التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَسۡـَٔلۡ مَنۡ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلۡنَا مِن دُونِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ءَالِهَةٗ يُعۡبَدُونَ} (45)

ثم أضاف - سبحانه - إلى هذا التثبيت لنبيه - صلى الله عليه وسلم تثبيتا آخر فقال : { وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن آلِهَةً يُعْبَدُونَ } .

والمقصود من الآية الكريمة بيان أن الرسل جميعا ، قد دعوا أقوامهم إلى عبادة الله - تعالى - وحده ، كما قال - سبحانه - : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة } وكما قال - تعالى - : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون } قال صاحب الكشاف ما ملخصه : ليس المراد بسؤال الرسل حقيقة السؤال لاستحالته ، ولكنه مجاز عن النظر فى أديانهم ، وأنهم ما جاءوا قط بعبادة الأوثان ، وإنما جاءوا بالأمر بعبادة الله - تعالى - وحده . .

وقيل : إن النبى - صلى الله عليه وسلم - جمع الله له الأنبياء ، فى ليلة الإِسراح فى بيت المقدس ، فصلى بهم إماما ، وقيل له سلهم : فلم يتشك ولم يسأل .

وقيل معنا ، سل أمم من أرسلنا من قبلك ، وهم أهل الكتابين : التوارة والإِنجيل فإذا سألهم فكأنما سأل - رسلهم - فالكلام على حذف مضاف .

فالآية الكريمة تقرر على كل الوجوب بأبلغ أسلوب ، أن جميع الرسل قد جاءوا بعقيدة واحدة ، وبدين واحد ، هو عبادة الله - تعالى - ونبذ كل معبود سواه .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَسۡـَٔلۡ مَنۡ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلۡنَا مِن دُونِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ءَالِهَةٗ يُعۡبَدُونَ} (45)

26

( واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا : أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ? ) . .

والتوحيد هو أساس دين الله الواحد منذ أقدم رسول . فعلام يرتكن هؤلاء الذين يجعلون من دون الرحمن آلهة يعبدون ?

والقرآن يقرر هذه الحقيقة هنا في هذه الصورة الفريدة . . صورة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يسأل الرسل قبله عن هذه القضية : ( أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ? )وحول هذا السؤال ظلال الجواب القاطع من كل رسول . وهي صورة طريفة حقاً . وهو أسلوب موح شديد التأثير في القلوب .

وهناك أبعاد الزمان والمكان بين الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] والرسل قبله . وهناك أبعاد الموت والحياة وهي أكبر من أبعاد الزمان والمكان . . ولكن هذه الأبعاد كلها تتلاشى هنا أمام الحقيقة الثابتة المطردة . حقيقة وحدة الرسالة المرتكزة كلها على التوحيد . وهي كفيلة ان تبرز وتثبت حيث يتلاشى الزمان والمكان والموت والحياة وسائر الظواهر المتغيرة ؛ ويتلاقى عليها الأحياء والأموات على مدار الزمان متفاهمين متعارفين . . وهذه هي ظلال التعبير القرآني اللطيف العجيب . .

على أنه بالقياس إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وإخوانه من الرسل مع ربهم لا يبقى شيء بعيد وآخر قريب . فهناك دائماً تلك اللحظة اللدنية التي تزال فيها الحواجز وترتفع فيها السدود ، وتتجلى الحقيقة الكلية عارية من كل ستار . حقيقة النفس وحقيقة الوجود كله وأهل هذا الوجود . تتجلى وحدة متصلة ، وقد سقط عنها حاجز الزمان وحاجز المكان وحاجز الشكل والصورة . وهنا يسأل الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ويجاب ، بلا حاجز ولا حجاب . كما وقع في ليلة الإسراء والمعراج .

وإنه ليحسن في مثل هذه المواطن ألا نعتد كثيراً بالمألوف في حياتنا . فهذا المألوف ليس هو القانون الكلي . ونحن لا ندرك من هذا الوجود إلا بعض ظواهره وبعض آثاره ، حين نهتدي إلى طرف من قانونه . وهناك حجب من تكويننا ذاته ومن حواسنا وما نرتبه عليها من مألوفات . فأما اللحظة التي تتجرد فيها النفس من هذه العوائق والحجب فيكون لقاء الحقيقة المجردة للإنسان بالحقيقة المجردة لأي شيء آخر أمراً أيسر من لمس الأجسام للأجسام !

وفي سياق تسلية الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] عما يعترض به المعترضون من كبراء قومه على اختياره ؛ واعتزازهم بالقيم الباطلة لعرض هذه الحياة الدنيا . تجيء حلقة من قصة موسى - عليه السلام - مع فرعون وملئه ، يذكر فيها اعتزاز فرعون بمثل ما يعتز به من يقولون : ( لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) ! وتباهيه بما له من ملك ومن سلطان ، وتساؤله في فخر وخيلاء : ( أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي ? أفلا تبصرون ? ) . . وانتفاخه على موسى - عبدالله ورسوله - وهو مجرد من الجاه الأرضي والعرض الدنيوي : ( أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين ? ) . . واقتراحه الذي يشبه ما يقترحون : ( فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين ) . .

وكأنما هي نسخة تكرر ، أو اسطوانة تعاد !

ثم يبين كيف استجابت لفرعون الجماهير المستخفة المخدوعة ؛ على الرغم من الخوارق التي عرضها عليهم موسى - عليه السلام - وعلى الرغم مما أصابهم من ابتلاءات ، واستغاثتهم بموسى ليدعو ربه فيكشف عنهم البلاء .

ثم كيف كانت العاقبة بعدما ألزمهم الله الحجة بالتبليغ : ( فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين ، فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين ) . .

وها هم أولاء الآخرون لا يعتبرون ولا يتذكرون !

ومن خلال هذه الحلقة تتجلى وحدة الرسالة ، ووحدة المنهج ، ووحدة الطريق . كما تتبدى طبيعة الكبراء والطغاة في استقبال دعوة الحق ، واعتزازهم بالتافه الزهيد من عرض هذه الأرض ؛ وطبيعة الجماهير التي يستخفها الكبراء والطغاة على مدار القرون !