{ قالوا إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائتوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى } .
فهاتان الآيتان تشيران إلى خوف السحرة من موسى وهارون ، وإلى أنهم بذلوا أقصى جهدهم فى تجميع صفوفهم ، وفى تشجيع بعضهم لبعض ، حتى لا يستلب موسى - عليه السلام - منهم جاههم وسلطانهم ومنافعهم . .
أى : قال السحرة بعضهم لبعض بطريق التناجى والإسرار ، ما استقر عليه رأيهم ، من أن موسى وهارون ساحران { يُرِيدَانِ } عن طريق سحرهما أن يخرجا السحرة من أرضهم مصر : ليستوليا عما وأتباعهما عليهماز
ويريدان كذلك أن يذهبا بطريقتكم المثلى . أى بمذهبكم ودينكم الذى هو أمثل المذاهب وأفضلها ، وبملككم الذى أنتم فيه ، وبعيشكم الذى تنعمون به .
فالمثلى : مؤنث أمثل بمعنى أشرف وأفضل . وإنما أنث باعتبار التعبير بالطريقة . هذا ، وهناك قراءات فى قوله تعالى : { إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ } ذكرها الإمام القرطبى .
فقال ما ملخصه : قوله - تعالى - : { إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ } قرأ أبو عمرو : { إِنْ هاذين لَسَاحِرَانِ } ورويت - هذه القراءة - عن عثمان وعائشة وغيرهما من الصحابة . . .
وقرأ الزهرى والخليل بن أحمد وعاصم فى رواية حفص عنه { إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ } بتخفيف { إِنْ } . . . وهذه القراءة سلمت من مخالفة المصحف ومن فساد الإعراف ، ويكون معناها : ما هذان إلا ساحران .
وقرأ المدنيون والكوفيون : { إِنَّ هذان } بتشديد إن { لَسَاحِرَانِ } فوافقوا المصحف وخالفوا الإعراب .
فهذه ثلاث قراءات قد رواها الجماعة من الأئمة .
والعلماء فى قراءة أهل المدينة والكوفة ستة أقوال : الأول أنها لغة بنى الحارث بن كعب وزبيد وخثعم . . . ، يجعلون رفع المثنى ونصبه وخفضه بالألف . . . وهذا القول من أحسن ما حملت عليه الآية .
وجعل بعضهم يحمس بعضا ، وراحوا يهيجون في المترددين الخوف من موسى وهارون ، اللذين يريدان الاستيلاء على مصر وتغيير عقائد أهلها ؛ مما يوجب مواجهتهما يدا واحدة بلا تردد ولا نزاع . واليوم هو يوم المعركة الفاصلة والذي يغلب فيها الفالح الناجح :
( قالوا : إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى .
ثم اختلف أهل العلم السرار الذي أسروه ، فقال بعضهم : هو قول بعضهم لبعض : إن كان هذا ساحرا فإنا سنغلبه ، وإن كان من أمر السماء فإنه سيغلبنا . وقال آخرون في ذلك ما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : حُدثت عن وهب بن منبه ، قال : أشار بعضهم إلى بعض بتناج : " إنْ هَذَانِ لسَاحِرَانِ يُرِيدَانه أنْ يخْرِجاكُمْ مِنْ أرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما " .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : " فَتَنازَعُوا أمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وأسَرّوا النّجْوَى " من دون موسى وهارون ، قالوا في نجواهم : " إنْ هَذَانِ لَساحِرَانِ يُرِيدانِ أنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أرْضِكُمْ بِسِحْرِهُما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمْ المُثْلَى " قالوا : إن هذان لساحران ، يَعْنُون بقولهم : إن هذان موسى وهارون ، لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ، كما :
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " إنْ هَذَانِ لَساحِرَانِ يُرِيدَانِ أنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما " موسى وهارون صلى الله عليهما .
وقد اختلفت القرّاء في قراءة قوله : " إنْ هَذَانِ لَساحِرَانِ " فقرأته عامة قرّاء الأمصار : «إنّ هَذَانِ » بتشديد إن وبالألف في هذان ، وقالوا : قرأنا ذلك كذلك . وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول : «إن » خفيفة في معنى ثقيلة ، وهي لغة لقوم يرفعون بها ، ويدخلون اللام ليفرقوا بينها وبين التي تكون في معنى ما . وقال بعض نحوييّ الكوفة : ذلك على وجهين : أحدهما على لغة بني الحارث بن كعب ومن جاورهم ، يجعلون الاثنين في رفعهما ونصبهما وخفضهما بالألف . وقد أنشدني رجل من الأَسْد عن بعض بني الحارث بن كعب :
فأطْرَقَ إطْرَاقَ الشّجاعِ وَلَوْ رَأىَ *** مَساغا لِناباهُ الشّجاعُ لَصمّما
قال : وحكى عنه أيضا : هذا خط يدا أخي أعرفه ، قال : وذلك وإن كان قليلاً أقيس ، لأن العرب قالوا : مسلمون ، فجعلوا الواو تابعة للضمة ، لأنها لا تعرب ، ثم قالوا : رأيت المسلمين ، فجعلوا الياء تابعة لكسرة الميم قالوا : فلما رأوا الياء من الاثنين لا يمكنهم كسر ما قبلها ، وثبت مفتوحا ، تركوا الألف تتبعه ، فقالوا : رجلان في كلّ حال . قال : وقد اجتمعت العرب على إثبات الألف في كلام الرجلين ، في الرفع والنصب والخفض ، وهما اثنان ، إلا بني كنانة ، فإنهم يقولون : رأيت كِلَىِ الرجلين ، ومررت بكلي الرجلين ، وهي قبيحة قليلة مَضَوا على القياس . قال : والوجه الاَخر أن تقول : وجدت الألف من هذا دعامة ، وليست بلام «فَعلَى » فلما بنيت زدت عليها نونا ، ثم تركت الألف ثابتة على حالها لا تزول بكلّ حال ، كما قالت العرب الذي ، ثم زادوا نونا تدلّ على الجمع ، فقالوا : الذين في رفعهم ونصبهم وخفضهم ، كما تركوا هذان في رفعه ونصبه وخفضه . قال : وكان القياس أن يقولوا : الّذُون . وقال آخر منهم : ذلك من الجزم المرسل ، ولو نصب لخرج إلى الانبساط .
وحُدثت عن أبي عُبيدة معمر بن المثنى ، قال : قال أبو عمرو وعيسى بن عمر ويونس ، إن هذين لساحران في اللفظ ، وكتب «هذان » كما يريدون الكتاب ، واللفظ صواب . قال : وزعم أبو الخطاب أنه سمع قوما من بني كنانة وغيرهم ، يرفعون الاثنين في موضع الجرّ والنصب . قال : وقال بشر بن هلال : إن بمعنى الابتداء والإيجاب . ألا ترى أنها تعمل فيما يليها ، ولا تعمل فيما بعد الذي بعدها ، فترفع الخبر ولا تنصبه ، كما نصبت الاسم ، فكان مجاز «إن هذان لساحران » ، مجاز كلامين ، مَخْرجه : إنه : إي نَعَم ، ثم قلت : هذان ساحران . ألا ترى أنهم يرفعون المشترك كقول ضابىء :
فَمَنْ يَكُ أمْسَى بالمَدِينَةِ رَحْلُهُ *** فإنّي وَقَيّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ
إنّ السّيُوفَ غُدُوّها وَرَواحَها *** تَرَكَتْ هَوَازِنَ مِثْلَ قَرْنِ الأعْضَبِ
قال : ويقول بعضهم : إن الله وملائكتُهُ يصلون على النبيّ ، فيرفعون على شركة الابتداء ، ولا يعملون فيه إنّ . قال : وقد سمعت الفصحاء من المُحْرِمين يقولون : إن الحمدَ والنعمةُ لك والملكُ ، لا شريك لك . قال : وقرأها قوم على تخفيف نون إن وإسكانها . قال : ويجوز لأنهم قد أدخلوا اللام في الابتداء وهي فصل ، قال :
*** أُمّ الحُلَيْسِ لعَجُوزٌ شَهْرَبَهْ ***
قال : وزعم قوم أنه لا يجوز ، لأنه إذا خفف نوّن «إن » فلا بدّ له من أن يدخل «إلا » فيقول : إن هذا إلا ساحران .
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندنا : إنّ بتشديد نونها ، وهذان بالألف لإجماع الحجة من القرّاء عليه ، وأنه كذلك هو في خطّ المصحف . ووجهه إذا قرىء كذلك مشابهته الذين إذ زادوا على الذي النون ، وأقرّ في جميع الأحوال الإعراب على حالة واحدة ، فكذلك إنّ هَذَانِ زيدت على هذا نون وأقرّ في جميع أحوال الإعراب على حال واحدة ، وهي لغة بني الحرث بن كعب ، وخثعم ، وزبيد ، ومن وليهم من قبائل اليمن .
وقوله : " وَيَذْهَبا بطَرِيقَتِكُمْ المُثْلَى " يقول : ويغلبا على ساداتكم وأشرافكم ، يقال : هو طريقة قومه ونظورة قومه ، ونظيرتهم إذا كان سيدهم وشريفهم والمنظور إليه ، يقال ذلك للواحد والجمع ، وربما جمعوا ، فقالوا : هؤلاء طرائق قومهم ومنه قول الله تبارك وتعالى : " كُنّا طَرَائقَ قِدَادا " ، وهؤلاء نظائر قومهم . وأما قوله : " المُثْلَى " فإنها تأنيث الأمثل ، يقال للمؤنث ، خذ المثلى منهما . وفي المذكر : خذ الأمثل منهما ، ووحدت المثلى ، وهي صفة ونعت للجماعة ، كما قيل : " لهُ الأسْماءُ الحُسْنَى " ، وقد يحتمل أن يكون المُثلى أنثت لتأنيث الطريقة .
وبنحو ما قلنا في معنى قوله : " بِطَرِيقَتِكُمُ المُثْلَى " قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : " وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ المُثلَى " يقول : أمثلكم وهم بنو إسرائيل .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : " وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ المُثْلَى " قال : أولي العقل والشرف والأنساب .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، في قوله " وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ المُثْلَى " قال : أولي العقول والأشراف والأنساب .
حدثنا أبو كريب وأبو السائب ، قالا : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : " وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ المُثْلَى " وطريقتهم المُثلى يومئذٍ كانت بنو إسرائيل ، وكانوا أكثر القوم عددا وأموالاً وأولادا . قال عدوّ الله : إنما يريدان أن يذهبا بهم لأنفسهما .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله " بِطَرِيقَتِكُمُ المُثْلَى " قال : ببني إسرائيل .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ " وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المُثْلَى " يقول : يذهبا بأشراف قومكم .
وقال آخرون : معنى ذلك : ويغيرا سنتكم ودينكم الذي أنتم عليه ، من قولهم : فلان حسن الطريقة . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ المُثْلَى " قال : يذهبا بالذي أنتم عليه ، يغير ما أنتم عليه . وقرأ : " ذَرُونِي أقْتُلْ مُوسَى وَليْدْعُ رَبّهُ إنّي أخافُ أنْ يُبَدّلَ دِينَكُمْ أوْ أنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الفَسادَ " قال : هذا قوله : " وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ المُثْلَى " وقال : يقول طريقتكم اليوم طريقة حسنة ، فإذا غيرت ذهبت هذه الطريقة . ورُوي عن علي في معنى قوله : " وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ المُثْلَى " ما :
حدثنا به القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبد الرحمن بن إسحاق ، عن القاسم ، عن عليّ بن أبي طالب ، قال : يصرفان وجوه الناس إليهما .
قال أبو جعفر : وهذا القول الذي قاله ابن زيد في قوله : " ويَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ المُثْلَى " وإن كان قولاً له وجه يحتمله الكلام ، فإن تأويل أهل التأويل خلافه ، فلا أستجيز لذلك القول به .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل العلم في السرار الذي أسروه؛
فقال بعضهم: هو قول بعضهم لبعض: إن كان هذا ساحرا فإنا سنغلبه، وإن كان من أمر السماء فإنه سيغلبنا.
وقال آخرون: في ذلك... عن وهب بن منبه، قال: أشار بعضهم إلى بعض بتناج "إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا".
وقوله "وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى "يقول: ويغلبا على ساداتكم وأشرافكم، يقال: هو طريقة قومه ونظورة قومه، ونظيرتهم إذا كان سيدهم وشريفهم والمنظور إليه، يقال ذلك للواحد والجمع، وربما جمعوا، فقالوا: هؤلاء طرائق قومهم، ومنه قول الله تبارك وتعالى: "كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا" وهؤلاء نظائر قومهم.
وأما قوله:"المُثْلَى" فإنها تأنيث الأمثل، يقال للمؤنث، خذ المثلى منهما. وفي المذكر: خذ الأمثل منهما، ووحدت المثلى، وهي صفة ونعت للجماعة، كما قيل "لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى" وقد يحتمل أن يكون المُثلى أنثت لتأنيث الطريقة... عن مجاهد، قوله "ويذهبا بطريقتكم المثلى" قال: أولي العقل والشرف والأنساب... وقال آخرون: معنى ذلك، ويغيرا سنتكم ودينكم الذي أنتم عليه، من قولهم: فلان حسن الطريقة... قال ابن زيد، في قوله "وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى" قال: يذهبا بالذي أنتم عليه، يغيرا ما أنتم عليه، وقرأ "ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الْفَسَادَ" قال: هذا قوله: "وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى" وقال: يقول طريقتكم اليوم طريقة حسنة، فإذا غيرت ذهبت هذه الطريقة.
ورُوي عن عليّ في معنى قوله (وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى) ما حدثنا به القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن إسحاق، عن القاسم، عن عليّ بن أبي طالب، قال: يصرفان وجوه الناس إليهما.
وهذا القول الذي قاله ابن زيد في قوله "وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى" وإن كان قولا له وجه يحتمله الكلام، فإن تأويل أهل التأويل خلافه، فلا أستجيز لذلك القول به.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله: {إن هذان لساحران} بالألف. قال أبو عبيدة: هذه لغة قوم من العرب [يقول: مررت برجلان] ورأيت رجلان. فهو على تلك اللغة. وقال بعضهم: إن هذه الألف، لا تسقط في الوحدان بحال؛ يقال: مررت بهذا، ورأيت هذا، ونحوه. فهو كالأصل، لا يحتمل السقوط في الأحوال كلها الوحدان والتثنية. وقال بعضهم: {إن هذان لساحران} أي: نعم هذان لساحران، وتلك لغة قوم أيضا؛ يقولون: إن مكان نعم...
... إنه سبحانه وتعالى لما ذكر ما أسروه من النجوى حكى عنهم ما أظهروه ومجموعه يدل على التنفير عن موسى عليه السلام ومتابعة دينه...
وهذا طعن منهم في معجزات موسى عليه السلام ثم مبالغة في التنفير عنه لما أن كل طبع سليم يقتضي النفرة عن السحر وكراهة رؤية الساحر، ومن حيث إن الإنسان يعلم أن السحر لا بقاء له فإذا اعتقدوا فيه السحر قالوا: كيف نتبعه فإنه لا بقاء له ولا لدينه ولا لمذهبه...
قوله: {يريدان أن يخرجاكم من أرضكم} وهذا في نهاية التنفير لأن المفارقة عن المنشأ، والمولد شديدة على القلوب، وهذا هو الذي حكاه الله تعالى عن فرعون في قوله: {أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى} وكأن السحرة تلقفوا هذه الشبهة من فرعون ثم أعادوها...
قوله: {ويذهبا بطريقتكم المثلى} وهذا أيضا له تأثير شديد في القلب فإن العدو إذا جاء واستولى على جميع المناصب والأشياء التي يرغب فيها فذلك يكون في نهاية المشقة على النفس فهم ذكروا هذه الوجوه للمبالغة في التنفير عن موسى والترغيب في دفعه وإبطال أمره... فالمراد أنهم كانوا يحرضون القوم بأن موسى وهارون عليهما السلام يريدان أن يذهبا بأشراف قومكم وأكابركم وهم بنو إسرائيل لقول موسى عليه السلام: {أرسل معنا بني إسرائيل} وإنما سموا بني إسرائيل بذلك لأنهم كانوا أكثر القوم يومئذ عددا وأموالا ومن المفسرين من فسر الطريقة المثلى بالدين سموا دينهم بالطريقة المثلى: {وكل حزب بما لديهم فرحون} ومنهم من فسرها بالجاه والمنصب والرياسة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وجعل بعضهم يحمس بعضا، وراحوا يهيجون في المترددين الخوف من موسى وهارون، اللذين يريدان الاستيلاء على مصر وتغيير عقائد أهلها؛ مما يوجب مواجهتهما يدا واحدة بلا تردد ولا نزاع. واليوم هو يوم المعركة الفاصلة والذي يغلب فيها الفالح الناجح:
"قالوا: إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى".
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {قَالُوا إنْ هذان لساحران} بدل اشتمال من جملة {وأسَرُّوا النجوى}، لأن إسرار النجوى يشتمل على أقوال كثيرة ذُكر منها هذا القول، لأنّه القول الفصل بينهم والرأي الذي أرسوا عليه، فهو زبدة مخيض النجوى. وذلك شأن التشاور وتنازع الآراء أن يسفر عن رأي يصدر الجميع عنه.
وإسناد القول إلى ضمير جمعهم على معنى: قال بعضهم: هذان لساحران، فقال جميعهم: نعم هذان لسَاحران، فأسند هذا القول إلى جميعهم، أي مقالة تداولوا الخوض في شأنها فأرسوا عليها. وقال بعضهم لبعض: نعم هو كذلك، ونطقوا بالكلام الذي استقرّ عليه رأيهم، وهو تحققهم أنّ موسى وأخاه ساحران...
وتأكيد السحرة كونَ موسى وهارون ساحرين بحرف (إنّ) لتحقيق ذلك عند من يخامره الشكّ في صحّة دعوتهما.
وجعل ما أظهره موسى من المعجزة بين يدي فرعون سحراً لأنّهم يطلقون السحر عندهم على خوارق العادات، كما قالت المرأة الّتي شاهدت نبع الماء من بين أصابع النبي لقومها: جئتكم من عندِ أسْحر النّاس، وهو في كتاب المغازي من « صحيح البخاري».
والقائلون: قد يكون بعضهم ممن شاهد ما أتى به موسى في مجلس فرعون، أو ممن بلغهم ذلك بالتسامع والاستفاضة.
والخطاب في قوله {أن يُخْرِجَاكُم} لملئهم. ووجه اتهامهما بذلك هو ما تقدم عند قوله تعالى: {قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى} [طه: 57]. ونزيد هنا أن يكون هذا من النجوى بين السحرة، أي يريدانِ الاستئثار بصناعة السحر في أرضكم فتخرجوا من الأرض بإهمال الناس لكم وإقبالهم على سحر موسى وهارون.
والطريقة: السُّنّة والعادة؛ شبهت بالطريق الذي يسير فيه السائر، بجامع الملازمة.
والمثلى: مؤنّث الأمثل. وهو اسم تفضيل مشتقّ من المَثَالة، وهي حسن الحالة يقال: فلان أمثل قومِه، أي أقربهم إلى الخير وأحسنهم حالاً.
وأرادوا من هذا إثارة حمية بعضهم غيرة على عوائدهم، فإن لكلّ أمّة غيرة على عوائدها وشرائعها وأخلاقها. ولذا فرّعوا على ذلك أمرهم بأن يجمعوا حيلهم وكل ما في وسعهم أن يغلبوا به موسى.
والباء في {بطريقتكم} لتعدية فعل {يذهبا}. والمعنى: يُذهبانها، وهو أبلغ في تعلّق الفعل بالمفعول من نصب المفعول. وتقدّم عند قوله تعالى: {ذهب الله بنورهم} في سورة البقرة (17).
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{قَالُواْ إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} لا يملكان أية صفة للرسالة أو للنبوة، ولكنهما يتظاهران بذلك ليسيطرا على الناس بطريقة الإيحاء بقداسة موقعهما ليحققا أهدافهما العدوانية، فإنهما {يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا} ليكون لهما ولشعبهما السيطرة على الأرض كلها، {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} ويغيِّرا كل أوضاعكم التي درجتم عليها مئات السنين، فأصبحت جزءاً من شخصيتكم القومية وحققت لكم الغلبة على من حولكم، وحصلت لكم بها، الامتيازات في الوضع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، فماذا تنتظرون منهما؟ هل تنتظرون منهما أن يحققا ما يريدان فتندموا على ذلك من حيث لا ينفعكم الندم،