ثم رغب - سبحانه - فى الهجرة من أجل أعلاء دينه بأسمى ألوان الترغيب فقال : { وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرض مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً } .
وقوله : { مُرَاغَماً } اسم مكان أى يجد فى الأرض متحولا ومهاجرا .
قال القرطبى ما ملخصه : اختلف فى تأويل المراغم فقال مجاهد : المراغم : المتزحزح . وقال ابن عباس : المراغم : المتحول والمذهب . وقال ابن زيد : المراغم : المهاجر .
وهذه الأقوال متفقة المعانى وهو اسم الموضع الذى يراغم فيه . وهو مشتق من الرغام أى التراب ورغم أنف فلان أى لصق بالتراب . وراغمت فلانا هجرته وعاديته .
وهذا كله تفسير المعنى . فأما الخاص باللفظة هو أن المرغم موضع المراغمة كما ذكرناه وهو أن يرغم كل واحد من المتنازعين أنف صاحبه بأن يغلبه على مراده .
فكأن كفار قريش أرغموا أنوف المحبوسين بمكة ، فلو هاجر منهم لأرغم أنوف قريش لحصوله فى منعة منهم ، فتلك المنعة هى موضع المراغمة .
والمعنى : ومن يهاجر تاركا دار إقامته من أجل إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه ، يجد فى الأرض أماكن كثيرة يأمن فيها مكر أعدائه وظلمهم ، ويجد فيها من الخير والنعمة والسعة فى الرزق ما يكون سببا لرغم أنف أعدائه الذين فارقهم كراهة لصحبتهم القبيحة ، ومعاملتهم السيئة .
قال الفخر الرازى : وذلك لأن من فارق بلده وذهب إلى بلده أجنبية ، فإذا استقام أمره فى تلك البلدة الأجنبية ، ووصل ذلك الخبر إلى أهل بدلته خجلوا من سوء معاملتهم له ورغمت أنوفهم - أى أصابهم الذل - بسبب ذلك .
فكأنه قيل . يأيها الإِنسان إنك كنت تكره الهجرة عن وطنك خوفا من أن تقع فى المشقة والمحنة والسفر ، فلا تخف فإن الله - تعالى - سيعطيك من النعم الجليلة ، والمراتب العظيمة ، فى دار هجرتك ما يصير سببا لرغم أنوف أعدائك ، ويكون سببا لسعة عيشك .
وإنما قدم - سبحانه - ذكر رغم الأعداء على ذكر سعة العيش ؛ لأن ابتهاج الإِنسان الذى يهاجر عن أهله وبلده بسبب شدة ظلمهم له بدولته من حيث إنها تصير سببا لرغم أنوف الأعداء .
أشد من ابتهاجه بتلك الدولة من حيث إنها صارت سببا لسعة العيش عليه .
وقوله { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله } تنويه عظيم بشأن الهجرة من أجل إعلاء كلمة الله ، حيث جعل - سبحانه - ثوابها حاصلا حتى ولو لم يصل المهاجر إلى مقصده .
أى : ومن يخرج من بيته تاركا أهله ووطنه ، فارا بيدنه إلى المكان الذى تعلو فيه كلمة الله وكلمة رسوله ، قاصدا بذلك نصرة الحق وأهله ، من يفعل ذلك { يُدْرِكْهُ الموت } وهو فى طريقه قبل أن يصل إلى مكان هجرته { فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله } أى : فقد ثبت ووجب له الأجر عند الله - تعالى - تفضلا منه - سبحانه - وكرما { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } فيغفر لهذا المهاجر ما فرط منه من تقصير ، ويرحمه برحمته الواسعة .
وقوله { ثُمَّ يُدْرِكْهُ } بالجزم عطفا على فعل الشرط وهو { وَمَن يَخْرُجْ } . وجوابه قوله : { فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله } .
قال الآلوسى : وقرئ { ثُمَّ يُدْرِكْهُ } بالرفع . خرج ابن جنى على أنه فعل مضارع مرفوع والموت فاعله . والجملة خبر لمبتدأ محذوف أى : ثم هو يدركه الموت .
وفى التعبير بقوله { فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله } بعث للطمأنينة فى قلوب المهاجرين ، وحفز لهم على الهجرة من أجل إعلاء كلمة الله ؛ لأنهم إذاوصلوا إلى دار هجرتهم فقد راغموا أنف أعدائهم ورزقهم الله بالخير من فضله ، وإن ماتوا قبل أن يصلوا أعطاهم - سبحانه ثواب المهاجرين كاملا ببركة حسن نياتهم ، وكافأهم على ذلك أجرا جزيلا لا يعلم مقداره إلا هو .
وقد وردت روايات فى سبب نزول هذه الآية الكريمة منها ما أخرجه ابن جرير عن سعيد بن جبير أنها نزلت فى جندب بن ضمرة وكان قد بلغه وهو بمكة قوله - تعالى - : { إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ } . . الآية فقال لبنيه : أحملونى فإنى لست من المستضعفين ، وإنى لأهتدى إلى الطريق ، وإنى لا أبيت الليلة بمكة . فحملوه على سرير متوجها إلى المدينة - وكان شيخا كبيرا ، فمات بالتنعيم - وهو موضع قرب مكة - ولما أدركه الموت أخذ يصفق يمينه على شماله ويقول : اللهم هذه لك . وهذه لرسولك صلى الله عليه وسلم أبايعك على ما بايع عليه رسلوك - ثم مات - ولما بلغ خبر موته الصحابة قالوا : ليته مات بالمدينة فنزلت الآية .
هذا ، ومن الأحكام والآداب التى أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى :
1- وجوب الهجرة من دار لا يستطيع المسلم فيها أن يؤدى شعائر دينه .
قال القرطبى : فى هذه الآيات دليل على هجران الأرض التى يعمل فيها بالمعاصى . وقال سعيد بن جبير : إذا عمل بالمعاصى فى أرض فاخرج منها . وتلا { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا } . وقال مالك : هذه الآيات دالة على أنه ليس لأحد المقام فى أرض يسب فيها السلف ويعمل فيها بغير الحق .
وقال الشيخ القاسمى ما ملخصه : قال الحافظ بن حجر فى " الفتح " : الهجرة الترك . والهجرة إلى الشئ الانتقال إليه عن غيره . وفى الشرع : ترك ما نهى الله عنه .
وقد وقعت فى الإِسلام على وجهين :
الأول : الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن . كما فى هجرتى الحبشة وابتداء الهجرة من مكة إلى المدينة .
الثاني : الهجرة من دار الكفر إلى دار الإِيمان . وذلك بعد أن استقر النبى صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهاجر إليه من أمكنه ذلك من المسلمين . وكانت الهجرة إذ ذاك تختص بالمدينة إلى أن فتحت مكة فانقطع الاختصاص وبقى عموم الانتقال من دار الكفر لمن قدر عليه باقيا .
ثم قال الشيخ القاسمى : وقد أفصح ابن عمر بالمراد فيما أخرجه الإِسماعيلى بلفظ : انقطعت الهجرة بعد الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار . أى : ما دام فى الدنيا دار كفر ، فالهجرة واجبة منها على من أسلم وخشى أن يفتن فى دينه .
وروى الإِمام أحمد وأبو عن معاوية قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة . ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها " .
2- أن من خرج للهجرة فى سبيل الله ومات فى الطريق أعطاه الله - تعالى - أجر المهاجرين ببركة نيته الصادقة ، ويدل على ذلك ما جاء فى الصحيحين عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى . فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله . ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه " .
وقال صاحب الكشاف : كل هجرة لغرض دينى - من طلب علم أو حج أو جهاد أو فرار إلى بلد يزداد فيه طاعة أو قناعة وزهدا فى الدنيا أو ابتغاء رزق طيب - فهى هجرة إلى الله ورسوله . وإن أدركه الموت فى طريقه فأجره واقع على الله .
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد وبخت الذين رضوا أن يقيموا مع الكافرين فى ذلة وهوان مع قدرتهم على الهجرة ، وتوعدتهم على ضعف إيمانهم ، بسوء المصير ، وحرضت المؤمنين فى كل زمان ومكان على الهجرة فى سبيل الله بأسمى ألوان التحريض وأشدها ، ووعدت المهاجر من أجل إعلاء كلمة الحق بالخير الوفير ، والأجر الجزيل . { ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله ذُو الفضل العظيم }
أما السياق القرآني فيمضي في معالجة النفوس البشرية ؛ التي تواجه مشاق الهجرة ومتاعبها ومخاوفها ؛ وتشفق من التعرض لها . وقد عالجها في الآيات السابقة بذلك المشهد المثير للاشمئزاز والخوف معا . فهو يعالجها بعد ذلك ببث عوامل الطمأنينة - سواء وصل المهاجر إلى وجهته أو مات في طريقه - في حالة الهجرة في سبيل الله ، وبضمان الله للمهاجر منذ ان يخرج من بيته مهاجرا في سبيله . ووعده بالسعة والمتنفس في الأرض والمنطلق ، فلا تضيق به الشعاب والفجاج :
( ومن يهاجر - في سبيل الله - يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة . ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله - ثم يدركه الموت - فقد وقع أجره على الله . وكان الله غفورا رحيما ) . .
إن المنهج الرباني القرآني يعالج في هذه الآية مخاوف النفس المتنوعة ؛ وهي تواجه مخاطر الهجرة ؛ في مثل تلك الظروف التي كانت قائمة ؛ والتي قد تتكرر بذاتها أو بما يشابهها من المخاوف في كل حين .
وهو يعالج هذه النفس في وضوح وفصاحة ؛ فلا يكتم عنها شيئا من المخاوف ؛ ولا يداري عنها شيئا من الأخطار - بما في ذلك خطر الموت - ولكنه يسكب فيها الطمأنينة بحقائق أخرى وبضمانة الله سبحانه وتعالى . .
فهو أولا يحدد الهجرة بأنها ( في سبيل الله ) . . وهذه هي الهجرة المعتبرة في الإسلام . فليست هجرة للثراء ، أو هجرة للنجاة من المتاعب ، أو هجرة للذائذ والشهوات ، أو هجرة لأي عرض من أعراض الحياة . ومن يهاجر هذه الهجرة - في سبيل الله - يجد في الأرض فسحة ومنطلقا فلا تضيق به الأرض ، ولا يعدم الحيلة والوسيلة . للنجاة وللرزق والحياة :
( ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ) . .
وإنما هو ضعف النفس وحرصها وشحها ؛ يخيل إليها أن وسائل الحياة والرزق ، مرهونة بأرض ، ومقيدة بظروف ، ومرتبطة بملابسات لو فارقتها لم تجد للحياة سبيلا .
وهذا التصور الكاذب لحقيقة أسباب الرزق وأسباب الحياة والنجاة ؛ هو الذي يجعل النفوس تقبل الذل والضيم ، وتسكت على الفتنة في الدين ؛ ثم تتعرض لذلك المصير البائس . مصير الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم . والله يقرر الحقيقة الموعودة لمن يهاجر في سبيل الله . . إنه سيجد في أرض الله منطلقا وسيجد فيها سعة . وسيجد الله في كل مكان يذهب إليه ، يحييه ويرزقه وينجيه . .
ولكن الأجل قد يوافي في أثناء الرحلة والهجرة في سبيل الله . . والموت - كما تقدم في سياق السورة - لا علاقة له بالأسباب الظاهرة ؛ إنما هو حتم محتوم عندما يحين الأجل المرسوم . وسواء أقام أم هاجر ، فإن الأجل لا يستقدم ولا يستأخر .
غير أن النفس البشرية لها تصوراتها ولها تأثراتها بالملابسات الظاهرة . . والمنهج يراعي هذا ويعالجه . فيعطي ضمانة الله بوقوع الأجر على الله منذ الخطوة الأولى من البيت في الهجرة إلى الله ورسوله :
( ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله - ثم يدركه الموت - فقد وقع أجره على الله )
أجره كله . أجر الهجرة والرحلة والوصول إلى دار الإسلام والحياة في دار الإسلام . . فماذا بعد ضمان الله من ضمان ؟
ومع ضمانة الأجر التلويح بالمغفرة للذنوب والرحمة في الحساب . وهذا فوق الصفقة الأولى .
إنها صفقة رابحة دون شك . يقبض فيها المهاجر الثمن كله منذ الخطوة الأولى - خطوة الخروج من البيت مهاجرا إلى الله ورسوله - والموت هو الموت . في موعده الذي لا يتأخر . والذي لا علاقة له بهجرة أو إقامة . ولو أقام المهاجر ولم يخرج من بيته لجاءه الموت في موعده . ولخسر الصفقة الرابحة . فلا أجر ولا مغفرة ولا رحمة . بل هنالك الملائكة تتوفاه ظالما لنفسه !
وشتان بين صفقة وصفقة ! وشتان بين مصير ومصير !
ويخلص لنا من هذه الآيات التي استعرضناها من هذا الدرس - إلى هذا الموضع - عدة اعتبارات ، نجملها قبل أن نعبر إلى بقية الدرس وبقية ما فيه من موضوعات .
يخلص لنا منها مدى كراهية الإسلام للقعود عن الجهاد في سبيل الله ؛ والقعود عن الانضمام للصف المسلم المجاهد . . اللهم إلا من عذرهم الله من أولي الضرر ، ومن العاجزين عن الهجرة لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا . .