التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{كَيۡفَ يَكُونُ لِلۡمُشۡرِكِينَ عَهۡدٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِۦٓ إِلَّا ٱلَّذِينَ عَٰهَدتُّمۡ عِندَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۖ فَمَا ٱسۡتَقَٰمُواْ لَكُمۡ فَٱسۡتَقِيمُواْ لَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَّقِينَ} (7)

بعد كل ذلك أخذت السورة الكريمة في بيان الاسباب التي أوجبت البراءة من عهود المشركين ، والحِكَم التي من أجلها أمر الله بقتالهم والتضييق عليهم فقال - تعالى - : { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ . . . لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } .

وقوله - سبحانه - : { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله وَعِندَ رَسُولِهِ } الاستفهام فيه للانكار والاستبعاد لأن يكون للمشركين عهد . وهو إنكار للوقوع لا للواقع . أى ؛ تحذير للمؤمنين من أن يقع منهم ذلك في المستقبل .

والمراد بالمشركين أولئك الذين نقضوا عهودهم ، لأن البراءة إنما هي في شأنهم والعهد : ما يتفق شخصان او طائفتان من الناس على التزامه بينهما ، فإن أكداه ووثقاه بما يقتضى زيادة العناية بالوفاء به سمى ميثاقا ، لاشتقاقه من الوثاق - بفتح الواو - وهو الحبل أو القيد . وإن أكداه بالميمين خاصة سمى يمينا .

ومسى بذلك لوضع كل من المتعاقدين يمينه في يمين الآخر عند عقده .

والمعنى : لا ينبغى ولا يجوز أن يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله لأن هؤلاء المشركين لا يدينون لله بالعبودية ، ولا لرسوله بالطاعة ، ولأنهم قوم دأبهم الخيانة . وعادتهم الغدر ، ومن كان كذلك لا يكون له عهد عند الله ولا عند رسوله .

قالوا : وفى توجيه الإِنكار إلى كيفية ثبوت العهد من المبالغة ما ليس في توجيهه إلى ثبوته ، لأن كل موجود يجب أن يكون وجوده على حال من الأحوال ، فإذا انتفت جميع أحوال وجوده ، فقد انتفى وجوده بالطريق البرهانى . وتكرير كلمة { عِندَ } للايذان بعدم الاعتداء بعهودهم عند كل من الله - تعالى - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - على حدة .

و { يَكُونُ } من الكون التام و { كَيْفَ } محلها النصب على التشبيه بالحال أو الظرف . أو من الكون الناقص فيكون قوله { عَهْدٌ } اسمها ، وقوله { كَيْفَ } خبرها وهو واجب التقديم ، لأن الاستفهام له صدر الكلام .

وقوله : { إِلاَّ الذين عَاهَدْتُمْ عِندَ المسجد الحرام فَمَا استقاموا لَكُمْ فاستقيموا لَهُمْ . . } استثناء من المشركين الذين استنكرت الآية أن تكون لهم عهود عند الله وعند رسوله .

والمراد بالمشركين الذين استثنوا هنا : أولئك الذين سبق الحديث عنهم في قوله - تعالى - قبل ذلك { إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ } وهم - كما رجحه ابن جرير والخازن - بنو خزيمه وبنو مدلج وبنو مضرة من قبائل بنى بكر ، وكانوا قد وفوا بعهودهم مع المسلمين .

وأيد ذكر استثنائهم هنا ، لتأكيد هذا الحكم وتقريره .

والمراد بالمسجد الحرام : جميع الحرم ، فيكون الكلام على حذف مضاف .

أى : عند قرب المسجد الحرام .

والتعرض لكون المعاهدة عند المسجد الحرام ، لزيادة بيان اصحابها ، وللإِشعار بسبب وجوب الوفاء بها .

والمعنى : لا ينبغى ولا يصح أن يكون للشمركين عهد عند الله وعند رسوله ، لكن الذين عاهدتموهم - أيها المؤمنون - عند المسجد الحرام من المشركين ولم ينقضوا عهودهم { فَمَا استقاموا لَكُمْ فاستقيموا لَهُمْ } .

أى : فاستقيموا لهم مدة استقامتهم لكم ، فتكون { مَا } مصدرية منصوبة المحل على الظرفية .

ويصح أن تكون شرطية وعائدة محذوف فيكون المعنى : فأى زمان استقاموا لكم فيه فاستقيموا لهم ، إذ لا يجوز أن يكون نقض العهد من جهتكم .

وقوله : { إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين } تذييل قصد به التعليل لوجوب الامتثال ، وتبيين أن الوفاء بالعهد إلى مدته مع الموفين بعهدهم من تقوى الله التي يحبها لعباده ، ويحبهم بسبب تمسكهم بها .

هذا ، وقد أخذ العلماء من هذه الآية : ان العهد المعتد به في شريعة الإِسلام ، هو عهد الأوفياء غير الناكثين ، وأن من استقام على عهده عاملناه بمقتضى استقامته ، وأن الالتزام بالعهود من تقوى الله التي يحبها لعباده .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{كَيۡفَ يَكُونُ لِلۡمُشۡرِكِينَ عَهۡدٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِۦٓ إِلَّا ٱلَّذِينَ عَٰهَدتُّمۡ عِندَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۖ فَمَا ٱسۡتَقَٰمُواْ لَكُمۡ فَٱسۡتَقِيمُواْ لَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَّقِينَ} (7)

( كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ، إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ? فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ، إن الله يحب المتقين . كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ، يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم ، وأكثرهم فاسقون . اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله ، إنهم ساء ما كانوا يعملون . لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ، وأولئك هم المعتدون . فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ، ونفصل الآيات لقوم يعلمون . وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم ، وطعنوا في دينكم ، فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ) .

لما انتهى في مجموعة الآيات السابقة إلى تقرير الأحكام النهائية الأخيرة بين المجتمع المسلم والباقين من المشركين في الجزيرة ، وهي تعني إنهاء حالة التعاهد والمهادنة معهم جميعا . . بعضهم بعد مهلة أربعة أشهر ، وبعضهم بعد انتهاء مدتهم . . حيث يؤول الأمر بعد هذه الأحكام إلى حالتين اثنتين : توبة وإقامة للصلاة وإيتاء للزكاة - أي دخول في الإسلام وأداء لفرائضه - أو قتال وحصار وأسر وإرصاد . .

لما انتهى إلى الأمر بإنهاء حالة التعاقد على ذلك الوجه أخذ في هذه المجموعة الجديدة من الآيات يقرر - عن طريق الاستفهام الاستنكاري - أنه لا ينبغي ولا يجوز وليس من المستساغ أن يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله . وهو استنكار للمبدأ في ذاته ؛ واستبعاد له من أساسه ! بقوله تعالى : ( كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ) .

ولما كان هذا الاستنكار في هذه المجموعة التالية في السياق للمجموعة الأولى ، قد يفهم منه نسخ ما كان قد تقرر في المجموعة الأولى من إمهال ذوي العهود الموفين بعهودهم الذين لم ينقصوا المسلمين شيئا ولم يظاهروا عليهم أحدا إلى مدتهم . . فقد عاد يقرر هذا الحكم مرة أخرى بقوله : ( إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ، إن الله يحب المتقين ) وجاءت في هذا التوكيد الجديد زيادة بيان . . إذ كان الأمر الأول مطلقا بالوفاء بعهود من استقاموا على عهودهم إلى مدتهم . . فجاء هذا التوكيد يقيد هذا الإطلاق بأن هذا الوفاء مرهون باستقامتهم في المستقبل إلى نهاية المدة كذلك كما استقاموا في الماضي . وهي دقة بالغة في صياغة النصوص في هذه العلاقات والمعاملات ، وعدم الاكتفاء بالمفهومات الضمنية ، وإتباعها بالمنطوقات القطعية .

ونظرا لما أسلفنا بيانه في مقدمات السورة ومقدمات هذا المقطع منها ، من الظواهر والأعراض والاعتبارات التي كانت قائمة في المجتمع المسلم يومئذ تجاه هذه الخطوة الحاسمة الخطيرة ، فقد أخذ السياق يثير في نفوس المسلمين ما يدفع عنهم التردد والتحرج والتهيب ، بإطلاعهم على حقيقة حال المشركين ومشاعرهم ونواياهم تجاه المسلين ، وأنهم لا يرعون فيهم عهدا ، ولا يتحرجون فيهم من شيء ولا يتذممون ، وأنهم لا يفون بعهد ، ولا يرتبطون بوعد ؛ وأنهم لا يكفون عن الاعتداء متى قدروا عليه . وأن لا سبيل لمهادنتهم أو ائتمانهم ما لم يدخلوا فيما دخل فيه المسلمون .

( كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ? ) . .

إن المشركين لا يدينون لله بالعبودية خالصة ، وهم كذلك لا يعترفون برسالة رسوله . فكيف يجوز أن يكون لهؤلاء عهد عند الله وعند رسوله ? إنهم لا يواجهون بالإنكار والجحود عبدا مثلهم ، ولا منهجا من مناهج العبيد من أمثالهم . إنما هم يواجهون بالجحود خالقهم ورازقهم ؛ وهم يحادون الله ورسوله بهذا الجحود ابتداء . . فكيف يجوز أن يكون لهم عهد عند الله وعند رسوله ?

هذه هي القضية التي يثيرها هذا السؤال الاستنكارى . . وهي قضية تنصب على مبدأ التعاهد ذاته ؛ لا على حالة معينة من حالاته . .

وقد يستشكل على هذا بأنه كانت للمشركين عهود فعلا ؛ وبعض هذه العهود أمر الله بالوفاء بها . وأنه قد وقعت عهود سابقة منذ قيام الدولة المسلمة في المدينة . عهود مع اليهود وعهود مع المشركين . وأنه وقع عهد الحديبية في السنة السادسة للهجرة . وأن النصوص القرآنية في سور سابقة كانت تجيز هذه العهود ؛ وإن كانت تجيز نبذها عند خوف الخيانة . . فإذا كان مبدأ التعاهد مع المشركين هو الذي يرد عليه الإنكار هنا ، فكيف إذن أبيحت تلك العهود وقامت حتى نزل هذا الاستنكار الأخير لمبدأ التعاهد ? !

وهذا الاستشكال لا معنى له في ظل الفهم الصحيح لطبيعة المنهج الحركي الإسلامي الذي أسلفنا الحديث عنه في مطالع هذه السورة وفي مطالع سورة الأنفال قبلها . . لقد كانت تلك المعاهدات مواجهة للواقع في حينه بوسائل مكافئة له ؛ أما الحكم النهائي فهو أنه لا ينبغي أن يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله . . كانت أحكاما مرحلية في طريق الحركة الإسلامية التي تستهدف ابتداء ألا يكون في الأرض شرك بالله ؛ وأن تكون الدينونة لله وحده . . ولقد أعلن الإسلام هدفه هذا منذ أول يوم ولم يخدع عنه أحدا . فإذا كانت الظروف الواقعية تقضي بأن يدع من يسالمونه ابتداء من المشركين ليتفرغ لمن يهاجمونه ؛ وأن يوادع من يريدون موادعته في فترة من الفترات . وأن يعاهد من يريدون معاهدته في مرحلة من المراحل . فإنه لا يغفل لحظة عن هدفهالنهائي الأخير ؛ كما أنه لا يغفل عن أن هذه الموادعات والمعاهدات من جانب بعض المشركين موقوتة من جانبهم هم أنفسهم . وأنهم لابد مهاجموه ومحاربوه ذات يوم ؛ وأنهم لن يتركوه وهم يستيقنون من هدفه ؛ ولن يأمنوه على أنفسهم إلا ريثما يستعدون له ويستديرون لمواجهته . . ولقد قال الله للمسلمين منذ أول الأمر :

( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ) . . وهي قولة الأبد التي لا تتخصص بزمن ولا بيئة ! وقولة الحق التي لا تتعلق بظرف ولا حالة !

ومع استنكار الأصل ، فقد أذن الله - سبحانه - بإتمام عهود ذوي العهود . الذين لم ينقصوا المسلمين شيئا ولم يظاهروا عليهم أحدا إلى مدتها ، مع اشتراط أن تكون الاستقامة على العهد - في هذه المدة - من المسلمين مقيدة باستقامة ذوي العهود عليها :

( إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ، فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ، إن الله يحب المتقين ) . .

وهؤلاء الذين تشير الآية إلى معاهدتهم عند المسجد الحرام ليسوا طائفة أخرى غير التي ورد ذكرها من قبل في قوله تعالى : ( إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ، إن الله يحب المتقين ) . . كما فهم بعض المفسرين المحدثين . . فهي طائفة واحدة ذكرت أول مرة بمناسبة عموم البراءة وإطلاقها ، لاستثنائها من هذا العموم . وذكرت مرة ثانية بمناسبة استنكار مبدأ التعاهد ذاته مع المشركين مخافة أن يظن أن هذا الحكم المطلق فيه نسخ للحكم الأول . . وذكرت التقوى وحب الله للمتقين هنا وهناك بنصها للدلالة على أن الموضوع واحد . كما أن النص الثاني مكمل للشروط المذكورة في النص الأول . ففي الأول اشتراط استقامتهم في الماضي ، وفي الثاني اشتراط استقامتهم في المستقبل . وهي دقة بالغة في صياغة النصوص - كما أسلفنا - لا تلحظ إلا بضم النصين الواردين في الموضوع الواحد ، كما هو ظاهر ومتعين .