التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{لَّا يَمَسُّهُۥٓ إِلَّا ٱلۡمُطَهَّرُونَ} (79)

وقوله - سبحانه - : { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون } : صفة للكتاب الذى هو اللوح المحفوظ . أى : أن هذا القرآن قد اقتضت حكمتنا أن نجعله فى كتاب مصون بحيث لا يطلع عليه قبل نزوله . من اللوح المحفوظ ولا يمسه أحد ، إلا الملائكة المطهرون من كل ما يوجب الطهارة .

وعلى هذا التفسير يكون الغرض من الآيات الكريمة ، نفى ما زعمه المشركون من أن القرآن تنزلت به الشياطين ، وإثبات أن هذا القرآن مصون فى كتاب مستور عن الأعين ، هو اللوح المحفوظ . وأن الملائكة المطهرين وحدهم الذين يطلعون على هذا القرآن من اللوح المحفوظ ، وهم وحدهم الذين ينزلون به على الرسول - صلى الله عليه وسلم - .

كما قال - تعالى - : { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } وكما قال - سبحانه - : { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ } ومنهم من يرى أن قوله - تعالى - : { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون } صفة أخرى للقرآن الكريم ، فيكون المعنى : إن هذا القرآن الكريم . لا يصح أن يمسه إلا المطهرون من الناس ، عن الحدث الأصغر ، والحدث الأكبر ، فيكون المراد بالطهارة : الطهارة الشرعية . .

وقد رجح العلماء الرأى الأول الذى يرى أصحابه أن قوله - تعالى - : { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون } صفة للوح المحفوظ المعبر عنه بأنه كتاب مكنون ، وأم المراد بالمطهرين : الملائكة المقربون . . .

وقالوا فى تأييد ما ذهبوا إليه : إن الآيات مسوقة لتنزيه القرآن عن أن تنزل به الشياطين ، وأنه فى مكان مأمون لا يصل إليه إلا الملائكة المقربون .

والآيات - أيضا - مكية ، والقرآن المكى أكثر اهتمامه كان موجها إلى إبطال شبهات المشركين ، وليس إلى الأحكام الفرعية ، التى تحدث عنها القرآن المدنى كثيرا .

كذلك قالوا : إن وصف الكتاب بأنه { مَّكْنُونٍ } يدل على شدة الصون والستر عن الأعين ، بحيث لا تناله أيدى البشر ، وهذا لا ينطبق إلا على اللوح المحفوظ ، أما القرآن فيمسه المؤمن وغير المؤمن .

قال الإمام القرطبى ما ملخصه قوله : { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون } اختلف فى معنى { لاَّ يَمَسُّهُ } هل هو حقيقة فى المس بالجارحة أو معنى ؟ وكذلك اختلف فى { المطهرون } من هم ؟ .

فقال أنس وسعيد بن جبير : لا يمس ذلك الكتاب إلا المطهرون من الذنوب وهم الملائكة . .

وقيل المراد بالكتاب : المصحف الذى بأيدينا ، وهو الأظهر ، وقد روى مالك وغيره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان فى كتابه الذى كتبه إلى شرحبيل بن كلال . . . " ألا يمس القرآن إلا طاهر " .

وقال أخت عمر لعمر عن إسلامه : { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون } فقام واغتسل . ثم أخذ الصحيفة التى بيدها ، وفيها القرآن .

ثم قال : اختلف العلماء فى مس المصحف على غيره وضوء : فالجمهور على المنع .

.

وفى مس الصبيان إياه على وجهين : أحدهما المنع اعتبارا بالبالغ والثانى الجواز ، لأنه لو منع لم يحفظ القرآن . لأن تعلمه حال الصغر ، ولأن الصبى وإن كانت له طهارة إلا أنها ليست بكاملة ، لأن النية لا تصح منه ، فإذا جاز أن يحمله على طهارة ، جاز أن يحمله محدثا .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{لَّا يَمَسُّهُۥٓ إِلَّا ٱلۡمُطَهَّرُونَ} (79)

قوله : لا يَمَسّهُ إلاّ المُطَهّرُونَ يقول تعالى ذكره : لا يمسّ ذلك الكتاب المكنون إلا الذين قد طهّرهم الله من الذنوب . واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله : إلاّ المُطَهّرُونَ فقال بعضهم : هم الملائكة . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : إذا أراد الله أن ينزل كتابا نسخته السفرة ، فلا يمسه إلا المطهرون ، قال : يعني الملائكة .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الربيع بن أبي راشد ، عن سعيد بن جُبَير لا يَمَسّهُ إلاّ المُطَهّرُونَ قال : الملائكة الذين في السماء .

حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن الربيع بن أبي راشد ، عن سعيد بن جُبَير لا يَمَسّهُ إلاّ المُطَهّرُونَ قال : الملائكة .

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن الربيع بن أبي راشد ، عن سعيد بن جُبَير . لا يَمَسّهُ إلاّ المُطَهّرُونَ قال : الملائكة .

حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبيد الله ، يعني العتكي ، عن جبار بن زيد وأبي نهيك في قوله : لا يَمَسّهُ إلاّ المُطَهّرُونَ يقول : الملائكة .

قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبيه ، عن عكرِمة لا يَمَسّهُ إلاّ المُطَهّرُونَ قال الملائكة .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : لا يَمَسّهُ إلاّ المُطَهّرُونَ قال الملائكة .

حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا جرير ، عن عاصم ، عن أبي العالية لا يَمَسّهُ إلاّ المُطَهّرُونَ قال : الملائكة .

وقال آخرون : هم حملة التوراة . والإنجيل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن أبيه ، عن عكِرمة لا يَمَسّهُ إلاّ المُطَهّرُونَ قال : حملة التوراة والإنجيل .

وقال آخرون في ذلك : هم الذين قد طهروا من الذنوب كالملائكة والرسل . ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا مروان ، قال : أخبرنا عاصم الأحول ، عن أبي العالية الرياحي ، في قوله : لا يَمَسّهُ إلاّ المُطَهّرُونَ قال : ليس أنتم ، أنتم أصحاب الذنوب .

حدثني يونس ، قال أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : لا يَمَسّهُ إلاّ المُطَهّرُونَ قال : الملائكة والأنبياء والرسل التي تنزل به من عند الله مطهرة ، والأنبياء مطهرة ، فجبريل ينزل به مُطَهّر ، والرسل الذين تجيئهم به مُطَهّرون فذلك قوله : لا يَمَسّهُ إلاّ المُطَهّرُونَ والملائكة والأنبياء والرسل من الملائكة ، والرسل من بني آدم ، فهؤلاء ينزلون به مطهرون ، وهؤلاء يتلونه على الناس مطهرون ، وقرأ قول الله بأيْدِي سَفَرةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ قال : بأيدي الملائكة الذين يحصون على الناس أعمالهم .

وقال آخرون : عنى بذلك : أنه لا يمسه عند الله إلا المطهرون . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لا يَمَسّهُ إلاّ المُطَهّرُونَ ذاكم عند ربّ العالمين ، فأما عندكم فيمسه المشرك النجس ، والمنافق الرّجِس .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله : لا يَمَسّهُ إلاّ المُطَهّرُونَ قال لا يمسه عند الله إلا المطهرون ، فأما في الدنيا فإنه يمسه المجوسيّ النجس ، والمنافق الرجس . وقال في حرف ابن مسعود «ما يَمَسّهُ إلاّ المُطَهّرُونَ » .

والصواب من القول من ذلك عندنا ، أن الله جلّ ثناؤه ، أخبر أن لا يمسّ الكتاب المكنون إلا المطهرون فعمّ بخبره المطهرين ، ولم يخصص بعضا دون بعض فالملائكة من المطهرين ، والرسل والأنبياء من المطهرين وكل من كان مطهرا من الذنوب ، فهو ممن استثني ، وعني بقوله : إلاّ المُطَهّرُونَ .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{لَّا يَمَسُّهُۥٓ إِلَّا ٱلۡمُطَهَّرُونَ} (79)

واختلف الناس في معنى قوله : { لا يمسه إلا المطهرون } وفي حكمه فقال من قال : إن الكتاب المكنون هو الذي في السماء . { المطهرون } هنا الملائكة قال قتادة : فأما عندكم فيمسه المشرك المنجس والمنافق قال الطبري : { المطهرون } : الملائكة والأنبياء ومن لا ذنب له ، ولي في الآية على هذا القول حكم مس المصحف لسائر بني آدم ، ومن قال بأنها مصاحف المسلمين ، قال إن قوله : { لا يمسه } إخبار مضمنه النهي ، وضمة السين على هذا ضمة إعراب ، وقال بعض هذه الفرقة : بل الكلام نهي ، وضمة السين ضمة بناء ، قال جميعهم : فلا يمس المصحف من جميع بني آدم إلا الطاهر من الكفر والجنابة والحدث الأصغر . قال مالك : لا يحمله غير طاهر بعلاقته ولا على وسادة . وفي كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم : «ولا يمس المصحف إلا طاهر »{[10935]} ، وقد رخص أبو حنيفة وقوم بأن يمسه الجنب والحائض على حائل غلاف ونحوه ، ورخص بعض العلماء في مسه بالحدث الأصغر ، وفي قراءته عن ظهر قلب ، منهم ابن عباس وعامر الشعبي ، ولا سيما للمعلم والصبيان ، وقد رخص بعضهم للجنب في قراءته ، وهذا الترخيص كله مبني على القول الذي ذكرناه من أن المطهرين هم الملائكة أو على مراعاة لفظ اللمس فقد قال سليمان : لا أمس المصحف ولكن أقرأ القرآن .

وقرأ جمهور الناس : «المطَهّرون » بفتح الطاء والهاء المشددة . وقرأ نافع وابو عمرو بخلاف عنهما «المطْهَرون » بسكون الطاء وفتح الهاء خفيفة ، وهي قراءة عيسى الثقفي . وقرأ سلمان الفارسي : «المطَهِّرون » بفتح الطاء خفيفة وكسر الهاء وشدها على معنى الذين يطهرون أنفسهم ، ورويت عنه بشد الطاء والهاء . وقرأ الحسن وعبد الله بن عون وسلمان الفارسي بخلاف عنه : المطّهرون بشد الطاء بمعنى المتطهرون .

قال القاضي أبو محمد : والقول بأن { لا يمسه } نهي قول فيه ضعف وذلك أنه إذا كان خبراً فهو في موضع الصفة .


[10935]:أخرجه عبد الرزاق، وابن أبي داود، وابن المنذر، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، قال: في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم:(ولا تمس القرآن إلا على طهور).(الدر المنثور).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{لَّا يَمَسُّهُۥٓ إِلَّا ٱلۡمُطَهَّرُونَ} (79)

وجملة { لا يمسه إلا المطهرون } صفة ثانية ل { كتاب } .

و { المطهّرون } : الملائكة ، والمراد الطهارة النفسانية وهي الزكاء . وهذا قول جمهور المفسرين وفي « الموطأ » قال مالك : أحسن ما سمعت في هذه الآية { لا يمسه إلا المطهرون } أنها بمنزلة هذه الآية التي في عبس وتولى ( 11 16 ) قول الله تبارك وتعالى : { لكلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة اهـ . { يريد أن المطهرون } هم السفرة الكرام البررة وليسوا الناس الذين يتطهرون .

ومعنى المسّ : الأخذ وفي الحديث : « مَس من طيبة » ، أي أخذ . ويطلق المسّ على المخالطة والمطالعة قال يزيد بن الحكم الكلابي :

مسِسْنا من الآباء شيئاً فكلُّنا *** إلى حسَب في قومه غير واضع

قال المرزوقي في شرح هذا البيت من « الحماسة » : « مسسنا » يجوز أن يكون بمعنى أصبنا واختبرنا لأن المس باليد يقصد به الاختبار . ويجوز أن يكون بمعنى طلبنا اهـ . فالمعنى : أن الكتاب لا يباشر نقل ما يحتوي عليه لتبليغه إلا الملائكة .

والمقصود من هذا أن القرآن ليس كما يزعم المشركون قول كاهن فإنهم يزعمون أن الكاهن يتلقى من الجن والشياطين ما يسترِقونه من أخبار السماء بزعمهم ، ولا هو قول شاعر إذ كانوا يزعمون أن لكل شاعر شيطاناً يملي عليه الشعر ، ولا هو أساطير الأولين ، لأنهم يعنون بها الحكايات المكذوبة التي يَتلهى بها أهلُ الأسمار ، فقال الله : إن هذا القرآن مطابق لما عند الله الذي لا يشاهده إلا الملائكة المطهرون .