التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{أَفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِۦ جِنَّةُۢۗ بَلِ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ فِي ٱلۡعَذَابِ وَٱلضَّلَٰلِ ٱلۡبَعِيدِ} (8)

وقوله - سبحانه - بعد ذلك : { أفترى عَلَى الله كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ } حكاية لقول آخر من أقوالهم الباطلة ، التى قالواها بشأن ما جاءهم به النبى صلى الله عليه وسلم .

والاستفهام لتعجبهم مما قاله صلى الله عليه وسلم لأن قوله لهم : إنكم ستبعثون وتحاسبون يوم القيامة ، جعلهم لجهلهم وانطماس عقولهم - يستنكرون ذلك ، ويرجعون قوله صلى الله عليه وسلم إلى أمرين : إما افتراء الكذب واختلاقه على الله - تعالى - وإما إصابته بالجنون الذى جعله يقول قولا لا يدرى معناه .

وقد رد الله - تعالى - بما ينفى عن رسوله صلى الله عليه وسلم ما اتهموه به ، وبما يثبت جهلهم وغباءهم فقال . { بَلِ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة فِي العذاب والضلال البعيد } .

أى : ليس الأمر كما زعم هؤلاء الكافرون ، من أن الرسول صلى الله عليه وسلم الذى أخبرهم بأن هناك بعثا وحسابا ، به جنة أو افترى على الله كذبا ، بل الحق أن هؤلاء الكافرين الذين لا يؤمنون بالآخرة وما فيها من ثواب وعقاب ، غارقون فى العذاب الذى لا نهاية له . وفى الضلال البعيد عن الحق غاية البعد .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أَفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِۦ جِنَّةُۢۗ بَلِ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ فِي ٱلۡعَذَابِ وَٱلضَّلَٰلِ ٱلۡبَعِيدِ} (8)

ويمضون في العجب والتعجيب ، والاستنكار والتشهير : ( أفترى على الله كذباً أم به جنة ? ) . . فما يقول مثل هذا الكلام - بزعمهم - إلا كاذب يفتري على الله ما لم يقله ، أو مسته الجن فهو يهذي أو ينطق بالعجيب الغريب !

ولم هذا كله ? لأنه يقول لهم : إنكم ستخلقون خلقاً جديداً ! وفيم العجب وهم قد خلقوا ابتداء ? إنهم لا ينظرون هذه العجيبة الواقعة . عجيبة خلقهم الأول . ولو قد نظروها وتدبروها ما عجبوا أدنى عجب للخلق الجديد . ولكنهم ضالون لا يهتدون . ومن ثم يعقب على تشهيرهم وتعجيبهم تعقيباً شديداً مرهوباً :

( بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد ) . .

وقد يكون المقصود بالعذاب الذي هم فيه عذاب الآخرة ، فهو لتحققه كأنهم واقعون فيه ، وقوعهم في الضلال البعيد الذي لا يرجى معه اهتداء . . وقد يكون هذا تعبيراً عن معنى آخر . معنى أن الذين لا يؤمنون بالآخرة يعيشون في عذاب كما يعيشون في ضلال . وهي حقيقة عميقة . فالذي يعيش بلا عقيدة في الآخرة يعيش في عذاب نفسي . لا أمل له ولا رجاء في نصفة ولا عدل ولا جزاء ولا عوض عما يلقاه في الحياة . وفي الحياة مواقف وابتلاءات لا يقوى الإنسان على مواجهتها إلا وفي نفسه رجاء الآخرة ، وثوابها للمحسن وعقابها للمسيء . وإلا ابتغاء وجه الله والتطلع إلى رضاه في ذلك العالم الآخر ، الذي لا تضيع فيه صغيرة ولا كبيرة ( وإن تكن مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله ) . والذي يحرم هذه النافذة المضيئة الندية المريحة يعيش ولا ريب في العذاب كما يعيش في الضلال . يعيش فيهما وهو حي على هذه الأرض قبل أن يلقى عذاب الآخرة جزاء على هذا العذاب الذي لقيه في دنياه !

إن الإعتقاد بالآخرة رحمة ونعمة يهبهما الله لمن يستحقهما من عباده بإخلاص القلب ، وتحري الحق ، والرغبة في الهدى . وأرجح أن هذا هو الذي تشير إليه الآية ، وهي تجمع على الذين لا يؤمنون بالآخرة بين العذاب والضلال البعيد .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{أَفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِۦ جِنَّةُۢۗ بَلِ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ فِي ٱلۡعَذَابِ وَٱلضَّلَٰلِ ٱلۡبَعِيدِ} (8)

القول في تأويل قوله تعالى : { أَفْتَرَىَ عَلَى اللّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنّةٌ بَلِ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضّلاَلِ الْبَعِيدِ } .

يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هؤلاء الذين كفروا به ، وأنكروا البعث بعد الممات بعضهم لبعض ، معجبين من رسول الله صلى الله عليه وسلم في وعده إياهم ذلك : أفترى هذا الذي يعدنا أنا بعد أن نمزّق كلّ ممزّق في خلق جديد على الله كذبا ، فتخلق عليه بذلك باطلاً من القول ، وتخرص عليه قول الزور أمْ به جِنّةٌ يقول : أم هو مجنون فيتكلم بما لا معنى له . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : قالوا تكذيبا : أفْتَرَى على اللّهِ كَذِبا قال : قالوا : إما أن يكون يكذب على الله ، أم به جنة ، وإما أن يكون مجنونا بَلِ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ . . . الاَية .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ثم قال بعضهم لبعض : أفْتَرَى عَلى اللّهِ كَذِبا أمْ بِهِ جِنّةٌ الرجل مجنون فيتكلم بما لا يعقل ، فقال الله : بَلِ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بالاَخِرَةِ فِي العَذَابِ والضّلالِ البَعِيدِ .

وقوله : بَلِ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بالاَخِرَةِ فِي العَذَابِ والضّلالِ البَعِيدِ يقول تعالى ذكره : ما الأمر كما قال هؤلاء المشركون في محمد صلى الله عليه وسلم ، وظنوا به من أنه أفترى على الله كذبا ، أو أن به جنة ، لكنّ الذين لا يؤمنون بالاَخرة من هؤلاء المشركين في عذاب الله في الاَخرة ، وفي الذهاب البعيد عن طريق الحقّ ، وقصد السبيل ، فهم من أجل ذلك يقولون فيه ما يقولون .

حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد قال الله : بَلِ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بالاَخِرَةِ فِي العَذَابِ والضّلالِ البَعِيدِ وأمره أن يحلف لهم ليعتبروا ، وقرأ : قُلْ بَلى وَرَبّي لَتُبْعَثُنّ ثُمّ لَتُنَبّؤُنّ بِما عَمِلْتُمْ . . . الاَية كلها ، وقرأ : قُلْ بَلى وَربّي لَتَأْتِيَنّكُمْ .

وقطعت الألف من قوله : أفْتَرَى على اللّهِ في القطع والوصل ، ففتُحت لأنها ألف استفهام . فأما الألف التي بعدها ، التي هي ألف أفتعل ، فإنها ذهبت لأنها خفيفة زائدة تسقط في اتصال الكلام ، ونظيرها : سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ وبِيَدَيّ أسْتَكْبَرْتَ وأَصْطَفَى الْبَنَاتِ وما أشبه ذلك . وأما ألف «آلاَنَ » «وآلذّكَرَيْنِ » فطوّلت هذه ، ولم تطوّل تلك ، لأن آلاَن وآلذكرين كانت مفتوحة ، فلو أسقطت لم يكن بين الاستفهام والخبر فرق ، فجعل التطويل فيها فرقا بين الاستفهام والخبر ، وألف الاستفهام مفتوحة ، فكانتا مفترقتين بذلك ، فأغنى ذلك دلالة على الفرق من التطويل .