وقوله - تعالى - : { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجيل بِمَآ أَنزَلَ الله فِيهِ } أمر من الله - تعالى - لأتباع سيدنا عيسى - عليه السلام - الذين وجدوا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بأن يحكموا فيام بينهم بمقتضى أحكام الإِنجيل بدون تحريف أو تبديل . أما الذين وجدوا بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فمن الواجب عليهم أن يصدقوه ويتبعوا شريعته ، لأن الشريعة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم نسخت ما قبلها من شرائع .
قال الآلوسي ما ملخصه ، قوله : { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجيل بِمَآ أَنزَلَ الله فِيهِ } أمر مبتدأ لهم بأن يحكموا ويعملوا بما فيه من الأمور التي من جملتها دلائل رسالته صلى الله عليه وسلم وما قررته شريعته الشريفة من أحكام ، وأما الأحكام المنسوخة فليس الحكم بها حكما بما أنزل الله ، بل هو إبطال وتعطيل له إذا هو شاهد بنسخها وانتهاء وقت العمل بها ، لأن شهادته بصحة ما ينسخها من الشريعة الأحمدية شاهدة بنسخها ، واختار كونه أمراً مبتدأ الجبائي .
وقيل هو حكاية للأمر الوارد عليهم بتقدير فعل معطوف على قوله ( وآتيناه ) .
أي : - وآتينا عيسى ابن مريم الإِنجيل فيه هدى ونور - وقلنا ليحكم أهل الإِنجيل بما أنزل الله فيه . وحذف القول - لدلالة ما قبله عليه - كثير في الكلام . ومنه قوله - تعالى - : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ . سَلاَمٌ عَلَيْكُم } واختار ذلك على بن عيسى .
وقرأ حمزة { وَلْيَحْكُمْ } - بكسر اللام وفتح الميم - بأن مضمرة - بعد لام كي - والمصدر معطوف على { وَهُدًى وَمَوْعِظَةً } على تقدير كونهما معللين . أي : وآتيناه ليحكم .
وقوله : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الفاسقون } تذييل مقرر ومؤكد لوجوب الامتثال لأحكام الله - تعالى - . أي : ومن لم يحكم بما أنزل الله ، فأولئك هم المتمردون الخارجون عن جادة الحق . وعن السنن القويم ، والصراط المستقيم .
قال أبو حيان : قوله { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الفاسقون } ناسب هنا ذكرالفسق .
لأنه خرج عن أمر الله - تعالى - إذ تقدم قوله : ( وليحكم ) وهو أمر كما قال - تعالى - للملائكة { اسجدوا لأَدَمََ فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } أي : خرج عن طاعته .
وقال صاحب المنار ما ملخصه : وأنت إذا تأملت الآيات السابقة ظهر لك نكتة التعبير بالكفر في الأولى وبوصف الظلم في الثانية ، وبوصف الفسق في الثالثة .
ففي الآية الأولى كان الكلام في التشريع ، وإنزال الكتاب مشتملا على الهدى والنور ، والتزام الأنبياء وحكماء العلماء بالعمل والحكم به . فكان من المناسب أن يختم الكلام ببيان أن كل معرض عن الحكم به لعدم الإذعان له ، مؤثرا لغيره عليه . يكون كافرا به .
وأما الآية الثانية فلم يكن الكلام فيها في أصل الكتاب الذي هو ركن الإِيمان ، بل في عقاب المعتدين على الأنفس أو الأعضاء . فمن لم يحكم بحكم الله في ذلك يكون ظالما في حكمه .
وأما الآية الثالثة فهي في بيان هداية الإِنجيل وأكثرها مواعظ وآداب وترغيب في إقامة الشريعة على الوجه الذي يطابق مراد الشارع وحكمته . فمن لم يحكم بهذه الهداية ممن خوطبوا فهم الفاسقون بالمعصية ، والخروج عن محيط تأديب الشريعة .
{ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } . .
اختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَلْيَحْكُمْ أهْلُ الإنْجِيلِ فقرأ قرّاء الحجاز والبصرة وبعض الكوفيين : ولْيَحْكُمْ بتسكين اللام على وجه الأمر من الله لأهل الإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيه من أحكامه . وكأنّ من قرأ ذلك كذلك أراد : وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ، ومصدّقا لما بين يديه من التوراة ، وأمرنا أهله أن يحكموا بما أنزل الله فيه . فيكون في الكلام محذوف ترك استغناء بما ذكر عما حذف .
وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة : «وَلِيَحْكُمَ أهْلُ الإنْجيلِ » بكسر اللام من «ليحكم » ، بمعنى : كي يحكم أهل الإنجيل . وكأن معنى من قرأ ذلك كذلك : وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ، ومصدّقا لما بين يديه من التوراة ، وكي يحكم أهله بما فيه من حكم الله . والذي يتراءى في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى ، فبأيّ ذلك قرأ قارىء فمصيب فيه الصواب وذلك أن الله تعالى لم ينزل كتابا على نبيّ من أنبيائه إلا ليعمل بما فيه أهله الذين أمروا بالعمل بما فيه ، ولم ينزله عليهم إلا وقد أمرهم بالعمل بما فيه ، فللعمل بما فيه أنزله ، وأمر بالعمل بما فيه أهله . فكذلك الإنجيل ، إذ كان من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه ، فللعمل بما فيه أنزله على عيسى ، وأمر بالعمل به أهله . فسواء قرىء على وجه الأمر بتسكين اللام أو قرىء على وجه الخبر بكسرها لاتفاق معنييهما . وأما ما ذكر عن أبيّ بن كعب من قراءته ذلك : «وإنِ أحْكُمْ » على وجه الأمر ، فذلك مما لم يصحّ به النقل عنه ، ولو صحّ أيضا لم يكن في ذلك ما يوجب أن تكون القراءة بخلافه محظورة ، إذ كان معناها صحيحا ، وكان المتقدمون من أئمة القرّاء قد قراءوا بها . وإذا كان الأمر في ذلك ما بينا ، فتأويل الكلام إذا قرىء بكسر اللام من «لِيحكم » : وآتينا عيسى ابن مريم الإنجيل ، فيه هدى ونور ، ومصدّقا لما بين يديه من التوراة ، وأمرنا أهله أن يحكموا بما أنزلنا فيه ، فلم يطيعونا في أمرنا إياهم بما أمرناهم به فيه ، ولكنهم خالفوا أمرنا الذي أمرناهم به فيه هم الفاسقون . وكان ابن زيد يقول : الفاسقون في هذا الموضع وفي غيره : هم الكاذبون .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَليَحْكُمْ أهْلُ الإنْجِيلِ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُون قال : ومن لم يحكم من أهل الإنجيل أيضا بذلك ، فأولئك هم الفاسقون قال : الكاذبون بهذا . قال : وقال ابن زيد : كلّ شيء في القرآن إلا قليلاً «فاسق » فهو كاذب وقرأ قول الله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَأٍ قال : الفاسق ههنا : كاذب .
وقد بينا معنى الفسق بشواهده فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
جملة { وليحكم } معطوفة على { آتيناه } . وقرأ الجمهور { ولْيحكم } بسكون اللاّم وبجزم الفعل على أنّ اللام لام الأمر . ولا شكّ أنّ هذا الأمر سابق على مجيء الإسلام ، فهو ممّا أمر الله به الّذين أرسل إليهم عيسى من اليهود والنّصارى ، فعلم أنّ في الجملة قولاً مقدّراً هو المعطوف على جملة { وآتيناه الإنجيل } ، أي وآتيناه الإنجيل الموصوف بتلك الصّفات العظيمة ، وقلنا : ليحكم أهل الإنجيل ، فيتمّ التّمهيد لقوله بعده { ومن لم يحكم بما أنزل الله } ، فقرائن تقدير القول مُتظافِرة من أمور عدّة .
وقرأ حمزة بكسر لام { ليحكم } ونصب الميم على أنّ اللام لام كي للتّعليل ، فجملة { ليحكم } على هذه القراءة معطوفة على قوله { فيه هدى } الخ ، الّذي هو حال ، عُطفتتِ العلّة على الحال عطفاً ذِكرياً لا يشرِّك في الحكم لأنّ التّصريح بلام التّعليل قرينة على عدم استقامة تشريك الحكم بالعطف فيكون عطفه كعطف الجمل المختلفة المعنى . وصاحب « الكشاف » قدّر في هذه القراءة فعلاً مَحذوفاً بعد الواو ، أي وآتيناه الإنجيل ، دلّ عليه قوله قبله { وآتيناه الإنجيل } ، وهو تقدير معنى وليس تقدير نظم الكلام .
والمراد بالفاسقين الكافرون ، إذ الفسق يطلق على الكفر ، فتكون على نحو ما في الآية الأولى . ويحتمل أنّ المراد به الخروج عن أحكام شرعهم سواء كانوا كافرين به أم كانوا معتقدين ولكنّهم يخالفونه فيكون ذمّاً للنصارى في التّهاون بأحكام كتابهم أضعفَ من ذمّ اليهود .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.