ثم ساقت السورة الكريمة - لهؤلاء المنافقين - نماذج لمن حبطت أعمالهم بسبب غرورهم ، وضربت لهم الأمثال بمن هلك من الطغاة السابقين بسبب تكذيبهم لأنبيائهم ، فقال - تعالى - : { كالذين مِن قَبْلِكُمْ . . . . أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } .
قوله - تعالى - { كالذين مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً . . . } جاء على أسلوب الالفتات من الغيبة إلى الخطاب لزجر المنافقين ، وتحريك نفوسهم إلا الاعتبار والاتعاظ .
والكاف في قوله : { كالذين } للتشبيه ، وهى في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف .
والتقدير : أنتم - أيها المنافقون - حالكم كحال الذين خلوا من قبلكم من الطغاة في الانحراف عن الحق ، والاغترار بشهوات الدنيا وزينتها ، ولكن هؤلاء الطغاة المهلكين ، يمتازون عنكم بأنهم { كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً } في أبدانهم ، وكانوا " أكثر " منكم { أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً } .
وقوله : { فاستمتعوا بِخَلاقِهِمْ } بيان لموقف هؤلاء المهلكين من نعم الله - تعالى - والخلاق : مشق من الخلق بمعنى التقدير . وأطلق على الحظ والنصيب لأنه مقدر لصاحبه .
أى : كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالاً وأولاداً ، ولكنهم لم يشكروا الله على إحسانه ، بل فتنوا بما بين أيديهم من نعم ، واستمتعوا بنصيبهم المقدر لهم في هذه الحياة الدنيا ، استمتاع الجاحدين الفاسقين .
والتعبير بالفاء المفيدة للتعقيب في قوله : { فاستمتعوا } ؛ للإِشعار بأن هؤلاء المهلكين بمجرد أن امتلأت أيديهم بالنعم ، قد استعملوها في غير ما خلقت له ، وسخروها لإِرضاء شهواتهم الخسيسة ، وملذاتهم الدنيئة .
وقوله : { فاستمتعوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ } ذم للمخاطبين وللذين سبقوهم ؛ لانتهاجهم جميعاً طريق الشر والبطر .
أى : فأنتم - أيها المنافقون - قد استمعتم بنصيبكم المقدر لكم من ملاذ الدنيا ، وشهواتها الباطلة ، كما استمتع الذين من قبلكم بنصيبكم في ذلك .
وقوله : { وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا } معطوف على ما قبله .
أى : وخضتم - أيها المنافقون - في حمأة الباطل وفى طريق الغرور والهوى ، كالخوض الذي خاضه السابقون من الأمم المهلكة .
قال الآلوسى قوله : " وخضتم " أى : دخلتم في الباطل { كالذي خاضوا } .
أى : كالذين فحذفت نونه تخفيفاً ، كما في قول الشاعر :
إن الذي حانت بفلج دماؤهم . . . هم القو كل القوم يا أم خالد
ويجوز أن يكون " الذي " صفة لمفرد اللفظ ، مجموع المعنى ، كالفوج والفريق ، فلوحظ في الصفة اللفظ . وفى الضمير المعنى ، و هو صفة لمصدر محذوف ، أى : كالخوض الذي خاضوه ، ورجح بعدم التكلف فيه .
وقال صاحب الكشاف : فإن قلت : أى فائدة في قوله : { فاستمتعوا بِخَلاقِهِمْ } وقوله : { كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ } مغن عنه كما أغنى قوله : { كالذي خاضوا } عن أن يقال : وخاضوا فخضتم كالذى خاضوا ؟
قلت : فائدته أن يذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا ورضاهم بها ، والتهائم بشهواتهم الفانية عن النظر في العاقبة ، وطلب الفلاح في الآخرة ، وأن يخسس أمر الاستمتاع ، ويهجن أمر الرضا به ، ثم يشبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم ، كما تريد أن تنبيه بعض الظلمة على سماجة فعله فنقول : أنت مثل فرعون : كان يقتل بغير جرم ، ويعذب ويعسف وأنت تفعل مثل ما فعله .
وأما { وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا } فمعطوف على ما قبله مستند إليه ، مستغن باسناده إليه عن تلك التقدمة .
وقوله : { أولئك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة وَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون } بيان لسوء مصيرهم في الدارين .
واسما الإِشارة يودان على المتصفين بتلك الصفات القحبية من السابقين واللاحقين .
أى : أولئك المستمتعون بنصيبهم المقدر لهم في الشهوات الخسيسة ، والخائضون في الشرور والآثام " حبطت أعمالهم " أى : فسدت وبطلت أعمالهم التي كانوا يرجون منفعتها { فِي الدنيا والآخرة } لأن هذه الأعمال لم يكن معها إيمان أو إخلاص ، وإنما كان معها الرياء والنفاق ، والفسوق والعصيان ، والله - تعالى - لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم .
وقوله : { وَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون } أى : الكاملون في الخسران ، الجامعون لكل ما من شأنه أن يؤدى إلى البوار والهلاك .
القول في تأويل قوله تعالى : { كَالّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدّ مِنكُمْ قُوّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالّذِي خَاضُوَاْ أُوْلََئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنْيَا وَالاَخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء المنافقين الذين قالوا إنما كنا نخوض ونلعب : أبا لله وآيات كتابه ورسوله كنتم تستهزءون ، كالذين من قبلكم من الأمم الذين فعلوا فعلكم فأهلكهم الله ، وعجّل لهم في الدنيا الخزي مع ما أعدّ لهم من العقوبة والنكال في الاَخرة ؟ يقول لهم جل ثناؤه : واحذروا أن يحلّ بكم من عقوبة الله مثل الذي حلّ بهم ، فإنهم كانوا أشدّ منكم قوّة وبطشا ، وأكثر منكم أموالاً وأولادا . فاسْتَمْتَعُوا بخَلاقِهِمْ يقول : فتمتعوا بنصيبهم وحظهم من دنياهم ودينهم ، ورضوا بذلك من نصيبهم في الدنيا عوضا من نصيبهم في الاَخرة . وقد سلكتم أيها المنافقون سبيلهم في الاستمتاع بخلاقكم ، يقول : فعلتم بدينكم ودنياكم كما استمتع الأمم الذين كانوا من قبلكم الذين أهلكتهم بخلافهم أمري ، بخلاقهم ، يقول : كما فعل الذين من قبلكم بنصيبهم من دنياهم ودينهم ، وخضتم في الكذب والباطل على الله كالذي خاضوا ، يقول : وخضتم أنتم أيها المنافقون كخوض تلك الأمم قبلكم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني أبو معشر ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «لَتَأْخُذُنّ كمَا أخَذَ الأُمَمُ مِنْ قَبْلِكُمْ ، ذِرَاعا بِذِرَاعٍ ، وَشِبْرا بِشِبْرٍ ، وَباعا بِباعٍ حتى لَوْ أنّ أحَدا مِنْ أُولَئِكَ دَخَلَ جَحْرَ ضَبّ لَدَخَلْتُمُوهُ » . قال أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم القرآن : كالّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أشَدّ مِنْكُمْ قَوّةً وأكْثَرَ أمْوَالاً وأوَلادا فاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقهِمْ فاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كمَا اسْتَمْتَعَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كالّذِي خاضُوا قالوا : يا رسول الله ، كما صنعت فارس والروم ؟ قال : «فَهَلِ النّاسُ إلاّ هُمْ » .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج عن عمر بن عطاء ، عن عكرمة عن ابن عباس ، قوله : كالّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ . . . . الآية . قال : قال ابن عباس : ما أشبه الليلة بالبارحة كالّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم ، لا أعلم إلا أنه قال : والذي نفسي بيده لتتبعنهم حتى لو دخل الرجل منهم حُجْرَ ضبّ لدخلتموه
قال ابن جريج : وأخبرنا زياد بن سعد ، عن محمد بن زيد بن مهاجر ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وَالّذِي نَفْسِي بيَدِهِ لَتَتّبِعُنّ سُنَنَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ شِبْرا بِشِبْرٍ ، وَذِرَاعا بذِرَاعٍ ، وَباعا بباعٍ حتى لَوْ دَخَلُوا حُجْرَ ضَبّ لَدَخَلْتُمُوهُ » قالوا : وَمن هم يا رسول الله ، أهل الكتاب ؟ قال : «فَمَهُ ؟ » .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال أبو سعيد الخدريّ إنه قال : فمن .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن : فاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ قال : بدينهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «حِذْرَكُمْ أنْ تُحْدِثُوا في الإسْلامِ حَدَثا » وقد علم أنه سيفعل ذلك أقوام من هذه الأمة ، فقال الله في ذلك : فاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كمَا اسْتَمْتَعَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كالّذِي خاضُوا وإنما حسبوا أن لا يقع بهم من الفتنة ما وقع ببني إسرائيل قبلهم ، وإن الفتنة عائدة كما بدت .
وأما قوله : أُولَئِكَ حَبِطَتْ أعمالُهُمْ فإن معناه : هؤلاء الذين قالوا إنما كنا نخوض ونلعب ، وفعلوا في ذلك فعل الهالكين من الأمم قبلهم ، حبطت أعمالهم يقول : ذهبت أعمالهم باطلاً ، فلا ثواب لها إلا النار ، لأنها كانت فيما يسخط الله ويكرهه . وأُولَئكَ هُمُ الخاسِرُونَ يقول : وأولئك هم المغبونون صفقتهم ببيعهم نعيم الاَخرة ، بخلاقهم من الدنيا اليسير الزهيد .
قيل هذا الخطاب التفات ، عن ضمائر الغيبة الراجعة إلى المنافقين ، إلى خطابهم لقصد التفريع والتهديد بالموعظة ، والتذكير عن الغرور بما هم فيه من نعمة الإمهال بأنّ آخر ذلك حبط الأعمال في الدنيا والآخرة ، وأن يحقّ عليهم الخسران .
فكاف التشبيه في موضع الخبر عن مبتدأ محذوف دلّ عليه ضمير الخطاب ، تقديره : أنتم كالذين من قبلكم ، أو الكاف في موضع نصب بفعل مقدّر ، أي : فعلتم كفعل الذين من قبلكم ، فهو في موضع المفعول المطلق الدالّ على فعله ، ومثله في حذف الفعل والإتيان بما هو مفعول الفعل المحذوف قول النمر بن تولب :
حتّى إذا الكلاَّب قال لها *** كاليومِ مطلوباً ولا طالِبا
أراد : لم أر كاليوم ، إلاّ أنّ عامل النصب مختلف بين الآية والبيت .
وقيل هذا من بقية المَقول المأمور بأن يبلغه النبي صلى الله عليه وسلم إيّاهم من قوله : { قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون } [ التوبة : 65 ] الآية . فيكون ما بينهما اعتراضاً بقوله : { المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض } [ التوبة : 67 ] إلخ فضمير الخطاب لهم جار على مقتضى الظاهر بدون التفات والكلام مسوق لتشبيه حالهم في مصيرهم إلى النار .
والإتيان بالموصول لأنّه أشمل وأجمع للأمم التي تقدّمت مثل عاد وثمود ممّن ضرب العرب بهم المثل في القوة .
و { أشَدّ } معناه أقوى ، والقوة هنا القدرة على الأعمال الصعبة كقوله : { أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة } [ فصلت : 15 ] أو يُراد بها العزّة وعُدّة الغلب باستكمال العَدد والعُدد ، وبهذا المعنى أوقعت القوة تمييز ال { أشد } كما أوقعت مضافاً إليه شديد في قوله تعالى : { علمه شديد القوى } [ النجم : 5 ] .
وكثرة الأموال لها أسباب كثيرة : منها طيب الأرض للزرع والغرس ورَعِي الأنعام والنحلِ ، ومنها وفرة التجارة بحسن موقع الموطن بين مواطن الأمم ، ومنها الاقتراب من البحار للسفر إلى الأقطار وصيد البحر ، ومنها اشتمال الأرض على المعادن من الذهب والفضّة والحديد والمواد الصناعية والغذائية من النبات ، كأشجار التوابل ولحاء الدبغ والصبغ والأدوية والزراريع والزيوت .
وكثرة الأولاد تأتي من الأمن بسبب بقاء الأنفس ، ومن الخصب المؤثر قوة الأبدان والسلامة من المجاعات المعقبة للموتان ، ومن حسن المُناخ بالسلامة من الأوبئة المهلكة ، ومن الثروة بكثرة الأزواج والسراري والمراضع .
والاستمتاع : التمتّع ، وهو نوال أحدٍ المتاعَ الذي به التذاذ الإنسان وملائمه وتقدّم عند قوله تعالى : { ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين } في سورة الأعراف ( 24 ) .
والسين والتاء فيه للمبالغة في قوة التمتّع .
والخلاق : الحَظ من الخير وقد تقدّم عند قوله تعالى : { فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق } في سورة البقرة ( 200 ) .
وتفرّع فاستمتعوا بخلاقهم } على { كانوا أشد } : لأنّ المقصود إدخاله في الحالة المشبه بها كما سيأتي .
وتفرَّع { فاستمتعتم بخلاقكم } على ما أفاده حرف الكاف بقوله : { كالذين من قبلكم } من معنى التشبيه ، ولذلك لم تعطف جملة { فاستمتعتم } بواو العطف ، فإنّ هذه الجملة هي المقصد من التشبيه وما تفرّع عليه ، وقد كان ذكر هذه الجملة يغني عن ذكر جملة : { فاستمتعوا بخلاقهم } لولا قصد الموعظة بالفريقين : المشبّهِ بهم ، والمشبّهين ، في إعراض كليهما عن أخذ العدّة للحياة الدائمة وفي انصبابهما على التمتّع العاجل فلم يكتف في الكلام بالاقتصار على حال أحد الفريقين ، قصداً للاعتناء بكليهما فذلك الذي اقتضى هذا الاطناب ولو اقتصر على قوله : { فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم } ولم يذكر قبله { فاستمتعوا بخلاقهم } لحصل أصل المعنى ولم يستفد قصد الاهتمام بكلا الفريقين .
ولذلك لمّا تقرّر هذا المقصد في أنفس السامعين لم يحتج إلى نسج مثل هذا النظم في قوله : { وخضتم كالذي خاضوا } .
وقوله : { كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم } تأكيد للتشبيه الواقع في قوله : { كالذين من قبلكم } إلى قوله فاستمتعتم بخلاقكم للتنبيه على أنّ ذلك الجزء بخصوصه ، من بين الحالة المشبهةِ والحالةِ المشبه بها ، هو محلّ الموعظة والتذكير ، فلا يغرّهم ما هم فيه من نعمة الإمهال والاستدراج ، فقدّم قوله : { فاستمتعوا بخلاقهم } وأتى بقوله : { كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم } مؤكِّداً له دون أن يقتصر على هذا التشبيه الأخير ، ليتأتى التأكيد ، ولأنّ تقديم ما يتمّم تصوير الحالة المشبّه بها المركّبة ، قبل إيقاع التشبيه ، أشدّ تمكيناً لمعنى المشابهة عند السامع .
وقوله : { كالذي خاضوا } تشبيه لخوض المنافقين بخوض أولئك وهو الخوض الذي حكي عنهم في قوله : { ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب } [ التوبة : 65 ] ولبساطة هذا التشبيه لم يؤت فيه بمثل الأسلوب الذي أتي به في التشبيه السابق له . أي : وخضتم في الكفر والاستهزاء بآيات الله ورسوله كالخوض الذي خاضوه في ذلك ، فأنتم وهم سواء ، فيوشك أن يَحيق بكم ما حاق بهم ، وكلامنا في هذين التشبيهين أدقّ ما كتب فيهما .
و { الذي } اسم موصول ، مفرد ، وإذ كان عائد الصلة هنا ضمير جمع تعيّن أن يكون المراد ب { الذي } : تأويله بالفريق أو الجَمْع ، ويجوز أن يكون { الذي } هنا أصله الذين فخُفّف بحذف النون على لغة هذيل وتميم كقول الأشهب بن زميلة النهشلي :
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم *** هُم القومُ كلُّ القومِ يا أمَّ خالد
ونحاة البصرة يرون هذا الاستعمال خاصّاً بحالة أن تطول الصلة كالبيت فلا ينطبق عندهم على الآية ، ونحاة الكوفة يجوزّونه ولو لم تطل الصلة ، كما في الآية ، وقد ادّعى الفرّاء : أنّ { الذي } يكون موصولاً حرفياً مؤوّلاً بالمصدر ، واستشهد له بهذه الآية ، وهو ضعيف .
ولمّا وصفت حالة المشبه بهم من الأمم البائدة أعقب ذلك بالإشارة إليهم للتنبيه على أنّهم بسبب ذلك كانوا جديرين بما سيخبر به عنهم ، فقال تعالى : { أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون } وفيه تعريض بأنّ الذين شابهوهم في أحوالهم أحرياء بأن يحلّ بهم ما حلّ بأولئك ، وفي هذا التعريض من التهديد والنذارة معنى عظيم .
والخوض : تقدّمت الحوالة على معرفته آنفاً .
والحبط : الزوال والبطلان ، وتقدّم في قوله تعالى : { فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة } في سورة البقرة ( 217 ) .
والمراد بأعمالهم : ما كانوا يعملونه ويكدحون فيه : من معالجة الأموال والعيال والانكباب عليهما ، ومعنى حبْطها في الدنيا استئصالها وإتلافها بحلول مختلف العذاب بأولئك الأمم ، وفي الآخرة بعدم تعويضها لهم ، كقوله تعالى : { ونرثه ما يقول } [ مريم : 80 ] أي في الدنيا { ويأتينا فرداً } [ مريم : 80 ] أي في الآخرة لا مال له ولا ولد ، كقوله : { ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه } [ الحاقة : 28 ، 29 ] .
وفي هذا كلّه تذكرة للنبيء صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأنْ لا يظنّوا أن الله لمّا أمهل المنافقين قد عفا عنهم .
ولمّا كانت خسارتهم جسيمة جعل غيرهم من الخاسرين كلاً خاسرين فحصرت الخسارة في هؤلاء بقوله : { وأولئك هم الخاسرون } قصراً مقصوداً به المبالغة .
وإعادة اسم الإشارة للاهتمام بتمييز المتحدّث عنهم لزيادة تقرير أحوالهم في ذهن السامع .