ثم بين - سبحانه - كفارة اليمين ، وأمر المؤمنين بحفظ إيمانهم فلا يكثروا منها ، فقال - تعالى - .
{ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو . . . }
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : لما نزلت { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ } في القوم الذين كانوا حرموا على أنفسهم النساء واللحم : قالوا يا رسول الله . كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها ؟ فأنزل الله - تعالى - قوله : { لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان } الآية واللغو من الكلام - كما يقول الراغب : ما لا يعتد به منه ، وهو الذي يورد لا عن روية وفكر فيجري مجرى اللغا وهو صوت العصافير ونحوها من الطيور . وقد يسمي كل قبيح لغو . قال - تعالى - { وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ } ولغو اليمين . أن يحلف الحالف على شيء يرى أنه صادق فيه ثم يتبين له خلاف ذلك .
ويرى بعضهم أن لغو اليمين هو الذي يجري على اللسان بدون قصد ، كقولك لا والله ويلي والله .
وقد رجح هذا القول ابن كثير فقال ما ملخصه . واللغو في اليمين هو قول الرجل في الكلام من غير قصد : لا والله وبلى والله وهو مذهب الشافعي . وقيل هو في الهزل . وقيل في المعصية : وقيل على غلبة الظن وهو قول أبي حنيفة وأحمد والصحيح أنه اليمين من غير قصد بدليل قوله : { ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان } .
وقولهك { عَقَّدتُّمُ } من العقد وهو الجميع بين أطراف الشيء لتوثيقه وهو نقيض الحل : وقرأ حمزة والكسائي { عَقَّدتُّمُ } بالتخفيف . وقرأ ابن عامر " عاقدتم " .
ولمراد بعقد الأيمان توكيدها وتوثيقها قصدا ونية .
والمعنى : لا يؤاخذكم الله - أيها المؤمنون - فضلا منه وكرما على اللغو في اليمين وهو ما يجري على ألسنتكم بدون قصد . ولكن يؤاخذكم بالعقوبة في الآخرة أو بوجوب الكفارة بتعيدكم الأيمان وتوثيقها بالقصد والنية ، إذا حنثتم فيها ، بأن تعمدتم الكذب في إيمانكم .
فالمراد بعدم المؤاخذة في قوله { لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ } : عدم المعاقبة في الدنيا بالكفارة ولا في الآخرة بالعقوبة .
والمراد بالمؤاخذة في قوله : { ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان } : العقوبة الأخروية عند جمهور الفقهاء ويرى الشافعي أن المراد بها الكفارة التي تجب على الحانث .
وقوله { في أَيْمَانِكُمْ } متعلق باللغو . وما في قوله { بِمَا عَقَّدتُّمُ } مصدرية أي : ولكن يؤاخذكم بتعقيدكم الأيمان وتوثيقها . ويحتمل أن تكون موصولة والعائد محذوف . أي ولكن يؤاخذكم بالذي عقدتم الأيمان عليه .
وقوله : { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } بيان لكيفية الكفارة والضمير في قوله : فكفارته يعود على الحنث الدال عليه سياق الكلام وإن لم يرج له ذكر .
أي : فكفارة الحنث . ولا مانع من عودته إلى الحالف إذا حنث في يمينه فيكون المعنى : فكفارة الحالف إذا حنث في يمينه إطعام عشرة مساكين لأن الشخص الحانث في يمينه هو الذي يجب عليه التكفير عن حنثه .
والكفارة من الكفر بمعنى الستر ، وهي اسم للفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة ، أي تسترها وتمحوها ، لأن الشيء الممحي يكون كالشيء المستور الذي لا يرى ولا يشاهد .
وكلمة { أَوْسَطِ } يرى بعضهم أنها بمعنى الأمثل والأحسن . لأن لفظ الأوسط كثيراً ما يستعمل بهذا المعنى ومنه قوله - تعالى { قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ } أي : قال أحسنهم عقلا وأمثلهم فكرا ونظراً .
ويرى آخرون أن الأوسط هنا بمعنى المتوسط لأن هذا هو الغالب في استعمال هذه الكلمة ، أي يطعمهم لا من أفخر أنواع الطعام ولا من اردئه ولكن من الطعام الذي يطعم منه أهله في الغالب .
والمعنى : لقد تفضل الله عليكم - أيها المؤمنون - بأن رفع عنكم العقوبة والكفارة في الأيمان اللغو ، ولكنه - سبحانه - يؤاخذكم بتعقيدكم الأيمان وتوثيقها إذا ما حنثتم فيها ومتى حنث أحدكم في يمينه ، فمن الواجب عليه لتكفير هذا اليمين ومحو إثمه أن يطعم عشرة مساكين طعاما يكون من متوسط ما يطعم منه أهله في الجودة والمقدار ، أو أن يكسو هؤلاء المساكين العشرة كساء مناسبا ساترا للبدن أو أن يحرر رقبة بأن يعتق عبدا من الرق فيجعله حراً .
قال الجمل ما ملخصه : وقوله : { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ } مبتدأ وخبر .
وقوله : إطعام مصدر مضاف لمفعوله ، وهو مقدر بحرف وفعل مبني للفاعل أي فكفارته أن يطعم الحانث عشرة ، وفاعل المصدر يحذف كثيراً .
وقوله : { مِنْ أَوْسَطِ } في محل نصب مفعول ثان لإطعام ؛ ومفعوله الأول عشرة أي : فكفارته أن تطعموا عشرة مساكين إطعاما من أوسط ما تطعمون أهليكم . . وقوله : { مَا تُطْعِمُونَ } مفعوله الأول : أهليكم ، ومفعوله الثاني : محذوف أي : " تطعمونه إهليكم " .
فأنت ترى أن الله - قد خبر الحانث في يمينه بين أمور ثلاثة يختار إحداها ، فإذا لم يستطع إحداها ، فقد بين سبحانه له حكما آخر فقال : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ } .
أي : فمن لم يجد ما يكفر حنثه في يمينه من إطعام أو كساء أو تحرير رقبة فعليه حينئذ أن يصوم ثلاثة أيام ، تطهيرا لنفسه ، وتكفيرا عن ذنبه ، وتقوية لإرادته وعزيمته .
واسم الإِشارة في قوله : { ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ } يعود إلى المذكور من الإِطعام والكساء وتحرير الرقبة والصوم .
أي : ذلك الذي شرعناه لكم كفارة لأيمانكم إذا حلفتم وحنثتم فيها ، وخالفتم طريق الحق الذي أمركم الله تعالى باتباعه .
وقوله : { واحفظوا أَيْمَانَكُمْ } أمر من الله تعالى لعباده بأن يصونوا أنفسهم عن الحنث في أيمانهم ، وعن الإِكثار منها لغير ضرورة ، فإن الإِكثار من الحلف بغير ضرورة يؤدي إلى قلة الحياء من الله تعالى . كما أن الحلف الكاذب يؤدي إلى سخطه سبحانه على الحالف وبغضه له .
وقوله : { كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } تذييل قصد به التذكير بنعم الله حتى يداوم الناس على شكرها وطاعة واهبها عز وجل .
أي : مثل هذا البيان البديع الجامع لوجوه والفلاح ، يبين الله لكم آياته المشتملة على الأحكام الميسرة ، والتشريعات الحكيمة ، والهدايات الجليلة لعلكم بذلك تستمرون على شكر الله وطاعته ، وتواظبون على خشيته ومراقبته فتنالون ما وعدكم من فلاح وسعادة .
هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتي :
1 - أن اليمين اللغو لا مؤاخذة فيها . أي : لا عقوبة عليها في الآخرة ولا كفارة لها في الدنيا لقوله تعالى : { لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ } .
ونعني بها - كما سبق أن أشرنا - أن يقول الرجل من غير قصد الحلف لا والله وبلى والله .
ومع هذا فمن الأفضل للمؤمن ألا يلجأ إلى الحلف إلا إذا كانت هناك ضرورة تدعو لذلك ؛ لأن الإِكثار من الحلف يسقط مهابة الإِنسان ، وقد يفضي به إلى الاستهانة بالآداب الحميدة التي شرعها الله .
قال تعالى : { وَلاَ تتخذوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ السواء بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ الله وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } 2 - أن اليمين التي يحلفها الحالف بالقصد والنية وهو كاذب فيها ، يستحق صاحبها العذاب الشديد من الله - تعالى - ، وهي التي يسميها الفقهاء باليمين الغموس ، أي التي تغمس صاحبها في النار - تعالى - { ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان } .
أيِ : بما صممتم عليه منها وقصدتموه وأنتم حانثون فيها .
قال القرطبي ما ملخصه : خرج البخاري عن عبد الله بن عمرو قال : " جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ما الكبائر ؟ قال : " الإِشراك بالله . قال : ثم ماذا ؟ قال : عقوق الوالدين . قال : ثم ماذا ؟ قال : اليمين الغموس " قلت : وما اليمين الغموس ؟ قال : التي يقتطع بها مال أمرئ مسلم وهو كاذب فيها " .
وخرج مسلم عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من اقطتع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة . فقال رجل : وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم : وإن كان قضيبا من أراك " .
وقد اختلف في اليمين الغموس فالذي عليه الجمهور أنها يمين مكر وخديعة وكذب فلا تنعقد ولا كفارة فيها . لأن هذا الحالف قد جمع بين الكذب ، واستحلال مال الغير ، والاستخفاف باليمين بالله . فأهان ما عظمه الله ، وعظم ما حقره الله ، ولهذا قيل : إنما سميت اليمين الغموس غموسا ، لأنها تغمس صاحبها في النار .
وقال الشافعي : " هي يمين منعقدة ، لأنها مكتسبة بالقلب ، معقودة بخبر ، مقرونة باسم الله - تعالى - ، وفيها الكفارة .
والصحيح الأول : وهو قول مالك بن أنس ومن تبعه من أهل المدينة ، وبه قال الأوزاعي والثوري وأهل العراق وأحمد وإسحاق وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي من أهل الكوفة .
3 - أن { أو } في قوله - تعالى : { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } للتخيير .
أي : أن الحالف إذا حنث في يمينه فهو مخير بين واحد من أمور ثلاثة ليكفر عن يمينه التي حنث فيها . وهذه الثلاثة هي الإِطعام أو الكسوة ، أو عتق الرقبة . فإّا لم يجد إحدى هذه الكفارات الثلاث انتقل إلى الصوم .
قال الفخر الرازي : وأعلم أن الآية دالة على أن الواجب في كفارة اليمين أحد الأمور الثلاثة على التخيير ، فإن عجز عنها جميعا فالوجب شيء آخر وهو الصوم .
ومعنى الواجب المخير أنه لا يجب عليه الإِتيان بكل واحد من هذه الثلاثة ولا يجوز له تركها جميعا . ومتى أتى بأي واحد شاء من هذه الثلاثة فإنه يخرج عن العهدة . فإذا اجتمعت هذه القيود الثلاثة فذاك هو الواجب المخير .
وللعلماء أقوال متعددة في الإِطعام المطلوب لكفارة اليمين .
قال القرطبي ما ملخصه : قوله - تعالى - : { إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } لابد عندنا - أي المالكية - وعند الشافعي من تمليك ما يخرج لهم ودفعه إليهم حتى يتملكوه ويتصرفوا فيه .
وقال أبو حنيفة : لو غداهم وعشاهم جاز . والأوسط هنا منزلة بين منزلتين ونصفا بين طرفين - أي يطعمهم من غالب الطعام الذي يطعم منه أهله لا من أدناه حتى لا يبخس المساكين حقهم ولا من أعلاه حتى لا يتكلف ما يشق عليه - .
والإِطعام عند مالك : مد لكل واحد من المساكين العشرة . وبه قال الشافعي . وقال أبو حنيفة : يخرج من البر نصف صاع ، ومن التمر والشعير صاعا . أي يخرج ما يجب في صدقه الفطر .
ولا يجوز عندنا دفع الكفارة إلى مسكين واحد وبه قال الشافعي ، لأن الله - تعالى - نص على العشرة فلا يجوز العدول عنهم ، وأيضاً فإن فيه إحياء جماعة من المسلمين وكفايتهم يوما واحدا ، فيتفرغون فيه لعبادة الله ولدعائه ، فغفر للمكفر بسبب ذلك .
وقال أبو حنيفة : يجزئه - أي : إذا أطعم واحد عشر مرات أغني عن إطعام العشرة - لأن المقصود من الآية التعريف بقدر ما يطعم ، فلو دفع ذلك القدر لواحد أجزأه ذلك .
قال الشافعي : لو دفع إلى كل واحد من العشرة ما يصدق عليه اسم الكسوة - من قميص أو سراويل - أجزأه ذلك .
وقال مالك وأحمد : لابد أن يدفع إلى كل واحد منهم من الكسوة ما يصح أن يصلي فيه ، إن كان رجلا أو امرأة كل بحسبه .
وقال أبو حنيفة : الكسوة في كفارة اليمين لكل مسكين ثوب وإزار .
ولا تجزئ القيمة عن الطعام والكسوة عند الشافعي .
وقال أبو حنيفة : تجزئ القيمة ، لأن الغرض سد حاجة المحتاج ، وقد تكون القيمة أنفع له .
والنوع الثالث الذي به تكون كافرة اليمين : تحرير رقبة أي : إعتاقها من الرق ، والمراد بالرقبة جملة الإِنسان .
قال الرازي : المراد بالرقبة : الجملة قيل : الأصل في هذا المجاز أن الأسير في العرب كانت تجمع يداه إلى رقبته بحبل . فإذا أطلق حل ذلك الحبل . فسمى الإِطلاق من الرقبة فك الرقبة . ثم جرى ذلك على العتق . وقد أخذ بإطلاقها أبو حنيفة فقال : تجزئ الكافرة كما تجزئ المؤمنة . وقال الشافعي وآخرون : لابد أن تكون مؤمنة .
فإن قيل : أي فائدة في تقديم الإِطعام على العتق مع أن العتق أفضل لا محالة ؟ قلنا له وجوه .
أحدها : أن المقصود منه التنبيه على أن هذه الكفارة وجبت على التخيير لا على الترتيب ، لأنها لو وجبت على الترتيب لوجبت البداءة بالأغلظ .
وثانيها : قدم الإِطعام لأنه أسهل ، لكون الطعام أعم وجودا ، والمقصود منه التنبيه على أنه - تعالى - يراعي التخفيف والتسهيل في التكاليف .
وثالثها : أن الإِطعام أفضل ، لأن الحر الفقير قد لا يجد الطعام ، ولا يكون هناك من يعطيه الطعام فيقع في الضر . أما العبد فإنه يجب على مولاه إطعامه وكسوته .
4 - يرى مالك والشافعي أن قوله : تعالى : { فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ } يصدق على الصيام المتتابع والمتفرق ، فلو صام الحالف ثلاثة أيام متفرقة أجزأه ذلك ، لأن التتابع صفة لا تجب إلا بنص أو قياس على منصوص وقد عدما .
ويرى أبو حنيفة وأحمد صوم الثلاثة أيام متتابعة ، فقد قرأ أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " وقراءتهما لا تختلف عن روايتهما .
وقال ابن كثير : واختلف العلماء هل يجب فيها التتابع أو يستحب ولا يجب ويجزئ التفريق ؟ قولان :
أحدهما : لا يجب وهذا منصوص الشافعي في كتاب الأيمان . وهو قول مالك ، لإِطلاق قوله : { فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ } وهو صادق على المجموعة والمفرقة كما في قضاء رمضان لقوله : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } ونص الشافعي في موضع آخر في الأم على وجوب التتابع كما هو مذهب الحنفية والحنابلة لأنه قد روى عن أبي بن كعب وغيره أنه كان يقرؤها " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " وحكاها مجاهد والشعبي وأبو إسحاق عن عبد الله بن مسعود . وهذه ، أيام لم يثبت كونها قرآنا متواترا فلا أقل من أن يكون خبر واحد أو تفسيرا من الصحابة وهو في حكم المرفوع .
وروى ابن مردويه عن ابن عباس قال : لما نزلت آية الكفارات قال حذيفة يا رسول الله نحن بالخيار ؟ قال : أنت بالخيار . إن شئت أعتقت . وإن شئت كسوت . وإن شئت أطعمت .
فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات .
ويبدو لنا أن الصيام المتتابع أفضل ، لأن قراءة أبي وحديث حذيفة يزكيانه ، ولأنه رأى عدد كبير من الصحابة منهم عبد الله بن مسعود .
5 - أخذ بعض العلماء من قوله - تعالى : { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } . . . إلخ . أن الكفارة لا تكون إلا بعد الحنث ؛ لأن السبب في الكفارة هو الحنث ، وم ادام لم يتحقق فإن لا كفارة .
وقال آخرون يجوز أن تتقدم الكفارة عند نية الحنث ، وتقوم النية مقام الحنث بالفعل .
وقد تكلم عن هذه المسألة الإِمام القرطبي فقال ما ملخصه : اختلف العلماء في تقديم الكفارة على الحنث أتجزئ أم لا على ثلاثة أقوال :
أحدها : يجزئ مطلقا وهو مذهب أربعة وعشرين من الصحابة ، وجمهور الفقهاء ، وهو مشهور مذهب مالك ، فقد قال أبو موسى الأشعري : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " وإني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يمين وأتيت الذي هو خير " رواه وأخرجه أبو داود .
ومن جهة المعنى أن اليمين سبب الكفارة ، لقوله - تعالى { ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ } فأضاف الكفارة إلى اليمين والمعاني تضاف إلى أسبابها . وأيضاً بدل عن البر فيجوز تقديمها قبل الحنث .
وثانيها : قال أبو حنيفة وأصحابه لا يجزئ بوجه لما رواه مسلم عن عدي بن حاتم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من حلف على يمين ثم رأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير - زاد النسائي - وليكفر عن يمينه "
ومن جهة المعنى أن الكفارة إنما هو لرفع الإِثم ، وما لم يحنث لم يكن هناك ما يرفع فلا معنى لفعلها . وأيضاً فإن كل عبادة فعلت قبل وجوبها لم تصح اعتباراً بالصلوات وسائر العبادات .
وثالثها : قال الشافعي : تجزئ بالإِطعام والعتق والكسوة ولا تجزئ بالصوم ؛ لأن عمل البدن لا يقدم قبل وقته . ويجزئ في غير ذلك تقديم الكفارة .
6 - أخذ العلماء من قوله - تعالى - { واحفظوا أَيْمَانَكُم } أن من الواجب على المؤمن أن يقلل من الأيمان فلا يلجأ إليها إلا عند الضرورة ، وأن يحرص على أن يكون صادقا فيها حتى لا يحتاج إلى التفكير عنها ؛ وأن يبادر إلى التفكير عنها إذا كانت المصلحة تستدعي الحنث فيها ، لما سبق أن ذكره القرطبي من حديث أبي موسى الأشعري وحديث عدي بن حاتم .
ولما رواه الشيخان عن عبد الرحمن بن سمرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم " يا عبد الرحمن بن سمرة ، لا تسأل الإِمارة فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها ، وأن أوتيتها عن غير مسألة أعنت عليها . وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير " .
هذا " وقد ساق صاحب المنار في نهاية تفسيره لهذه الآية بحوثا تتعلق بالأيمان فقال ما ملخصه :
( أ ) لا يجوز في الإِسلام الحلف بغير الله تعالى - وأسمائه وصفاته ، لما رواه الشيخان من حديث ابن عمر : " من كان حالفا لا يحلف إلا بالله " ورويا عنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يحلف بأبيه فقال : " إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت " .
روى أحمد والبخاري وأصحاب السنن عن ابن عمر أيضا قال : كان أكثر ما يحلف به النبي صلى الله عليه وسلم يحلف : " لا ومقلب القلوب " .
وهذه الأحاديث الصحيحة صريحة في حظر الحلف بغير الله ويدخل النبي صلى الله عليه وسلم في عموم غير الله وكذلك الكعبة وسائر ما هو معظم شرعا تعظيما يليق به .
( ب ) ثم قال ويجوز الحنث للمصلحة الراجحة فقد روى الشيخان وأحمد عن عبد الرحمن بن سمرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا حلفت على يمين ورأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك وفي رواية فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير " .
وينقسم الحلف باعتبار المحلوف عليه إلى أقسام :
1 - أن يحلف على فعل واجب وترك حرام ، فهذا تأكيد لما كلفه الله إياه فيحرم الحنث ويكون إثمه مضاعفا .
2 - إن يحلف على ترك واجب أو فعل محرم ، فهذا يجب عليه الحنث ، لأنه يمين معصية على ترك فريضة من الفرائض ، أو حق من الحقوق الواجبة عليه .
3 - أن يحلف على فعل مندوب أو ترك مكروه ، فهذا طاعة فيندب له الوفاء ويكره الحنث كذا قال بعضهم . والظاهر وجوب الوفاء كما قالوا في النذر .
4 - أن يحلف على ترك مندوب أو فعل مكروه ، فيستحب له الحنث ويكره التمادي كذا قالوا . وظاهر الحديث وجوب الكفارة والحنث مطلقا .
5 - أن يحلف على ترك مباح وقد اختلفوا فيه : فقال ابن الصباغ : إن ذلك يختلف باختلاف الأحوال .
أي أن الحالف يوازن بين مقدار الضرر الذي سيترتب على الاستمرار في الترك ، والخير الذي يجلبه الحنث ، فإن رجح أحدهما مضى فيه .
( ج ) - ثم قال : وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية : الأيمان - بحسب صيغتها وأحكامها ثلاثة أقسام :
أحدها : ما ليس من أيمان المسلمين وهو الحلف بالمخلوقات كالكعبة والملائكة والمشايخ والملوك والآباء ونحو ذلك ، فهذه يمين غير منعقدة ولا كفارة فيها باتفاق العلماء بلهي منهى عنها باتفاق أهل العلم والنهي نهي تحريم في أصح الأقوال . ففي الحديث : " إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ، ومن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت "
الثاني : اليمين بالله كقول القائل : والله لأفعلن كذا . فهذه يمين منعقدة فيها الكفارة إذا حنث فيها باتفاق المسلمين .
الثالث : أيمان المسلمين التي هي في معنى الحلف بالله ، ومقصود الحالف بها تعظيم الخالق لا الحلف بالمخلوقات كالحلف بالنذر والطلاق والعتاق كقوله إن فعلت كذا فعلى صيام شهر أو الحج إلى بيت الله .
فهذه الأيمان للعلماء فيها أقوال أظهرها أنه إذا حنث فيها لزمته كافارة يمين كما قال - تعالى - { ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ } وقال تعالى { قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } ( د ) ثم ختم صاحب المنار مباحثه بقوله : واليمين الغموس التي يهضم بها الحق أو يقصد بها الغش والخيانة ، لن يكفرها عتق ولا صدقة ولا صيام ، بل لابد من التوبة وأداء الحقوق والاستقامة . قال - تعالى - { وَلاَ تتخذوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ السواء بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ الله وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وبذلك نرى الآية الكريمة قد بينت للمؤمنين ما يجب عليهم إذا ما حنثوا في إيمانهم ، وحضتهم على حفظ أيمانهم ، لكي ينالوا من الله - تعالى - الرضا والفلاح .
فأما الآية الخاصة بالحلف والأيمان والتي جاءت تالية في السياق :
( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ، فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام . ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم . واحفظوا أيمانكم . كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون ) . .
فالظاهر أنها نزلت لمواجهة هذه الحالة - وأمثالها - من الحلف على الامتناع عن المباح الذي آلى أولئك النفر على أنفسهم أن يمتنعوا عنه ، فردهم رسول الله [ ص ] عن الامتناع عنه ، وردهم القرآن الكريم عن مزاولة التحريم والتحليل بأنفسهم ، فهذا ليس لهم إنما هو لله الذي آمنوا به . كما أنها تواجه كل حلف على الامتناع عن خير أو الإقدام على شر . فكل يمين يرى صاحبها أن هناك ما هو أبر ، فعليه أن يفعل ما هو أبر ، ويكفر عن يمينه بالكفارات المحددة في هذه الآية .
قال ابن عباس : سبب نزولها : القوم الذين حرموا طيبات المطاعم والملابس والمناكح على أنفسهم . حلفوا على ذلك . فلما نزلت ( لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) قالوا : كيف نصنع بأيماننا ( فنزلت هذه الآية ) .
وقد تضمن الحكم أن الله - سبحانه - لا يؤاخذ المسلمين بأيمان اللغو ، التي ينطق بها اللسان دون أن يعقد لها القلب بالنية والقصد مع الحض على عدم ابتذال الأيمان بالإكثار من اللغو بها إذ أنه ينبغي أن تكون لليمين بالله حرمتها ووقارها ، فلا تنطق هكذا لغوا . .
فأما اليمين المعقودة ، التي وراءها قصد ونية ، فإن الحنث بها يقتضي كفارة تبينها هذه الآية :
( فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم ، أو تحرير رقبة ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام . ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم ) .
وطعام المساكين العشرة من( أوسط )الطعام الذي يقوم به الحالف لأهله . . و( أوسط )تحتمل أن تكون من " أحسن " أو من " متوسط " فكلاهما من معاني اللفظ . وإن كان الجمع بينهما لا يخرج عن القصد لأن " المتوسط " هو " الأحسن " فالوسط هو الأحسن في ميزان الإسلام . . أو( كسوتهم )الأقرب أن تكون كذلك من ( أوسط ) الكسوة . . أو ( تحرير رقبة ) لا ينص هنا على أنها مؤمنة . . ومن ثم يرد بشأنها خلاف فقهي ليس هذا مكانه . . ( فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ) . . وهي الكفارة التي يعاد إليها في اليمين المعقودة عند عدم استطاعة الكفارات الأخرى . . وكون هذه الأيام الثلاثة متتابعة أو غير متتابعة فيه كذلك خلاف فقهي بسبب عدم النص هنا على تتابعها . والخلافات الفقهية في هذه الفرعيات ليست من منهجنا في هذه الظلال . فمن أرادها فليطلبها في مواضعها في كتب الفقه . إذ أنها كلها تتفق على الأصل الذي يعنينا وهو أن الكفارة رد لاعتبار العقد المنقوض ، وحفظ للإيمان من الإستهانة بها ؛ وهي " عقود " وقد أمر الله - سبحانه - بالوفاء بالعقود . فإذا عقد الإنسان يمينه وكان هناك ما هو أبر فعل الأبر وكفر عن اليمين . وإذا عقدها على غير ما هومن حقه كالتحريم والتحليل ، نقضها وعليه التكفير .
ونعود بعد ذلك إلى الموضوع الأصيل الذي نزلت الآيات بسببه . . فأما من ناحية " خصوص السبب " فإن الله يبين أن ما أحله الله فهو الطيب ، وما حرمه فهو الخبيث . وأن ليس للإنسان أن يختار لنفسه غير ما اختاره الله له . من وجهين : الوجه الأول أن التحريم والتحليل من خصائص الله الرازق بما يجري فيه التحليل والتحريم من الرزق ، وإلا فهو الاعتداء الذي لا يحبه الله ، ولايستقيم معه إيمان . . والوجه الثاني أن الله يحل الطيبات ، فلا يحرم أحد على نفسه تلك الطيبات ، التي بها صلاحه وصلاح الحياة ؛ فإن بصره بنفسه وبالحياة لن يبلغ بصر الحكيم الخبير الذي أحل هذه الطيبات . ولو كان الله يعلم فيها شرا أو أذى لوقاه عباده . ولو كان يعلم في الحرمان منها خيرا ما جعلها حلالا . . ولقد جاء هذا الدين ليحقق الخير والصلاح ، والتوازن المطلق ، والتناسق الكامل ، بين طاقات الحياة البشرية جميعا ، فهو لا يغفل حاجة من حاجات الفطرة البشرية ؛ ولا يكبت كذلك طاقة بناءة من طاقات الإنسان ، تعمل عملا سويا ، ولا تخرج عن الجادة . ومن ثم حارب الرهبانية ، لأنها كبت للفطرة ، وتعطيل للطاقة وتعويق عن إنماء الحياة التي أراد الله لها النماء ، كما نهى عن تحريم الطيبات كلها لأنها من عوامل بناء الحياة ونموها وتجددها . . لقد خلق الله هذه الحياة لتنمو وتتجدد ، وترتقي عن طريق النمو والتجدد المحكومين بمنهج الله . والرهبانية وتحريم الطيبات الأخرى تصطدم مع منهج الله للحياة . لأنها تقف بها عند نقطة معينة بحجة التسامي والارتفاع . والتسامي والارتفاع داخلان في منهج الله للحياة ، وفق المنهج الميسر المطابق للفطرة كما يعلمها الله .
وخصوص السبب - بعد هذا - لا يقيد عموم النص . وهذا العموم يتعلق بقضية الألوهية والتشريع - كما أسلفنا - وهي قضية لا تقتصر على الحلال والحرام في المآكل والمشارب والمناكح . إنما هو أمر حق التشريع لأي شأن من شئون الحياة . .
ونحن نكرر هذا المعنى ونؤكده ؛ لأن طول عزلة الإسلام عن أن يحكم الحياة - كما هو شأنه وحقيقته - قد جعل معاني العبارة تتقلص ظلالها عن مدى الحقيقة التي تعنيها في القرآن الكريم وفي هذا الدين . ولقد جعلت كلمة " الحلال " وكلمة " الحرام " يتقلص ظلهما في حس الناس ، حتى عاد لا يتجاوز ذبيحة تذبح ، أو طعاما يؤكل ، أو شرابا يشرب ، أو لباسا يلبس ، أو نكاحا يعقد . . فهذه هي الشئون التي عاد الناس يستفتون فيها الإسلام ليروا : حلال هي أم حرام ! فأما الأمور العامة والشئون الكبيرة فهم يستفتون في شأنها النظريات
والدساتير والقوانين التي استبدلت بشريعة الله ! فالنظام الاجتماعي بجملته ، والنظام السياسي بجملته ، والنظام الدولي بجملته ؛ وكافة اختصاصات الله في الأرض وفي حياة الناس ، لم تعد مما يستفتى فيه الإسلام !
والإسلام منهج للحياة كلها . من اتبعه كله فهو مؤمن وفي دين الله . ومن اتبع غيره ولو في حكم واحد فقد رفض الإيمان واعتدى على ألوهية الله ، وخرج من دين الله . مهما أعلن أنه يحترم العقيدة وأنه مسلم . فاتباعه شريعة غير شريعة الله ، يكذب زعمه ويدمغه بالخروج من دين الله .
وهذه هي القضية الكلية التي تعنيها هذه النصوص القرآنية ، وتجعلها قضية الإيمان بالله ، أو الاعتداء على الله . . وهذا هو مدى النصوص القرآنية . وهو المدى اللائق بجدية هذا الدين وجدية هذا القرآن ، وجدية معنى الألوهية ومعنى الإيمان