ثم حكى - سبحانه - ما قاله الكافرون فى شأن يوم القيامة ، فقال - تعالى - { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة } .
أى : وقال الذين كفروا بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر ، لا تأتينا الساعة بحال من الأحوال ، وإنما نحن ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ، وإذا متنا فإن الأرض تأكل أجسادنا ، ولا نعود إلى الحياة مرة أخرى .
وعبروا عن إنكارهم لها بقولهم : { لاَ تَأْتِينَا الساعة } مبالغة فى نفيها نفيا كليها ، فكأنهم يقولون : لا تأتينا الساعة فى حال من الأحوال ، لأننا ننكر وجودها أصلا ، فضلا عن إتيانها .
وقد أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم بما يؤكد وجودها وإتيانها تأكيدا قاطعا فقال : { قُلْ بلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } .
و " بلى " حرف جواب لرد النفى ، فتفيد إثبات المنفى قبلها ، ثم أكد - سبحانه - ذلك بجملة القسم .
أى : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء المنكرين لإِتيان الساعة : ليس الأمر كما زعمتم ، بل هى ستأتيكم بغتة ، وحق ربى الذى أوجدنى وأوجدكم .
فالجملة الكريمة قد اشتملت على جملة من المؤكدات التى تثبت أن الساعة آتية لا ريب فيها ، ومن ذلك التعبير ب { بلى } بالجملة القسمية .
قال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : هذه إحدى الآيات الثلاث التى لا رابع لهن ، مما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه العظيم على ووقع المعاد ، لما أنكره من أنكره من أهل الكفر والعناد : فإحداهن فى سورة يونس ، وهى قوله - تعالى - : { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وربي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } والثانية : هذه الآية التى معنا . والثالثة : فى سورة التغابن وهى قوله - تعالى - : { زَعَمَ الذين كفروا أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ . . } وقوله - تعالى - : { عَالِمِ الغيب لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } تقوية لتأكيد إتيان الساعة .
قالوا لأن تأكيد القسم بجلائل نعوت المقسم به يؤذن بخامة شأن المقسم عله ، وقوة إثباته ، وصحته ، لما أن ذلك فى حكم الاستشهاد على الأمر .
وقوله { يَعْزُبُ } بمعنى يغيب ويخفى ، وفعله من باب " قلت وضرب " . يقال : عزب الشئ يعزب - بضم الزاى وكسرها - إذا غاب وبعد .
والمعنى : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء المنكرين لإِتيان الساعة : كذبتم فى إنكاركم وحق الله - تعالى - لتأتينكم ، والذى أخبرنى بذلك هو الله - تعالى - { عَالِمِ الغيب } أى : عالم ما غاب وخفى عن حسكم ، وهو - سبحانه - لا يغيب عن علمه مقدار أو وزن مثقال ذرة فى السماوات ولا فى الأرض ، ولا أصغر من ذلك المثقال ، ولا أكبر منه ، إلا وهو مثبت وكائن فى علمه - تعالى - الذى لا يغيب عنه شئ ، أو فى اللوح المحفوظ الذى فيه تسجل أحوال الخلائق وأقوالهم وأفعالهم .
وقوله - سبحانه - : { عَالِمِ الغيب } قرأ بعضهم بكسر الميم على أنه نعت لقوله { رَبِّي } .
أى : قبل بلى وربى عالم الغيب لتأتينكم الساعة .
وقرأه آخرون بضم الميم على أنه مبتدأ ، وخبر جملة : { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ } ، أو هو خبر لمبتدأ محذوف . أى : هو عالم الغيب .
وقوله : { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ } تمثيل لقلة الشئ ، ودقته ، والمراد انه لا يغيب عن علمه شئ ما ، مهما دق أو صغر ، إذ المثقال : مفعال من الثقل ، ويطلق على الشئ البالغ النهاية فى الصغر ، والذرة تطلق على النملة ، وعلى الغبار الذى يتطاير من التراب عند النفخ .
وفى قوله - سبحانه - : { وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ } إعجاز علمى بليغ للقرآن الكريم ، إذ كان من المعروف إلى عهد قريب ، أن الذرة أصغر الأجسام ، فأشار القرآن إلى أن هناك ما هو أصغر منها ، وهذا ما اكتشفه العلم الحديث بعد تحطيم الذرة ، وتقسيمها إلى جزئيات .
قال الجمل : وقوله : { وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ } العامة على رفع أصغر وأكبر ، وفيه وجهان :
أحدهما : الابتداء ، والخبر إلا فى كتاب ، والثانى : العطف على { مِثْقَالُ } ، وعلى هذا فيكون قوله : { إِلاَّ فِي كِتَابٍ } تأكيد للنفى فى { لاَ يَعْزُبُ } كأنه قال : لكنه فى كتاب مبين .
فإن قيل : فأى حاجة إلى ذكر الأكبر ، فإن من علم ما هو أصغر من الذرة لا بد وأن يعلم الأكبر ؟ فالجواب : لما كان الله - تعالى - أراد بيان إثبات الأمور فى الكتاب ، فلو اقتصر على الأصغر لتوهم متوهم أنه يثبت الصغائر لكونها محل النسيان ، وأما الأكبر فلا ينسى فلا حاجة إلى إثباته ، فقال : الإِثبات فى الكتاب ليس كذلك فإن الأكبر مكتوب أيضا .
وبعد تقرير تلك الحقيقة في تلك الصورة الرائعة الواسعة المدى الفسيحة المجال يحكي إنكار الذين كفروا بمجيء الساعة ؛ وهم القاصرون الذين لا يعلمون ماذا يأتيهم به الغد والله هو العليم بالغيب الذي لا يند عن علمه شيء في السماء ولا في الأرض ؛ والساعة لا بد منها ليلاقي المحسن والمسيء جزاء ما قدما في هذه الأرض :
( وقال الذين كفروا : لا تأتينا الساعة : قل : بلى وربي لتأتينكم ، عالم الغيب ، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين . ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم . والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم ) . .
وإنكار الذين كفروا للآخرة ناشيء من عدم إدراكهم لحكمة الله وتقديره . فحكمة الله لا تترك الناس سدى ، يحسن منهم من يحسن ويسيء منهم من يسيء ؛ ثم لا يلقى المحسن جزاء إحسانه ، ولا يلقى المسيء جزاء إساءته . وقد أخبر الله على لسان رسله : أنه يستبقي الجزاء كله أو بعضه للآخرة . فكل من يدرك حكمة الله في خلقه يدرك أن الآخرة ضرورية لتحقيق وعد الله وخبره . . ولكن الذين كفروا محجوبون عن تلك الحكمة .
ومن ثم يقولون قولتهم هذه : ( لا تأتينا الساعة ) . . فيرد عليهم مؤكداً جازماً : ( قل : بلى وربي لتأتينكم ) . . وصدق الله تعالى وصدق رسول الله - عليه صلوات الله - وهم لا يعلمون الغيب ومع ذلك يتأولون على الله ، ويجزمون بما لا علم لهم به . والله الذي يؤكد مجيء الساعة هو : عالم الغيب . . فقوله الحق عن علم بما هنالك وعن يقين .
ثم يعرض هذا العلم في صورة كونية كالتي سبقت في مطلع السورة ، تشهد هي الأخرى بأن هذا القرآن لا يكون من صنع بشر ، لأن خيال البشر لا تخطر له عادة مثل هذه الصور :
( لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ؛ ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ) . .
ومرة أخرى نقول : إن طبيعة هذا التصور ليست بشرية . وإنه ليست لها سابقة في كلام البشر شعره ونثره على السواء . فعندما يتحدث البشر عن شمول العلم ودقته وإحاطته لا يخطر على بالهم أن يصوروه في هذه الصورة الكونية العجيبة : ( لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر . . . ) . . ولست أعرف في كلام البشر إتجاهاً إلى مثل هذا التصور للعلم الدقيق الشامل . فهو الله ، سبحانه ، الذي يصف نفسه ، ويصف علمه ، بما يعلم من الأوصاف التي لا تخطر للبشر ! وبذلك يرفع تصور المسلمين لإلههم الذي يعبدونه فيعرفونه بصفته في حدود طاقتهم البشرية المحدودة على كل حال .
وأقرب تفسير لقوله تعالى : ( إلا في كتاب مبين )أنه علم الله الذي يقيد كل شيء ، ولا يند عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر .
ونقف أمام لفتة في قوله تعالى : مثقال ذرة . . . ولا أصغر من ذلك . والذرة كان معروفاً - إلى عهد قريب - أنها أصغر الأجسام . فالآن يعرف البشر - بعد تحطيم الذرة - أن هناك ما هو أصغر من الذرة ، وهو جزيئاتها التي لم تكن في حسبان أحد يومذاك ! وتبارك الله الذي يعلم عباده ما يشاء من أسرار صفته ومن أسرار خلقه عندما يشاء .
مجيء الساعة حتماً وجزماً ، وعلمه الذي لا تند عنه صغيرة ولا كبيرة :
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.