السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{أَفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِۦ جِنَّةُۢۗ بَلِ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ فِي ٱلۡعَذَابِ وَٱلضَّلَٰلِ ٱلۡبَعِيدِ} (8)

والهمزة في قوله : { أفترى } أي : تعمد { على الله } أي : الذي لا أعلم منه { كذباً } أي : بالإخبار بخلاف الواقع وهو عاقل صحيح القصد همزة استفهام فالقراء الجميع يحققونها ، واستغنى بها عن همزة الوصل فإنها تحذف لأجلها فلذلك تثبت هذه الهمزة ابتداء ووصلاً ، قال البغوي : هذه ألف استفهام دخلت على ألف الوصل فلذلك نصبت { أم به جنة } أي : جنون يحكى به ذلك ، واستدل الجاحظ بهذه الآية على أن الكلام ثلاثة أقسام : صدق وكذب ، ولا صدق ولا كذب ووجه الدلالة منه على القسم الثالث أن قولهم { أم به جنة } لا جائز أن يكون كذباً لأنه قسيم الكذب وقسيم الشيء غيره ، ولا جائز أن يكون صدقاً لأنهم لم يعتقدوه فثبت قسم ثالث . وأجيب عنه : بأن المعنى أم لم يفتر ولكن عبر هذا بقولهم { أم به جنة } لأن المجنون لا افتراء له .

تنبيه : قوله { أفترى } يحتمل أن يكون من تمام قول الكافرين أولاً أي : من كلام القائلين { هل ندلكم } ويحتمل أن يكون من كلام السامع المجيب للقائل { هل ندلكم } كأن القائل لما قال له { هل ندلكم على رجل } قال له : هل افترى على الله كذباً إن كان يعتقد خلافه أم به جنة أي : جنون إن كان لا يعتقد خلافه .

ولما كان الجواب ليس به شيء من ذلك عطف عليه قوله تعالى { بل الذين لا يؤمنون } أي : لا يوجدون الإيمان لأنهم طبعوا على الكفر { بالآخرة } أي : المشتملة على البعث والعذاب { في العذاب } أي : في الآخرة { والضلال البعيد } أي : عن الصواب في الدنيا ، فرد الله تعالى عليهم ترديدهم وأثبت لهم سبحانه ما هو أفظع من القسمين فقوله تعالى { بل الذين كفروا } في العذاب في مقابلة قولهم { أفترى على الله كذباً } وقوله تعالى { والضلال البعيد } في مقابلة قولهم { أم به جنة } وكلاهما مناسب ، أما العذاب فلأن نسبة الكذب إلى الصادق مؤد إلى أنه شهادة عليه بأنه يستحق العذاب فجعل العذاب عليهم حيث نسبوا الكذب إلى البريء ، وأما الضلال فلأن نسبة الجنون إلى العاقل دونه في الإيذاء ، فإنه لا يشهد عليه بأنه يعذب وإنما ينسبه إلى عدم الهداية فبين تعالى أنهم هم الضالون ، ثم وصف ضلالهم بالبعد ووصف الضلال به للإسناد المجازي لأن من يسمي المهدي ضالاً يكون أضل ، والنبي صلى الله عليه وسلم هادي كل مهتد .