالك ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «يُحْشَرُ النّاسُ يَوْمَ القِيامَةِ فَأكُونُ أنا وأمّتِي على تَلّ ، فَيَكْسُونِي رَبّي عَزّ وَجَلّ حُلّةً خَضْرَاءَ ، ثُمّ يُؤْذَنُ ليَ فأقُولُ ما شاءَ اللّهُ أنْ أقُولَ ، فذلكَ المَقامُ المَحْمُودُ » .

وهذا وإن كان هو الصحيح من

القول في تأويل قوله عَسَى أنْ يَبْعَثَكَ رَبّكَ مَقاما مَحْمُودا لما ذكرنا من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين ، فإن ما قاله مجاهد من أن الله يُقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على عرشه ، قول غير مدفوع صحته ، لا من جهة خبر ولا نظر ، وذلك لأنه لا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أحد من أصحابه ، ولا عن التابعين بإحالة ذلك . فأما من جهة النظر ، فإن جميع من ينتحل الإسلام إنما اختلفوا في معنى ذلك على أوجه ثلاثة : فقالت فرقة منهم : الله عزّ وجلّ بائن من خلقه كان قبل خلقه الأشياء ، ثم خلق الأشياء فلم يماسّها ، وهو كما لم يزل ، غير أن الأشياء التي خلقها ، إذ لم يكن هو لها مماسا ، وجب أن يكون لها مباينا ، إذ لا فعال للأشياء إلا وهو مماسّ للأجسام أو مباين لها . قالوا : فإذا كان ذلك كذلك ، وكان الله عزّ وجلّ فاعل الأشياء ، ولم يجز في قولهم : إنه يوصف بأنه مماسّ للأشياء ، وجب بزعمهم أنه لها مباين ، فعلى مذهب هؤلاء سواء أقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على عرشه ، أو على الأرض إذ كان من قولهم إن بينونته من عرشه ، وبينونته من أرضه بمعنى واحد في أنه بائن منهما كليهما ، غير مماسّ لواحد منهما .

وقالت فرقة أخرى : كان الله تعالى ذكره قبل خلقه الأشياء ، لا شيء يماسه ، ولا شيء يباينه ، ثم خلق الأشياء فأقامها بقدرته ، وهو كما لم يزل قبل الأشياء خلقه لا شيء يماسه ولا شيء يباينه ، فعلى قول هؤلاء أيضا سواء أقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على عرشه ، أو على أرضه ، إذ كان سواء على قولهم عرشه وأرضه في أنه لا مماس ولا مباين لهذا ، كما أنه لا مماس ولا مباين لهذه .

وقالت فرقة أخرى : كان الله عزّ ذكره قبل خلقه الأشياء لا شيء يماسه ، ولا شيء يباينه ، ثم أحدث الأشياء وخلقها ، فخلق لنفسه عرشا استوى عليه جالسا ، وصار له مماسا ، كما أنه قد كان قبل خلقه الأشياء لا شيء يرزقه رزقا ، ولا شيء يحرمه ذلك ، ثم خلق الأشياء فرزق هذا وحرم هذا ، وأعطى هذا ، ومنع هذا ، قالوا : فكذلك كان قبل خلقه الأشياء يماسه ولا يباينه ، وخلق الأشياء فماس العرش بجلوسه عليه دون سائر خلقه ، فهو مماس ما شاء من خلقه ، ومباين ما شاء منه ، فعلى مذهب هؤلاء أيضا سواء أقعد محمدا على عرشه ، أو أقعده على منبر من نور ، إذ كان من قولهم : إن جلوس الربّ على عرشه ، ليس بجلوس يشغل جميع العرش ، ولا في إقعاد محمد صلى الله عليه وسلم موجبا له صفة الربوبية ، ولا مخرجه من صفة العبودية لربه ، كما أن مباينة محمد صلى الله عليه وسلم ما كان مباينا له من الأشياء غير موجبة له صفة الربوبية ، ولا مخرجته من صفة العبودية لربه من أجل أنه موصوف بأنه له مباين ، كما أن الله عزّ وجلّ موصوف على قول قائل هذه المقالة بأنه مباين لها ، هو مباين له . قالوا : فإذا كان معنى مباين ومباين لا يوجب لمحمد صلى الله عليه وسلم الخروج من صفة العبودة والدخول في معنى الربوبية ، فكذلك لا يوجب له ذلك قعوده على عرش الرحمن ، فقد تبين إذا بما قُلنا أنه غير محال في قول أحد ممن ينتحل الإسلام ما قاله مجاهد من أن الله تبارك وتعالى يُقْعِد محمدا على عرشه .

فإن قال قائل : فإنا لا ننكر إقعادا الله محمدا على عرشه ، وإنما ننكر إقعاده .

حدثني عباس بن عبد العظيم ، قال : حدثنا يحيى بن كثير ، عن الجَريريّ ، عن سيف السّدُوسيّ ، عن عبد الله بن سلام ، قال : إن محمدا صلى الله عليه وسلم يوم القيامة على كرسيّ الربّ بين يدي الربّ تبارك وتعالى ، وإنما ينكر إقعاده إياه معه . قيل : أفجائز عندك أن يقعده عليه لا معه . فإن أجاز ذلك صار إلى الإقرار بأنه إما معه ، أو إلى أنه يقعده ، والله للعرش مباين ، أو لا مماسّ ولا مباين ، وبأيّ ذلك قال كان منه دخولاً في بعض ما كان ينكره وإن قال ذلك غير جائز كان منه خروجا من قول جميع الفرق التي حكينا قولهم ، وذلك فراق لقول جميع من ينتحل الإسلام ، إذ كان لا قول في ذلك إلا الأقوال الثلاثة التي حكيناها ، وغير محال في قول منها ما قال مجاهد في ذلك .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلَّيۡلِ فَتَهَجَّدۡ بِهِۦ نَافِلَةٗ لَّكَ عَسَىٰٓ أَن يَبۡعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامٗا مَّحۡمُودٗا} (79)

وقوله { ومن الليل } { من } للتبعيض ، وقتاً من الليل أي وقم وقتاً ، والضمير في { به } عائد على هذا المقدر{[7668]} ويحتمل أن يعود على «القرآن » وإن كان لم يجر له ذكر مطلق كما هو الضمير مطلق ، لكن جرى مضافاً إلى الفجر ، و { فتهجد } معناه : فاطرح الهجود عنك ، والهجود النوم ، يقال هجُد يهجُد بضم الجيم هجوداً إذا نام ، ومنه قول ذي الرمة : [ الطويل ]

ألا طرقتنا والرفاق هجود . . . فباتت بعلات النوال تجود{[7669]}

ومنه قول الحطيئة : [ الطويل ]

فحياك ود ما هداك لفتية . . . وخوص بأعلى ذي طوالة هجد{[7670]}

وهذا الفعل جار مجرى تحوب وتأثم وتحنث ، ومثله { فظلتم تفكهون }{[7671]} معناه تندمون ، أي تطرحون الفاكهة عن أنفسكم{[7672]} وهي انبساط النفس وسرورها ، يقال رجل فكه إذا كان كثير السرور والضحك ، فالمعنى وقتاً من الليل اسهر به في صلاة وقراءة ، وقال الأسود وعلقمة وعبد الرحمن بن الأسود : «التهجد » بعد نومة ، وقال الحجاج بن عمرو إنما «التهجد » بعد رقدة ، وقال الحسن : «التهجد » ما كان بعد العشاء الآخرة ، وقوله { نافلة لك } قال ابن عباس وغيره : معناه زيادة لك في الفرض ، قالوا : وكان قيام الليل فرضاً على النبي صلى الله عليه وسلم{[7673]} .

قال القاضي أبو محمد : وتحتمل الآية أن يكون هذا على وجه الندب في التنفل ، ويكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد هو وأمته كخطابه في قوله { أقم الصلوات } الآية . وقال مجاهد : إنما هي { نافلة } للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه مغفور له والناس يحطون بمثل ذلك خطاياهم ، وبين أن النبي صلى الله عليه وسلم منذ غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر عام الحديبية فإنما كانت نوافله واستغفاره فضائل من العمل وقرباً أشرف من نوافل أمته ، لأن هذا إما أن تجبر بها فرائصهم حسب الحديث ، وإما أن تحط بها خطاياهم ، وقد يتصور من لا ذنب له ينتفل فيكون تنفله فضيلة ، كنصراني يسلم وصبي يحتلم ، وضعف الطبري قول مجاهد{[7674]} . وقوله { عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً } عزة من الله عز وجل لرسوله ، وهو أمر الشفاعة الذي يتدافعه الأنبياء حتى ينتهي إليه عليه السلام ، والحديث بطوله في البخاري ومسلم ، فلذلك اختصرناه{[7675]} ، ولأجل ذلك الاعتمال الذي له في مرضاة جميع العالم مؤمنهم وكافرهم قال : «أنا سيد ، ولد آدم ولا فخر »{[7676]} و { عسى } من الله واجبة ، و { مقاماً } نصب على الظرف ، ومن غريب حديث الشفاعة اقتضابه المعنى ، وذلك أن صدر الحديث يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم يستنهض للشفاعة في أن يحاسب الناس وينطلقون من الموقف ، فيذهب لذلك ، وينص بإثر ذلك على أنه شفع في إخراج المذنبين من النار ، فمعناه الاقتضاب والاختصار . لأن الشفاعة في المذنبين لم تكن إلا بعد الحساب والزوال من الموقف ، ودخول قوم الجنة ودخول قوم النار ، وهذه الشفاعة لا يتدافعها الأنبياء بل يشفعون ويشفع العلماء ، وذكر الطبري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «المقام المحمود هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي »{[7677]} .

قال القاضي أبو محمد : وينبغي أن يتأول هذا على ما قلناه لأمته وغيرها ، أو يقال إن كل مقام منها محمود ، قال النقاش : لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث شفاعات ، شفاعة العامة ، وشفاعة السبق إلى الجنة ، وشفاعة في أهل الكبائر ، والمشهور أنهما شفاعتان فقط ، وحكى الطبري عن فرقة منها مجاهد أنها قالت : «المقام المحمود » هو أن الله عز وجل يجلس محمداً معه على عرشه ، وروت في ذلك حديثاً ، وعضد الطبري جواز ذلك بشطط من القول ، وهو لا يخرج إلا على تلطف في المعنى وفيه بعد ، ولا ينكر مع ذلك أن يروى ، والعلم يتأوله ، وقد ذكر النقاش عن أبي داود السختياني أنه قال من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متهم ما زال أهل العلم يتحدثون بهذا .

قال القاضي أبو محمد : من أنكر جوازه على تأويله .


[7668]:المقدر هو (وقت)؛ إذ التقدير عند ابن عطية: وأقم وقتا من الليل.
[7669]:البيت في تفسير الطبري، وتفسير القرطبي، وفي البحر المحيط. وفي اللسان (هجد) أن (هجد وتهجد): نام وأن (هجد وتهجد) أيضا: سهر، وأنه من الأضداد، ولكن فيه أيضا عن جمهرة كبيرة من اللغويين أنه يقال: هجد إذا نام بالليل، وهجد إذا صلى بالليل، وعن الأزهري أن الهاجد هوالنائم، وهجد هجودا إذا نام، وأما المتهجد فهو القائم إلى الصلاة من النوم، وكأنه قيل له متهجد لإلقائه الهجود وهو النوم عن نفسه، وهذا هو معنى قول ابن عطية: جار مجرى تحرج وتأثم . . . الخ، بمعنى: ألقى الحرج والإثم عن نفسه. فمعنى (هجود) في البيت: نائمون. والعلات هنا كالتعلة، وهي ما يتعلل به، بقول: إنها تجود علينا بالأماني، وتعطينا من الأمل ما نتعلل به ونتلهى ولا تزورنا زيارة حقيقية بدلا من هذه الأماني والتعلات.
[7670]:البيت في اللسان (هجد) ، قال: "والهاجد: النائم، والهاجد والهجود: المصلي بالليل، والجمع هجود وهجد، قال الحطيئة فحياك. . . البيت"، وذكر أيضا شاهدا آخر على هجود.
[7671]:من الآية (65) من سورة (الواقعة).
[7672]:هكذا في كل الأصول، وفي العبارة قلق، والتندم في اللغة هو أن يتبع الإنسان أمرا ندما، وفي المثل "التقدم قبل التندم"، والندامى يطرحون الفاكهة بينهم لا عن أنفسهم.
[7673]:قال العلماء: في هذا التأويل بعد لوجهين: أحدهما تسمية الفرض بالنفل، وذلك مجاز لا حقيقة، والثاني قوله صلى الله عليه وسلم: (خمس صلوات فرضهن الله على العباد)، وفي الخبر أن الله تعالى قال: (هن خمس وهن خمسون، لا يبدل القول لدي)، وهذا نص، فكيف يقال إن الله افترض عليه صلاة زائدة على الخمس).
[7674]:قال الطبري: أما ما ذكر عن مجاهد في ذلك فقول لا معنى له ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر عنه أكثر ما كان استغفارا لذنوبه بعد نزول قول الله عز وجل عليه: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر}، وذلك أن هذه السورة أنزلت عليه بعد منصرفه من الحديبية، وأنزل عليه {إذا جاء نصر الله والفتح} عام قبض، وقيل له: {فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا}، فكان يعد له صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد استغفار مائة مرة، ومعلوم أن الله لم يأمره أن يسغفر إلا لما يغفر له باستغفاره ذلك، فبين إذا وجه فساد ما قاله مجاهد".
[7675]:الحديث أخرجه البخاري في التوحيد والرقاق والأنبياء وتفسير سورة آل عمران، وأخرجه مسلم في الإيمان، والترمذي في تفسير سورة الإسراء، والقيامة، وابن ماجه في الزهد، والدارمي في المقدمة، والإمام أحمد في أماكن كثيرة من مسنده.
[7676]:أخرجه أبو داود في السنة، وابن ماجه في الزهد، وأحمد في المسند (1- 5، 3-2) ، ولفظه كما في المسند، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول شافع يوم القيامة ولا فخر).
[7677]:أخرجه أحمد، والترمذي وحسنه، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولفظه كما في الدر المنثور: في قوله: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا}، وسئل عنه قال: (هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلَّيۡلِ فَتَهَجَّدۡ بِهِۦ نَافِلَةٗ لَّكَ عَسَىٰٓ أَن يَبۡعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامٗا مَّحۡمُودٗا} (79)

عطف على { وقرآن الفجر } [ الإسراء : 78 ] فإنه في تقدير جملة لكونه معمولاً لفعل أقم [ الإسراء : 78 ] .

وقدم المجرور المتعلق ب تهجّدْ على متعلقه اهتماماً به وتحريضاً عليْه . وبتقديمه اكتسب معنى الشرط والجزاء فجعل متعلقه بمنزلة الجزاء فأدخلت عليه فاء الجزاء . وهذا مستعمل في الظروف والمجرورات المتقدمة على متعلقاتها ، وهو استعمال فصيح . ومنه قوله تعالى : { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } [ المطففين : 26 ] وقول النبي : ففيهما فَجَاهِدْ ، وتقدم عند قوله تعالى : { فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم } في سورة [ براءة : 7 ] .

وجَعل الزجاج والزمخشري قوله : { ومن الليل } في معنى الإغراء بناءً على أن نصب { وقرآن الفجر } [ الإسراء : 78 ] على الإغراء فيكون { فتهجد } تفريعاً على الإغراء تفريع مفصل على مجمل ، وتكون ( من ) اسماً بمعنى ( بعض ) كالتي في قوله : { من الذين هادوا يحرفون الكلم } [ النساء : 46 ] وهو أيضاً حسن .

وضمير { به } للقرآن المذكور في قوله : { وقرآن الفجر } [ الإسراء : 78 ] وإن كان المعاد مقيداً بكونه في الفجر والمذكورُ هنا مراداً مُطلقهُ ، كقولك . عندي درهم ونصفه ، أي نصف درهم لا نصف الدرهم الذي عندك .

والباء للسببية .

والتهجد : الصلاة في أثناء الليل ، وهو اسم مشتق من الهجود ، وهو النوم . فمادة التفعل فيه للإزالة مثل التحَرج والتأثم .

والنافلة : الزيادة من الأمر المحبوب .

واللام في { لك } متلعقة ب { نافلة } وهي لام العلة ، أي نافلة لأجلك . وفي هذا دليل على أن الأمر بالتهجد خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم فالأمر للوجوب . وبذلك انتظم في عداد الصلوات الواجبة فبعضها واجب عليه وعلى الأمة ، وبعضها واجب عليه خاصة ويعلم منه أنه مرغب فيه كما صرحت به آية سورة [ المزمل : 20 ] { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك } إلى قوله : { ما تيسر منه } وفي هذا الإيجاب عليه زيادة تشريف له ، ولهذا أعقب بوعد أن يبعثه الله مقاماً محموداً . فجملة { عسى أن يبعثك } تعليل لتخصيصه بإيجاب التهجد عليه ، والرجاء من الله تعالى وعد . فالمعنى : ليبعثك ربك مقاماً محموداً .

والمقام : محل القيام . والمراد به المكان المعدود لأمر عظيم ، لأنه من شأنه أن يقوم الناس فيه ولا يجلسوا ، وإلا فهو المجلس .

وانتصب { مقاماً } على الظرفية ل { يبعثك } .

ووصفُ المقام بالمحمود وصف مجازي . والمحمود من يقوم فيه ، أي يحمد أثره فيه ، وذلك لغنائه عن أصحاب ذلك المقام ، ولذلك فسر المقام المحمود بالشفاعة العظمى .

وفي « صحيح البخاري » عن ابن عمر " أن الناس يصيرون يوم القيامة جُثاً بضم الجيم وتخفيف المثلثة أي جماعات كل أمة تتبع نبيئها يقولون : يا فلان أشفع حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود " وفي « جامع الترمذي » عن أبي هُريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : { عسى أن يبعثك ربك مقاماً محمودا } قال : هي الشفاعة . قال : هذا حديث حسن صحيح .

وقد ورد وصف الشفاعة في « صحيح البخاري » مفصلاً . وذلك مقام يحمده فيه كل أهل المحشر .