البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أَفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِۦ جِنَّةُۢۗ بَلِ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ فِي ٱلۡعَذَابِ وَٱلضَّلَٰلِ ٱلۡبَعِيدِ} (8)

والظاهر أن قوله : { أفترى } من قول بعضهم لبعض ، أي هو مفتر ، { على الله كذباً } فيما ينسب إليه من أمر البعث ، { أم به } جنون يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه .

عادلوا بين الافتراء والجنون ، لأن هذا القول عندهم إنما يصدر عن أحد هذين ، لأنه إذا كان يعتقد خلاف ما أتى به فهو مفتر ، وإن كان لا يعتقده فهو مجنون .

ويحتمل أن يكون من كلام السامع المجيب لمن قال : { هل ندلكم } ، ردد بين الشيئين ولم يجزم بأحدهما ، حيث جوز هذا وجوز هذا ، ولم يجزم بأنه افتراء محض ، احترازاً من أن ينسب الكذب لعاقل نسبة قطعية ، إذ العاقل حتى الكافر لا يرضى بالكذب ، لا من نفسه ولا من غيره ، وأضرب تعالى عن مقالتهم ، والمعنى : ليس للرسول كما نسبتم ألبتة ، بل أنتم في عذاب النار ، أو في عذاب الدنيا بما تكابدونه من إبطال الشرع وهو بحق ، وإطفاء نور الله وهو متم .

ولما كان الكلام في البعث قال : { بل الذين لا يؤمنون بالآخرة } ، فرتب العذاب على إنكار البعث ، وتقدم الكلام في وصف الضلال بالبعد ، وهو من أوصاف المحال استعير للمعنى ، ومعنى بعده : أنه لا ينقضي خبره المتلبس به .