والمراد بالآيات التسع فى قوله - تعالى - : { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ . . . } : العصا ، واليد ، والسنون ، والبحر ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ؛ والدم . قال ذلك ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم .
وقد جاء الحديث عن هذه الآيات فى مواضع أخرى من القرآن الكريم ، منها قوله - تعالى - : { فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ } وقوله - تعالى - : { وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بالسنين وَنَقْصٍ مِّن الثمرات . . . } وقوله - سبحانه - : { فَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم } وقوله - عز وجل - : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ فاستكبروا وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } والمعنى : لا تظن - أيها الرسول الكريم - أن إيمان هؤلاء المشركين من قومك ، متوقف على إجابة ما طلبوه منك . وما اقترحوه عليك من أن تفجر لهم من الأرض ينبوعًا ، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب . . الخ . لا تظن ذلك :
فإن الخوارق مهما عظمت لا تنشئ الإِيمان فى القلوب الجاحدة الحاقدة ، بدليل أننا قد أعطينا أخاك موسى تسع معجزات ، واضحات الدلالة على صدقه فى نبوته ، ولكن هذه المعجزات لم تزد المعاندين من قومه إلا كفرًا على كفرهم ورجسًا على رجسهم . فاصبر - أيها الرسول - على تعنت قومك وأذاهم ، كما صبر أولو العزم من الرسل قبلك .
وتحديد الآيات بالتسع ، لا ينفى أن هناك معجزات أخرى أعطاها الله - تعالى - لموسى - عليه السلام - إذ من المعروف عند علماء الأصول ، أن تحديد العدد بالذكر ، لا يدل على نفى الزائد عنه .
قال الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : وهذا القول - المروى عن ابن عباس وغيره - ظاهر جلى حسن قوى . . فهذه الآيات التسع ، التى ذكرها هؤلاء الأئمة ، هى المرادة هنا . . .
وقد أوتى موسى - عليه السلام - آيات أخرى كثيرة منها : ضربه الحجر بالعصا ، وخروج الماء منه . . وغير ذلك مما أوتوه بنوا إسرائيل بعد خروجهم من مصر ، ولكن ذكر هنا هذه الآيات التسع التى شاهدها فرعون وقومه من أهل مصر وكانت حجة عليهم فخالفوها وعاندوها كفرا وجحودا .
ثم قال : وقال الإِمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة ، قال : " سمعت عبد الله بن سلمة يحدث عن صفوان بن عسال المرادى قال : قال يهودى لصاحبه : اذهب بنا إلى هذا النبى حتى نسأله عن هذه الآية : { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ . . . } فسألاه : فقال النبى صلى الله عليه وسلم : " لا تشركوا بالله شيئًا ، ولا تسرقوا ولا تزنوا ، ولاتقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق ، ولا تسخروا ، ولا تأكلوا الربا ، ولا تمشوا ببرئ إلى ذى سلطان ليقتله ، ولا تقذفوا محصنة ، ولا تفروا من الزحف " . . فقبَّلا يديه ورجليه " .
ثم قال : " أما هذا الحديث فهو حديث مشكل . وعبد الله بن سلمة فى حفظه شئ ، وتكلموا فيه ، ولعله اشتبه عليه التسع الآيات ، بالعشر الكلمات ، فإنها وصايا فى التوراة ، لا تعلق لها بقيام الحجة على فرعون . . . " .
والحق أن ما رجحه الإِمام ابن كثير من أن المراد بالآيات التسع هنا : ما آتاه الله - تعالى - لنبيه موسى - عليه السلام - من العصا ، واليد . . . هو الذى تسكن إليه النفس ، لأن قوله - تعالى - بعد ذلك { قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هؤلاء إِلاَّ رَبُّ السماوات والأرض بَصَآئِرَ . . . } يؤيد أن المراد بها ما تقدم من العصا ، واليد ، والسنين . . ولأنها هى التى فيها الحجج ، والبراهين والمعجزات الدالة على صدق موسى - عليه السلام - . أما تلك الوصايا التى وردت فى الحديث فلا علاقة لها بقيام الحجة على فرعون - كما قال الإِمام ابن كثير .
هذا ، والخطاب فى قوله - تعالى - : { فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَآءَهُمْ } يرى بعضهم أنه للنبى صلى الله عليه وسلم والمسئولون هم المؤمنون من بنى إسرائيل كعبد الله بن سلام وأصحابه .
وعلى هذا التفسير يكون قوله : { إذ جاءهم } ظرف لقوله { آتينا } وجملة { فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ } معترضة بين العامل والمعمول .
والمعنى : ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات ، وقت أن أرسله الله - تعالى - إلى فرعون وقومه ، فاسأل - أيها الرسول الكريم - المؤمنين من بنى إسرائيل عن ذلك ، ستجد منهم الجواب عما جرى بين موسى وأعدائه عن طريق ما طالعوه فى التوراة .
والمقصود بسؤالهم : الاستشهاد بهم حتى يزداد المؤمنون إيمانًا على إيمانهم ، لأن من شأن الأدلة إذا تضافرت وتعددت ، أن تكون أقوى وأثبت فى تأييد المدعى .
قال الآلوسى : " والمعنى : فاسأل يا محمد مؤمنى أهل الكتاب عن ذلك ، إما لأن تظاهر الأدلة أقوى - فى التثبيت - ، وإما من باب التهييج والإِلهاب ، وإما للدلالة على أنه أمر محقق عندهم ثابت فى كتابهم . وليس المقصود حقيقة السؤال . بل كونهم - أعنى المسئولين - من أهل علمه ، ولهذا يؤمر مثلك بسؤالهم " .
ويرى آخرون أن الخطاب لموسى - عليه السلام - ، وعليه يكون السؤال إما بمعناه المشهور أو بمعنى الطلب ، ويكون قوله { إذ جاءهم } ظرفًا لفعل مقدر .
والمعنى : ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات ، فقلنا له حين مجيئه إلى بنى إسرائيل : اسألهم عن أحوالهم مع فرعون ، أو اطلب منهم أن يؤمنوا بك ويصدقوك ، ويخرجوا معك حين تطلب من فرعون ذلك .
والفاء فى قوله : { فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لأَظُنُّكَ ياموسى مَسْحُوراً } هى الفصيحة .
إذ المعنى : فامتثل موسى أمرنا ، وسأل بنى إسرائيل عن أحوالهم ، وطلب من فرعون أن يرسلهم معه ، بعد أن أظهر له من المعجزات ما يدل على صدقه ، فقال فرعون لموسى على سبيل التعالى والتهوين من شأنه - عليه السلام - : يا موسى إنى لأظنك مسحورًا .
أى : سُحرت فخولط عقلك واختل ، وصرت تتصرف تصرفًا يتنافى مع العقل السليم ، وتدعى دعاوى لا تدل على تفكير قويم .
فقوله { مسحورا } اسم مفعول . يقال : سحر فلان فلانًا يسحره سحرًا فهو مسحور ، إذا اختلط عقله .
ويجوز أن يكون قوله { مسحورًا } بمعنى ساحر ، فيكون المعنى : إنى لأظنك يا موسى ساحرًا ، عليمًا بفنون السحر فقد أتيت بأشياء عجيبة يشير بذلك إلى انقلاب العصا حية بعد أن ألقاها - عليه السلام - .
وهذا شأن الطغاة فى كل زمان ومكان ، عندما يرون الحق قد أخذ يحاصرهم ، ويكشف عن ضلالهم وكذبهم . . . يرمون أهله - زورا وبهتانًا - بكل نقيصة .
وعلى أية حال فإن كثرة الخوارق لا تنشى ء الإيمان في القلوب الجاحدة . وها هو ذا موسى قد أوتي تسع آيات بينات ثم كذب بها فرعون وملؤه ، فحل بهم الهلاك جميعا .
( ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات ، فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم ، فقال له فرعون : إني لأظنك يا موسى مسحورا . قال : لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر ، وإني لأظنك يا فرعون مثبورا . فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا . وقلنا من بعده لبني إسرائيل : اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا ) . .
وهذا المثل من قصة موسى وبني إسرائيل يذكر لتناسقه مع سياق السورة وذكر المسجد الأقصى في أولها وطرف من قصة بني إسرائيل وموسى . وكذلك يعقب عليه بذكر الآخرة والمجيء بفرعون وقومه لمناسبة مشهد القيامة القريب في سياق السورة ومصير المكذبين بالبعث الذي صوره هذا المشهد .
والآيات التسع المشار إليها هنا هي اليد البيضاء والعصا وما أخذ الله به فرعون وقومه من السنين ونقص الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم . . ( فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم ) فهم شهداء على ما كان بين موسى وفرعون :
( فقال له فرعون : إني لأظنك يا موسى مسحورا ) . . فكلمة الحق وتوحيد الله والدعوة إلى ترك الظلم والطغيان والإيذاء لا تصدر في عرف الطاغية إلا من مسحور لا يدري ما يقول ! فما يستطيع الطغاة من أمثال فرعون أن يتصوروا هذه المعاني ؛ ولا أن يرفع أحد رأسه ليتحدث عنها وهو يملك قواه العقلية !
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.