ثم بين - سبحانه - بعض من يحرم نكاحن من الأقارب فقال تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأخ وَبَنَاتُ الأخت } وليس المراد بقوله { حُرِّمَتْ } تحريم ذاتهن ، لأن الحرمة لا تتعلق بالذوات وإنما تتعلق بأفعال المكلفين . فالكلام على حذف مضاف أى حرم عليكم نكاح أمهاتكم وبناتكم . . الخ وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله ، معنى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } تحريم نكاحن لقوله . { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء } ولأن تحريم نكاحن هو الذى يفهم من تحريمهن ، كما يفهم من تحريم الخمر تحريم شربها . ومن تحريم لحم الخنزير تحريم أكله .
وقد ذكر - سبحانه - فى هذه الحملة الكريمة أربع طوائف من الأقارب يحرم نكاحهن .
أما الطائفة الأولى : طائفة الأمهات من النسب . أى حرم الله عليكم نكاح أمهاتكم من النسب ، ويعم هذا التحريم أيضا الجدات سواء أكن من جهة الأب أم من جهة الأم ، لأنه إذا كان يحرم نكاح العمة أو الخالة فمن الأولى أن يكون نكاح الجدة محرما ، إذ الأم هى طريق الوصول فى القرابة إلى هؤلاء . وقد أجمع المسلمون على تحريم نكاح الجدات .
والطائفة الثانية : هى طائفة الفروع من النساء ، وقد عبر القرآن عن ذلك بقوله { وَبَنَاتُكُمْ } بالعطف على أمهاتكم .
أى حرم الله عليكم نكاح أمهاتكم ونكاح بناتكم .
والبنت هى كل امرأة لك عليها ولادة سواء أكانت بنتا مباشرة أم بواسطة فتشمل حرمة النكاح البنات وبنات الأبناء وبنات البنات وإن نزلن .
وقد انعقد الإِجمال على تحريم الفروع من النساء مهما تكن طبقتهن .
والطائفة الثالثة : هى طائفة فروع الأبوين . وقد عبر القرآن عن ذلك بقوله { وَأَخَوَاتُكُمْ } ثم بقوله ، { وَبَنَاتُ الأخ وَبَنَاتُ الأخت } بالعطف على { وَأُمَّهَاتُكُمُ } .
أى وحرم الله عليكم نكاح أخواتكم سواء أكن شقيقات أم غير شقيقات وحرم عليكم أيضا نكاح بنات إخوانكم وبنات أخواتكم من أى وجه يكن .
والطائفة الرابعة : هى طائفة العمات والخالات . وقد ثبت تحريم نكاحهن بقوله - تعالى - { وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ } بالعطف على { أُمَّهَاتُكُمْ } .
أى حرم الله عليكم نكاح عماتكم وخالاتكم كما حرم عليكم نكاح أمهاتكم وبناتكم .
والعمة : هى كل امرأة شاركت أباك مهما علا فى أصليه أو فى أحدهما .
والخالة : هى كل امرأة شاركت أمك مهما علت فى أصليها أو فى أحدهما .
وإذن فالعمات والخالات يشملن عمات الأب والأم ، وخالات الأب والأم ، وعمات الجد والجدة ، وخالات الجد والجدة ، لأن هؤلاء يطلق عليهن عرفا اسم العمة والخالة .
تلك هى الطوائف الأربع اللاتى يحرم نكاحهن من الأقارب ، وإن هذا التحريم يتناسب مع الفطرة التى فطر الله الناس عليها ، ويتفق مع العقول السليمة التى تحب مكارم الأخلاق ، وذلك لأن شريعة الإِسلام قد نوهت بمنزلة القرابة القريبة للإِنسان ، وأضفت عليها الكثيرة من ألوان الوقار والاحترام ؛ والزواج وما يصاحبه من شهوات ومداعبات ورضا واختلاف يتنافى مع ما أسبغه الله - تعالى - على هذه القوابة القريبة من وقار ومن عواطف شريفه .
ولأن التجارب العلمية قد أثبتت أن التلاقح بين سلائل متباعدة الأصول غالبا ما ينتج نسلا قويا ، أما التلاقح بين السلائل المتحدة فى أصولها القريبة فإنه غالبا ما ينتج نسلا ضعيفا .
ثم بين - سبحانه - النساء اللائي يحرم الزواج بهن لأسباب أخرى سوى القرابة فقال - تعالى - { وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرضاعة } .
أى : وحرم الله - عليكم نكاح أمهاتكم اللاتى أرضعنكم ، وحرم عليكم - أيضا نكاح أخواتكم من الرضاعة .
والأم من الرضاع : هى كل امرأة أرضعتك ؛ وكذلك كل امرأة انتسبت إلى تلك المرضعة بالأمومة من جهة النسب أو من جهة الرضاع .
والأخت من الرضاع : هى التى التقيت انت وهى على ثدى واحد .
قال القرطبى : وهى الأخت لأب وأم . وهى التى أرضعتها أمك بلبان أبيك ، سواء أرضعتها معك أو رضعت قبلك أو بعدك والأخت من الأب دون الأم ، وهى التى أرضعتها زوجة أبيك . والأخت من الأم دون الأب وهى التى أرضعتها أمك بلبان رجل آخر .
هذا ، وظاهر قوله - تعالى - { وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرضاعة } يقتضى أن مطلق الرضاع محرم للنكاح . وبذلك قال المالكية والأحناف :
ويرى الشافعية والحنابلة أن الرضاع المحرم هو الذى يبلغ خمس رضعات . واستدلوا بما رواه مسلم وغيره عن عائشة - رضى الله عنها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تحرم المصة ولا المصتان " وفى رواية عنها انه قال :
" لا تحرم الرضعة والرضعتان ، والمصة والمصتان " .
كذلك ظاهر هذه الجملة الكريمة يقتضى أن الرضاع يحرم النكاح ولو فى سن الكبر ، إلا أن جمهور العلماء يرون أن الرضاع المحرم هو ما كان قبل بلوغ الحولين أما ما كان بعد بلوغ الحولين فلا يحرم ولا يكون الرضيع ابنا من الرضاعة وذلك لقوله - تعالى - { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } وأخرج الترمذى عن أم سلمة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء ، وكان قبل الفطام " .
قال ابن كثير عند تفسيره لقوله - تعالى - { وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرضاعة } .
أى : كما يحرم عليك نكاح أمك التى ولدتك كذلك يحرم عليك نكاح أمك التى أرضعتك .
ولهذا ثبت فى الصحيحين عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة " وفى لفظ المسلم : " يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب " .
ومن الحكم التى ذكرها العلماء من وراء تحريم النكاح بسبب الرضاعة : أن المولود يتكون جسمه من جسم المرأة التى أرضعته فيكون جزءاً منها ، كما أنه جزء من أمه التى حملته . وإذا كانت هذه قد غذته بدمها وهو فى بطنها فإن تلك قد غذته بلبانها وهو فى حجرها ، فكان من التكريم لهذه الأم من الرضاع أن تعامل معاملة الحقيقة ، وأن يعامل كل من التقيا على ثدى امرأة واحدة معاملة الإِخوة من حيث التكريم وحرمة النكاح بينهم .
هذا ، ومن أراد المزيد من المعرفة لأحكام الرضاع فليرجع الى كتب الفقه .
ثم ذكر - سبحانه - نوعا ثالثا من المحرمات لغير سبب القرابة فقال : { وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ } .
أى : وكذلك حرم الله عليكم نكاح أمهات زوجاتكم سواء أكن أمهات مباشرات أم جدات ، لأن كلمة الأم تشمل الجدات ، ولإِجماع الفقهاء على ذلك .
قال الآلوسى : والمراد بالنساء المعقود عليهن وعلى الإِطلاق ، سواء أكن مدخولا بهن أم لا . وهو مجمع عليه عند الأئمة الأربعة ، لكن يشترط أن يكون النكاح صحيحا . أما إذا كان فاسدا فلا تحرم الأم إلا إذا وطئ ابنتها . فقد أخرج البيهقى فى سننه وغيره من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها دخل بالابنة أو لم يدخل . وإذا تزوج الأم ولم يدخل بها ثم طلقها فإن شاء تزوج الإِبنة " .
ثم بين - سبحانه - نوعا رابعا من المحرمات لغير سبب القرابة فقال تعالى - { وَرَبَائِبُكُمُ اللاتي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاتي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } .
وقوله { وَرَبَائِبُكُمُ } جمع ربيبة . وهى بنت أمرأة الرجل من غيره . وسميت بذلك لأن الزوج فى أغلب الأحوال يربها أى يربيها فى حجره ويعطف عليها .
والحجور : جمع حجر - بالفتح والكسر مع سكون الجيم - وهو ما يحويه مجتمع الرجلين للجالس المتربع . والمراد به هنا معنى مجازى وهو الحضانة والكفالة والعطف . يقال : فلان فى حجر فلان أى فى كنفه ومنعته ورعايته .
ومقتضى ظاهر الجملة الكريمة أن الربيبة لا يحرم نكاحها على زوج أمها إلا بشرطين :
وثانيهما : أن يكون الزوج قد دخل بأمها .
أما عن الشرط الأول فلم يأخذ به جمهور العلماء ، وقالوا : إن هذا الشرط خرج مخرج الغالب والعادة ، إذ الغالب كون البنت مع الأم عند الزوج ، لا أنه شرط فى التحريم فهم يرون أن نكاح الربيبة حرام على زوج أمها سواء أكانت فى حجره أم لم تكن قالوا : وفائدة هذا القيد تقوية علة الحرمة أو أنه ذكر للتشنيع عليهم ، إذ أن نكاحها محرم عليهم فى جميع الصور إلا أنه يكون أشد قبحا فى حالة وجودها فى حجره هذا رأى عامة الصحابة والفقهاء .
ولكنه هناك رواية عن مالك بن أوس عن على بن أبى طالب أنه قال : الربيبة لا يحرم نكاحها على زوج الأم إلا إذا كانت فى حجره أخذا بظاهر الآية الكريمة . وقد أخذ بذلك داود الظاهرى وأشياعه .
وأصحاب الرأى الأول لم يعثدوا بهذه الرواية المروية عن على - رضى الله عنه - وأما عن الشرط الثانى - وهو أن يكون الزوج قد دخل بأم الربيبة - فقد أخذ به العلماء إلا أنهم اختلفوا فى معنى الدخول فقال بعضهم : معناه الوطء والجماع . وقال بعضهم : معناه التمتع كاللمس والقبلة ، فلو حصل منه مع الأم ما يشبه ذلك حرم عليه نكاح ابنتها من غيره .
قال القرطبى ما ملخصه : اتفق الفقهاء على أن الربيبة تحرم على زوج أمها إذا دخل بالأم ، وإن لم تكن الربيبة فى حجره . وشذ بعض المتقدمين وأهل الظاهر فقالوا : لا تحرم عليه الربيبة إلا أن تكون فى حجر المتزوج بأمها . ثم قال وقوله - تعالى - { فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } يعنى الأمهات { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } يعنى فى نكاح بناتهن إذا طلقتموهن أو متن عنكم .
وأجمع العلماء على أن الرجل إذا تزوج المرأة ثم طلقها أو ماتت قبل أن يدخل بها حل له نكاح ابنتها . واختلفوا فى معنى الدخول بالأمهات الذى يقع به التحريم للربائب . فروى عن ابن عباس أنه قال : الدخول : الجماع . واتفق مالك والثورى وأبو حنيفة على أنه إذا مسها بشهوة حرمت عليه أمها وابنتها وحرمت على الأب والإبن ، وهو أحد قولى الشافعى . . .
والحكمة فى تحريم الربائب على أزواج أمهاتهن أنهن حينئذ يشبهن البنات الصلبيات بالنسبة لهؤلاء الأزواج ، بسبب ما يجدنه منهم من رعاية وتربية فى العادة ، ولأنه لو أبيح للرجل أن يتزوج ببنت امرأته التى دخل بها ، لأدى ذلك إلى تقطيع الأرحام بين الأمر وابنتها .
ولأدى ذلك أيضا إلى الانصراف عن رعاية هؤلاء الربائب خشية الرغبة فى الزواج بواحدة منهن .
ثم بين - سبحانه - نوعا خامسا من المحارم فقال . تعالى - : { وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أَصْلاَبِكُمْ } .
والحلائل : جمع حليلة وهى الزوجة . وسميت بذلك لحلها للزوج وحل الزوج لها ، فكلاهما حلال لصاحبه . ويقال للزوج حليل .
أى : وحرم الله - تعالى - عليكم نكاح زوجات أبنائكم الذين هم من أصلابكم . أى : من ظهوركم .
وقال - سبحانه - { وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ } بدون تقييد بالدخول . للاشارة إلى أن حليلة الابن تحرم على الأب بمجرد عقد الابن عليها .
قال القرطبى : أجمع العلماء على تحريم ما عقد عليه الآباء على الأبناء ، وما عقد عليه الأبناء على الآباء سواء أكان مع العقد وطء أو لم يكن : لقوله - تعالى - : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء } وقوله - تعالى - : { وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أَصْلاَبِكُمْ } . وقيد الله الأبناء بالذين هم من الأصلاب ، ليخرج الابن المتبنى . فهذا تحل زوجته للرجل الذى تبناه .
وقد كان العرب يعتبرون الابن بالتبنى كأولادهم من ظهورهم ، ويحرمون زوجة الابن بالتبنى على من تبناه . وقد سمى القرآن الأبناء بالتبنى أدعياء فقال - تعالى - :
{ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ والله يَقُولُ الحق وَهُوَ يَهْدِي السبيل ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله فَإِن لَّمْ تعلموا آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدين وَمَوَالِيكُمْ } ثم أبطل القرآن ما كان عليه أهل الجاهلية فى شأن الابن المتبنى ، فأباح للرجل أن يتزوج من زوجة الابن الذى تبناه بعد فراقه عنها .
وقد أمر الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يتزوج بزينب بنت جحش بعد أن طلقها زوجها زيد بن حارثة ، وكان زيد قد تبناه النبي صلى الله عليه وسلم فقال المشركون : تزوج محمد امرأة ابنه فأنزل الله - تعالى - { فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً } فإن قيل : إن قيد { مِنْ أَصْلاَبِكُمْ } . يخرج الابن من الرضاع كما أخرج الابن بالتبنى ؟ فالجواب على ذلك : أن الابن بالرضاع حرمت حليلته على أبيه من الرضاع بقول النبى صلى الله عليه وسلم : " يرحم من الرضاع ما يرحم من النسب " .
ثم بين - سبحانه - نوعا سادسا من المحرمات فقال - تعالى - : { وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } .
قال ابن كثير والمعنى : وحرم عليكم الجمع بين الأختين معا فى التزويج إلا ما كان منكم فى جاهليتكم فقد عفونا عنه وغفرناه .
فدل على أنه لا مثنوية فيما يستقبل لأنه استثنى مما سلف وقد أجمع العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة قديما وحديثا على أنه يرحم الجمع بين الأختين فى النكاح . ومن أسلم وتحت أختام خير فيمسك إحداهما ويطل الأخرى لا محالة ، فقد روى الإِمام أحمد عن الضحاك بن فيروز عن أبيه قال : أسلمت وعندى امرأتان أختان فأمرنى النبى صلى الله عليه وسلم أن أطلق إحداهما .
وكما أنه يحرم الجمع بين الأختين فى عصمة رجل واحد ، فكذلك يحرم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها أو ابنة أخيها أو ابنة أختها لنهى النبى - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقد جاء فى صحيح مسلم وفى سنن أبى داود والترمذى والنسائى عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ، ولا على ابنة أخيها ولا على ابنة أختها " .
وفى رواية الطبرانى أنه قال : " فإنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم " .
والسر فى تحريم هذا النوع من النكاح أنه يؤدى إلى تقطيع الأرحام - كما جاء فى الحديث الشريف - إذا من شأن الضرائر أن يكون بينهن من الكراهية وتبادل الأذى ما هو مشاهد ومعلوم . فكان من رحمة الله بعباده أن حرم عليهم هذه الأنواع من الأنكحة السابقة صيانة للأسرة من التمزق والتشتت ، وحماية لها من الضعف والوهن ، وسمواً بها عن مواطن الريبة والغيرة والفساد وقد عفا - سبحانه - عما حدث من هذه الأنكحة الفاسدة فى الجاهلية أو قبل نزول هذه الآية الكريمة بتحريمها ، لأنه - سبحانه - كان وما زال غفارا للذنوب ، ستارا للعيوب ، رحيما بعباده ، ومن رحمته بهم أنه يعذبهم من غير نذير ، ولا يؤاخذهم على ما اكتسبوا إلا بعد بيان واضح .
{ حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأخِ وَبَنَاتُ الاُخْتِ وَأُمّهَاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مّنَ الرّضَاعَةِ وَأُمّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مّن نّسَآئِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنّ فَإِن لّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاخْتَيْنِ إَلاّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً } .
يعني بذلك تعالى ذكره : حرّم عليكم نكاح أمهاتكم ، فترك ذكر النكاح اكتفاء بدلالة الكلام عليه .
وكان ابن عباس يقول في ذلك ، ما :
حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، عن الثوري ، عن الأعمش ، عن إسماعيل بن رجاء ، عن عمير مولى ابن عباس ، عن ابن عباس ، قال : حرم من النسب سبع ، ومن الصهر سبع . ثم قرأ : { حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمّهاتُكُمْ } حتى بلغ : { وأنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ إلاّ ما قَدْ سَلَفَ } قال : والسابعة { وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤكُمْ مِنَ النّساءِ } .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إسماعيل بن رجاء ، عن عمير مولى ابن عباس ، عن ابن عباس ، قال : يحرم من النسب سبع ، ومن الصهر سبع ، ثم قرأ : { حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمّهاتُكُمْ } . . . إلى قوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } .
حدثنا ابن بشار مرة أخرى ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إسماعيل بن رجاء ، عن عمير مولى ابن عباس ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي ذئب ، عن الزهري بنحوه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن حبيب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : حرم عليكم سبع نسبا وسبع صهرا . { حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمّهاتُكُمْ } . . . الاَية .
حدثنا ابن وكيع ، قال حدثنا أبي ، عن عليّ بن صالح ، عن سماك بن حرب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : { حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وأخَوَاتُكُمْ } قال : حرّم الله من النسب سبعا ، ومن الصهر سبعا ، ثم قرأ : { وأُمّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمْ } . . . الاَية .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مطرف ، عن عمرو بن سالم مولى الأنصار ، قال : حرم من النسب سبع ، ومن الصهر سبع : حرمت عليكم أمهاتكم ، وبناتكم ، وأخواتكم ، وعماتكم ، وخالاتكم ، وبنات الأخ ، وبنات الأخت . ومن الصهر : أمهاتكم اللاتي أرضعنكم ، وأخواتكم من الرضاعة ، وأمهات نسائكم ، وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهنّ ، فإن لم تكونوا دخلتم بهن ، فلا جناح عليكم ، وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم ، وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف . ثم قال : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكتْ أيمَانُكُمْ } ، { وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤكُمْ مِنَ النّساءِ } .
فكل هؤلاء اللواتي سماهنّ الله تعالى وبين تحريمهنّ في هذه الاَية محرّمات غير جائز نكاحهنّ لمن حرّم الله ذلك عليه من الرجال ، بإجماع جميع الأمة ، لا اختلاف بينهم في ذلك ، إلا في أمهات نسائنا اللواتي لم يدخل بهنّ أزواجهنّ ، فإن في نكاحهنّ اختلافا بين بعض المتقدمين من الصحابة إذا بانت الابنة قبل الدخول بها من زوجها ، هل هنّ من المبهات ، أم هنّ من المشروط فيهنّ الدخول ببناتهنّ . فقال جميع أهل العلم متقدمهم ومتأخرهم : من المبهمات ، وحرام على من تزوّج امرأة أمها دخل بامرأته التي نكحها أو لم يدخل بها ، وقالوا : شرط الدخول في الربيبة دون الأم ، ، فأما أم المرأة فمطلقة بالتحريم . قالوا : ولو جاز أن يكون شرط الدخول في قوله : { وَرَبائِبِكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمُ مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنّ } فوضع موصولاً به قوله : { وأُمّهاتُ نِسائِكُمْ } جاز أن يكون الاستثناء في قوله : { وَالمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } من جميع المحرّمات بقوله : { حُرْمَتْ عَلَيْكُمْ } . . . الاَية ، قالوا : وفي إجماع الجميع على أن الاستثناء في ذلك إنما هو مما وليه من قوله : { والمُحْصَناتُ } أبين الدلالة على أن الشرط في قوله : { مِنْ نِسائِكُمْ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنّ } مما وليه من قوله : { وَرَبائِبُكُمُ اللاّتِي في حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنّ } دون أمهات نسائنا . وروي عن بعض المتقدمين أنه كان يقول : حلال نكاح أمهات نسائنا اللواتي لم ندخل بهنّ ، وإن حكمهنّ في ذلك حكم الربائب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عدّي وعبد الأعلى ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن خلاس بن عمرو ، عن عليّ رضي الله عنه في رجل تزوّج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها ، أيتزوّج أمها ؟ قال : هي بمنزلة الربيبة .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، قال : حدثنا قتادة ، عن خلاس ، عن عليّ رضي الله عنه ، قال : هي بمنزلة الربيبة .
حدثنا حميد ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، قال : حدثنا قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن زيد بن ثابت أنه كان يقول : إذا ماتت عنده ، وأخذ ميراثها ، كره أن يخلف على أمها ، وإذا طلقها قبل أن يدخل بها ، فإن شاء فعل .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن زيد بن ثابت ، قال : إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها فلا بأس أن يتزوّج أمها .
حدثنا القاسم ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، أخبرني عكرمة بن خالد ، أن مجاهدا قال له : { وأُمّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاّتِي في حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمْ } أريد بهما الدخول جميعا .
قال أبو جعفر : والقول الأوّل أولى بالصواب ، أعني قول من قال : الأم من المبهمات ، لأن الله لم يشرط معهنّ الدخول ببناتهنّ ، كما شرط ذلك مع أمهات الربائب ، مع أن ذلك أيضا إجماع من الحجة التي لا يجوز خلافها فيما جاءت به متفقة عليه .
وقد رُوي بذلك أيضا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم خبر ، غير أن في إسناده نظرا ، وهو ما :
حدثنا به المثنى ، قال : حدثنا حبان بن موسى ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا المثنى بن الصباح ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «إذَا نَكَحَ الرّجُلُ المَرأةَ فَلا يَحِلّ لَهُ أنْ يَتَزَوّجَ أُمّها ، دَخَلَ بالابْنَةِ أمْ لَمْ يَدْخُلْ ، وَإذَا تَزَوّجَ الأُمّ فَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا ثُمّ طَلّقَها ، فإنْ شاءَ تَزَوّجَ الابْنَة » .
قال أبو جعفر : وهذا خبر وإن كان في إسناده ما فيه ، فإن في إجماع الحجة على صحة القول به مستغنى عن الاستشهاد على صحته بغيره .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال لعطاء : الرجل ينكح المرأة لم يرها ولا يجامعها حتى يطلقها ، أيحلّ له أمها ؟ قال : لا ، هي مرسلة . قلت لعطاء : أكان ابن عباس يقرأ : { وأُمّهاتُ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنّ } ؟ قال : لا تبرأ¹ قال حجاج : قلت لابن جريج : ما تبرأ ؟ قال : كأنه قال : لا لا .
وأم الربائب فإنه جمع ربيبة وهي ابنة امرأة الرجل ، قيل لها ربيبة لتربيته إياها ، وإنما هي مربوبة صرفت إلى ربيبة ، كما يقال : هي قبيلة من مقبولة ، وقد يقال لزوج المرأة : هو ربيب ابن امرأته ، يعني به : هو رابّه ، كما يقال : هو جابر وجبير ، وشاهد وشهيد .
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : { مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنّ } فقال بعضهم معنى الدخول في هذا الموضع : الجماع . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { مِنْ نِسائِكُمْ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنّ } والدخول : النكاح .
وقال آخرون : الدخول في هذا الموضع : هو التجريد . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : قلت لعطاء ، قوله : { اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنّ } ما الدخول بهنّ ؟ قال : أن تهدى إليه فيكشف ويعتسّ ، ويجلس بين رجليها . قلت : أرأيت إن فعل ذلك في بيت أهلها ؟ قال : هو سواء ، وحسبه قد حرم ذلك عليه ابنتها . قلت : تحرم الربيبة ممن يصنع هذا بأمها إلا ما يحرم عليّ من أمتي إن صنعته بأمها ؟ قال : نعم سواء . قال عطاء : إذا كشف الرجل أمته وجلس بين رجليها أنهاه عن أمها وابنتها .
قال أبو جعفر : وأولى القولين عندي بالصواب في تأويل ذلك ، ما قاله ابن عباس ، من أن معنى الدخول : الجماع والنكاح ، لأن ذلك لا يخلو معناه من أحد أمرين : إما أن يكون على الظاهر المتعارف من معاني الدخول في الناس ، وهو الوصول إليها بالخلوة بها ، أو يكون بمعنى الجماع ، وفي إجماع الجميع على أن خلوة الرجل بامرأته لا يحرّم عليه ابنتها إذا طلقها قبل مسيسها ومباشرتها ، أو قبل النظر إلى فرجها بالشهوة ما يدلّ على أن معنى ذلك : هو الوصول إليها بالجماع . وإذا كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن الصحيح من التأويل في ذلك ما قلناه .
وأما قوله : { فإنْ لمْ تَكُونُوا دخَلْتُمْ بِهِنّ فَلا جُناح عَلَيْكُمْ } فإنه يقول : فإن لم تكونوا أيها الناس دخلتم بأمهات ربائبكم اللاتي في حجوركم ، فجامعتموهنّ حتى طلقتموهنّ ، { فلا جُنَاحَ عَلَيْكُم } يقول : فلا حرج عليكم في نكاح من كان من ربائبكم كذلك .
وأما قوله : { وَحَلائِلُ أبْنائِكُمْ الّذِينَ مِنْ أصْلابِكُمْ } فإنه يعني : وأزواج أبنائكم الذين من أصلابكم ، وهي جمع حليلة وهي امرأته ، وقيل : سميت امرأة الرجل حليلته ، لأنها تحلّ معه في فراش واحد . ولا خلاف بين جميع أهل العلم أن حليلة ابن الرجل حرام عليه نكاحها بعقد ابنه عليها النكاح ، دخل بها أو لم يدخل بها .
فإن قال قائل : فما أنت قائل في حلائل الأبناء من الرضاع ، فإن الله تعالى إنما حرّم حلائئل أبنائنا من أصلابنا ؟ قيل : إن حلائل الأبناء من الرضاع ، وحلائل الأبناء من الأصلاب سواء في التحريم ، وإنما قال : { وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمْ الّذِين مِنْ أصْلابِكُمْ } لأن معناه : وحلائل أبنائكم الذين ولدتموهم دون حلائل أبنائكم الذين تبنيتوهم . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء ، قوله : { وَحَلائِلُ أبْنائِكُمْ الّذِينَ مِنْ أصْلابِكُمْ } قال : كنا نُحَدّث والله أعلم أنها نزلت في محمد صلى الله عليه وسلم حين نكح امرأة زيد بن حارثة ، قال المشركون في ذلك ، فنزلت : { وَحَلائِلُ أبْنائِكمُ الّذِينَ مِنْ أصْلابِكُمْ } ، ونزلت : { وَما جَعَلَ أدْعِياءكُمْ أبْناءَكُمْ } ، ونزلت : { ما كانَ مُحَمّد أبا أحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ } .
وأما قوله : { وأنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ } فإن معناه : وحرّم عليكم أن تجمعوا بين الأختين عندكم بنكاح ، ف«أن » في موضع رفع ، كأنه قيل : والجمع بين الأختين . { إلاّ ما قدْ سلفَ } لكن ما قد مضى منكم . { فإنّ اللّهَ كانَ غفورا } لذنوب عباده إذا تابوا إليه منها . { رَحِيما } بهم فيما كلفهم من الفرائض وخفف عنهم فلم يحملهم فوق طاقتهم . يخبر بذلك جلّ ثناؤه أنه غفور لمن كان جمع بين الأختين بنكاح في جاهليته وقيل تحريمه ذلك ، إذا اتقى الله تبارك وتعالى بعد تحريمه ذلك عليه فأطاعه باجتنابه ، رحيم به وبغيره من أهل طاعته من خلقه .
{ حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت } ليس المراد تحريم ذواتهن بل تحريم نكاحهن أنه معظم ما يقصد منهن ، ولأنه المتبادر إلى الفهم كتحريم الأكل من قوله : { حرمت عليكم الميتة } ولأن ما قبله وما بعده في النكاح ، وأمهاتكم تعم من ولدتك أو ولدت من ولدك وإن علت ، وبناتكم تتناول من ولدتها أو ولدت من ولدها وإن سفلت ، وأخواتكم الأخوات من الأوجه الثلاثة . وكذلك الباقيات والعمة كل أنثى ولدها من ولد ذكرا ولدك والخالة كل أنثى ولدها من ولد أنثى ولدتك قريبا أو بعيدا ، وبنات الأخ وبنات الأخت تتناول القربى والبعدى . { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة } نزل الله الرضاعة منزلة النسب حتى سمى المرضعة أما والمرضعة أختا ، وأمرها على قياس النسب باعتبار المرضعة ووالد الطفل الذي در عليه اللبن قال عليه الصلاة والسلام : ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) . واستثناء أخت ابن الرجل وأم أخيه من الرضاع من هذا الأصل ليس بصحيح فإن حرمتهما من النسب بالمصاهرة دون النسب . { وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } ذكر أولا محرمات النسب ثم محرمات الرضاعة ، لأن لها لحمة كلحمة النسب ، ثم محرمات المصاهرة فإن تحريمهن عارض لمصلحة الزواج ، والربائب جمع ربيبة . والربيب ولد المرأة من آخر سمي به لأنه يربه كما يرب ولده في غالب الأمر ، فعيل بمعنى مفعول وإنما لحقه التاء لأنه صار اسما ومن نسائكم متعلق بربائبكم . واللاتي بصلتها صفة لها مقيدة للفظ والحكم بالإجماع قضية للنظم . ولا يجوز تعليقها بالأمهات أيضا لأن من إذا علقتها بالربائب كانت ابتدائية ، وإذا علقتها بالأمهات لم يجز ذلك بل وجب أن يكون بيانا لنسائكم والكلمة الواحدة لا تحمل على معنيين عند جمهور الأدباء اللهم إذا جعلتها للاتصال كقوله :
إذا حاولت في أسد فجورا *** فإني لست منك ولست مني
على معنى أن أمهات النساء وبناتهن متصلات بهن ، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم فرق بينهما فقال في رجل تزوج امرأة وطلقها قبل أن يدخل بها " إنه لا بأس أن يتزوج ابنتها ولا يحل له أن يتزوج أمها " . وإليه ذهب عامة العلماء ، غير أنه روي عن علي رضي الله تعالى عنه تقييد التحريم فيهما . ولا يجوز أن يكون الموصول الثاني صفة للنساءين لأن عاملهما مختلف ، وفائدة قوله { في حجوركم } تقوية العلة وتكميلها ، والمعنى أن الربائب إذا دخلتم بأمهاتهن وهن في احتضانكم أو بصدده تقوى الشبه بينها وبين أولادكم وصارت أحقاء بأن تجروها مجراهم لا تقييد الحرمة ، وإليه ذهب جمهور العلماء . وقد روي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه جعله شرطا ، والأمهات والربائب يتناولان القريبة والبعيدة ، وقوله دخلتم بهن أي دخلتم معهن الستر وهي كناية عن الجماع ، ويؤثر في حرمة المصاهرة ما ليس بزنا كالوطء بشبهة ، أو ملك يمين . وعند أبي حنيفة لمس المنكوحة ونحوه كالدخول . { فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم } تصريح بعد إشعار دفعا للقياس . { وحلائل أبنائكم } زوجاتهم ، سميت الزوجة حليلة لحلها أو لحلولها مع الزوج . { الذين من أصلابكم } احتراز عن المتبنين لا عن أبناء الولد { وأن تجمعوا بين الأختين } في موضع الرفع عطفا على المحرمات ، والظاهر أن الحرمة غير مقصورة على النكاح فإن المحرمات المعدودة كما هي محرمة في النكاح فهي محرمة في ملك اليمين ، ولذلك قال عثمان وعلي رضي الله تعالى عنهما حرمتهما آية وأحلتهما آية ، يعنيان هذه الآية . وقوله : { أو ما ملكت أيمانكم } فرجح علي كرم الله وجهه التحريم ، وعثمان رضي الله عنه التحليل . وقول علي أظهر لأن آية التحليل مخصوصة في غير ذلك ولقوله عليه الصلاة والسلام " ما اجتمع الحلال والحرام إلا غلب الحرام " { إلا ما قد سلف } استثناء من لازم المعنى ، أو منقطع معناه لكن ما قد سلف مغفور لقوله : { إن الله كان غفورا رحيما } .
تخلّص إلى ذكر المحرّمات بمناسبة ذكر تحريم نكاح ما نكح الآباء وغُيِّر أسلوب النهي فيه لأنّ ( لا تفعل ) نهي عن المضارع الدالّ على زمن الحال فيؤذن بالتلبّس بالمنهي ، أو إمكان التلبّس به ، بخلاف { حرمت } فيدلّ على أنّ تحريمه أمر مقرّر ، ولذلك قال ابن عباس : « كان أهل الجاهلية يحرّمون ما يحرّم الإسلام إلا امرأة الأب والجمعَ بين الأختين » فمن أجل هذا أيضاً نجد حكم الجمع بين الأختين عُبّر فيه بلفظ الفعل المضارع فقيل : { وأن تجمعوا بين الأختين } .
وتعلُّقُ التحريم بأسماء الذوات يُحمل على تحريم ما يُقصد من تلك الذات غالباً فنحو { حرمت عليكم الميتة } إلخ معناه حُرّم أكلها ، ونحو : حرّم الله الخمر ، أي شربها ، وفي { حرمت عليكم أمهاتكم } معناه تزوجهنّ .
والأمّهات جمع أُمَّةٍ أو أُمَّهةٍ ، والعرب أماتوا أمَّهة وأمَّه وأبقوا جمعه ، كما أبْقوا أُمّ وأماتوا جمعه ، فلم يسم منهم الأمَّا ، وورد أُمَّة نادراً في قول قول شاعر أنشده ابن كيسان :
تقبلتَها عن أمَّةٍ لكَ طَالما *** تُنوزعَ في الأسواق منها خمارُها
وورد أمهة نادراً في بيت يُعزى إلى قصي بن كلاب :
عند تناديهم بهَاللٍ وهَبي *** أمَّهَتي خِندفُ وإليَاسُ أبي
وجاء في الجمع أمَّهات بكثرة ، وجاء أمَّات قليلاً في قول جرير :
لقد ولدَ الأخيطلَ أمُّ سوء *** مقلَّدة من الأمَّات عارا
وقيل : إنّ أمَّات خاصّ بما لا يعقل ، قال الراعي :
كانت نَجَائبُ مُنْذِر ومُحَرّق *** أمَّاتهنّ وطرقُهُنّ فَحيلا
فيحتمل أنّ أصل أم أمَّا أو أمَّها فوقع فيه الحذف ثمّ أرجعوها في الجمع .
ومن غريب الاتّفاق أنّ أسماء أعضاء العائلة لم تجر على قياس مثل أب ، إذ كان على حرفين ، وأخ ، وابن ، وابنة ، وأحسب أنّ ذلك من أثر أنّها من اللُّغة القديمة التي نطق بها البشر قبل تهذيب اللغة ، ثمّ تطوّرت اللُّغةُ عليها وهي هي . والمراد من الأمهات وما عطف عليها الدنيا وما فوقها ، وهؤلاء المحرّمات من النسب ، وقد أثبت الله تعالى تحريم مَنْ ذكَرَهنّ ، وقد كنّ محرّمات عند العرب في جاهليتها ، تأكيداً لذلك التحريم وتغليظاً له ، إذ قد استقرّ ذلك في الناس من قبل ، فقد قالوا ما كانت الأمّ حلالا لابنها قطّ من عهد آدم عليه السلام ، وكانت الأخت التوأمة حراماً وغيرُ التوامة حلالا ، ثمّ حرّم الله الأخوات مطلقاً من عهد نوح عليه السلام ، ثم حرّمت بنات الأخ ، ويوجد تحريمهنّ في شريعة موسى عليه السلام ، وبقي بنات الأخت حلالا في شريعة موسى ، وثبت تحريمهنّ عند العرب في جاهليتها فيما روى ابن عطية في تفسيره ، عن ابن عباس : أنّ المحرّمات المذكورات هنا كانت مُحرّمة في الجاهلية ، إلاّ امرأة الأب ، والجمعَ بين الأختين . ومثله نقله القرطبي عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة مع زيادة توجيه ذكر الاستثناء بقوله : { إلا ما قد سلف } في هذبن خاصة ، وأحسب أن هذا كلّه توطئة لتأويل الاستثناء في قول { إلا ما قد سلف } بأنّ معناه : إلاّ ما سلف منكم في الجاهلية فلا إثم عليكم فيه ، كما سيأتي ، وكيف يستقيم ذلك فقد ذكر فيهنّ تحريم الربائب والأخوات من الرضاعة ، ولا أحسبهنّ كنّ محرّمات في الجاهلية .
واعلم أنّ شريعة الإسلام قد نوّهت ببيان القرابة القريبة ، فغرست لها في النفوس وقارا ينزّه عن شوائب الاستعمال في اللَّهو والرفث ، إذ الزواج ، وإن كانّ غرضاً صالحاً باعتبار غايته ، إلاّ أنّه لا يفارق الخاطرَ الأوّل الباعث عليه ، وهو خاطر اللهو والتلذّذ .
فوقار الولادة ، أصلا وفرعا ، مانع من محاولة اللهو بالوالدة أو المولودة ، ولذلك اتّفقت الشرائع على تحريمه ، ثم تلاحق ذلك في بنات الإخوة وبنات الأخوات ، وكيف يسري الوقار إلى فرع الأخوات ولا يثبت للأصل ، وكذلك سرى وَقار الآباء إلى أخوات الآباء ، وهنّ العمّات ، ووقار الأمّهات إلى أخواتهنّ وهنّ الخالات ، فمرجع تحريم هؤلاء المحرّمات إلى قاعدة المروءة التابعة لكليّة حفظ العِرض ، من قسم المناسب الضروري ، وذلك من أوائل مظاهر الرقي البشري . و ( ال ) في قوله : { وبنات الأخ وبنات الأخت } عوض عن المضاف إليه أي بنات أخيكم وبنات أختكم .
وقوله : { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم } سمّى المراضع أمهّات جريا على لغة العرب ، وما هنّ بأمّهات حقيقة . ولكنهنّ تنزّلن منزلة الأمّهات لأنّ بلبانهنّ تغذّت الأطفال ، ولما في فطرة الأطفال من محبّة لمرضعاتهم محبّة أمّهاتهم الوالدات ، ولزيادة تقرير هذا الإطلاق الذي اعتبره العرب ثم ألحق ذلك بقوله : { اللاتي أرضعنكم } دفعاً لتوهّم أنّ المراد الأمّهات إذ لو لا قصد إرادة المرضعات لما كان لهذا الوصف جدوى .
وقد أجملت هنا صفةُ الإرضاع ومدّتُه وعدَده إيكالا للناس إلى متعارفهم . وملاك القول في ذلك : أنّ الرضاع إنّما اعتبرت له هذه الحرمة لمعنى فيه وهو أنّه الغذاء الذي لا غذاء غيره للطفل يعيش به ، فكان له من الأثر في دوام حياة الطفل ما يماثل أثَر الأمّ في أصل حياة طفلها . فلا يعتبر الرضاع سبباً في حرمة المرضع على رضيعها إلاّ ما استوفى هذا المعنى من حصول تغذية الطفل وهو ما كان في مدّة عدم استغناء الطفل عنه ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم « إنّما الرضاعة من المجاعة » . وقد حدّدت مدّة الحاجة إلى الرضاع بالحولين لقوله تعالى : { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } وقد تقدّم في سورة البقرة ( 233 ) . ولا اعتداد بالرضاع الحاصل بعد مضي تجاوز الطفل حولين من عمره ، بذلك قال عمر بن الخطاب ، وابن مسعود ، وابن عباس ، والزهري ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، والأوزاعي ، والثوري ، وأبو يوسف ، وقال أبو حنيفة : المدّة حولان وستّة أشهر . وروى ابن عبد الحكم عن مالك : حولان وأيّام يسيرة . وروى ابن القاسم عنه : حولان وشهران . وروى عنه الوليدُ بن مسلم : والشهران والثلاثة .
والأصحّ هو القول الأوّل ؛ ولا اعتداد برضاع فيما فوق ذلك ، وما روي أنّ النبي أمر سَهْلَة بنتَ سُهيل زوجةَ أبي حُذيفة أن ترضع سالماً مولى أبي حذيفة لمّا نزلت آية { وما جعل أدعياءكم أبناءكم } [ الأحزاب : 4 ] إذ كان يدخل عليها كما يدخل الأبناء على أمّهاتهم ، فتلك خصوصيّة لها ، وكانت عائشة أمّ المؤمنين إذا أرادت أن يدخل عليها أحد الحجابَ أرضعتْه ، تأوّلت ذلك من إذن النبي صلى الله عليه وسلم لِسَهْلة زوج أبي حذيفة ، وهو رأي لم يوافقها عليه أمّهات المؤمنين ، وأبَيْن أن يدخل أحد عليهنّ بذلك ، وقال به الليث بن سعد ، بإعمال رضاع الكبير . وقد رجع عنه أبو موسى الأشعري بعد أن أفتى به .
وأمَّا مقدار الرضاع الذي يحصل به التحريم ، فهو ما يصدق عليه اسم الرضاع وهو ما وصل إلى جوف الرضيع في الحولين ولو مصَّة واحدة عند أغلب الفقهاء ، وقد كان الحكم في أوّل أمر التحريم أن لا تقع الحرمة إلاّ بعشر رضعات ثمّ نسخن بخمس ، لحديث عائشة « كان فيما أنزل الله عشرُ رضعات معلومات يحرّمْن ثمّ نسخن بخمس معلومات فتوفيّ رسول الله وهي فيما يقرأ من القرآن » وبه أخذ الشافعي . وقال الجمهور : هو منسوخ ، وردّوا قولها ( فتوفّي رسول الله وهي فيما يُقرأ ) بنسبة الراوي إلى قلّة الضبط لأنّ هذه الجملة مسترابة إذ أجمع المسلمون على أنها لا تقرأ ولا نسخ بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا فطم الرضيع قبل الحولين فظاما استغنى بعده عن لبن المرضع بالطعام والشراب لم تحرم عليه من أرضعته بعد ذلك .
وقوله تعالى : { وأخواتكم من الرضاعة } إطلاق اسم الأخت على التي رضعت من ثدي مرضعة من أضيفت أخت إليه جرى على لغة العرب ، كما تقدّم في إطلاق الأمّ على المرضع . والرضاعة بفتح الراء اسم مصدر رضع ، ويجوز كسر الراء ولم يقرأ به . ومحلّ { من الرضاعة } حال من { أخواتكم } و ( من ) فيه للتعليل والسببية ، فلا تعتبر أخوَّة الرضاعة إلاّ برضاعة البنت من المرأة التي أرضعت الولد .
وقوله : { وأمهات نسائكم } هؤلاء المذكورات إلى قوله : { وأن تجمعوا بين الأختين } هنّ المحرّمات بسبب الصِّهر ، ولا أحسب أنّ أهل الجاهلية كانوا يحرّمون شيئاً منها ، كيف وقد أباحوا أزواج الآباء وهنّ أعظم حرمة من جميع نساء الصهر ، فكيف يظنّ أنهم يحرّمون أمّهات النساء والربائب وقد أشيع أنّ النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يتزوّج دُرّةَ بنتَ أبي سَلَمة وهي ربيبته إذ هي بنت أمّ سلمة ، فسألته إحدى أمّهات المؤمنين فقال : " لو لم تكن ربيبتي لما حلّت لي إنها ابنة أخي من الرضاعة أرضعتني وأبَا سَلَمة ثويبة " وكذلك حلائل الأبناء إذ هنّ أبعدُ من حلائل الآباء ، فأرى أنّ هذا من تحريم الإسلام وأنّ ما حكى ابن عطية عن ابن عباس ليس على إطلاقه .
وتحريم هؤلاء حكمته تسهيل الخلطة ، وقطع الغيرة ، بين قريب القرابة حتّى لا تفضي إلى حزازات وعداوات ، قال الفخر : « لو لم يدخل على المرأة أبو الرجل وابنه ، ولم تدخل على الرجل امرأتُه وابنتها ، لبقيت المرأة كالمحبوسة . ولتعطّل على الزوج والزوجة أكثر المصالح ، ولو كان الإذن في دخول هؤلاء دون حكم المحرمية فقد تمتدّ عين البعض إلى البعض وتشتدّ الرغبة فتحصل النفرة الشديدة بينهنّ ، والإيذاء من الأقارب أشدّ إيلاماً ، ويترتّب عليه التطليق ، أمّا إذا حصلت المحرمية انقطعت الأطماع ، وانحبست الشهوة ، فلا يحصل ذلك الضرر ، فيبقى النكاح بين الزوجين سليماً عن هذه المفسدة » قلت : وعليه فَتحريم هؤلاء من قسم الحاجيّ من المناسب .
والربائب جمع ربيبة ، وهي فعلية بمعنى مفعولة ، من ربَّه إذا كفله ودبّر شؤونه ، فزوج الأمّ رابٌّ وابنتها مربوبة له ، لذلك قيل لها ربيبة .
والحُجور جمع حِجْر بفتح الحاء وكسرها مع سكون الجيم وهو ما يحويه مجتمع الرّجلين للجالس المتربّع . والمراد به هنا معنى مجازي وهو الحضانة والكفالة ، لأنّ أوّل كفالة الطفل تكون بوضعه في الحَجر ، كما سمّيت حضانة ، لأنّ أوّلها وضع الطفل في الحضن .
وظاهر الآية أنّ الربيبة لا تحرم على زوج أمّها إلاّ إذا كانت في كفالته ، لأن قوله { اللاتي في حجوركم } وصف والأصل فيه إرادة التقييد كما أريد من قوله : { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم } فظاهر هذا أنّها لو كانت بعيدة عن حضانته لم تحرم . ونسب الأخذ بهذا الظاهر إلى علي بن أبي طالب ، رواه ابن عطية ، وأنكر ابن المنذر والطحاوي صحّة سند النقل عن علي ، وقال ابن العربي : إنّه نَقْل باطل . وجزم ابن حزم في المحلَّى بصحّة نسبة ذلك إلى علي بن أبي طالب وعمرَ بن الخطاب . وقال بذلك الظاهرية ، وكأنّهم نظروا إلى أنّ علّة تحريمها مركّبة من كونها ربيبة وما حدث من الوقار بينها وبين حاجرها إذا كانت في حجره وأمّا جمهور أهل العلم فجعلوا هذا الوصف بيانا للواقع خارجاً مخرج الغالب ، وجعلوا الربيبة حراماً على زوج أمّها ، ولو لم تكن هي في حجره . وكأنّ الذي دعاهم إلى ذلك هو النظر إلى علّة تحريم المحرّمات بالصهر ، وهي التي أشار إليها كلام الفخر المتقدّم . وعندي أنّ الأظهر أنّ يكون الوصف هنا خرج مخرج التعليل : أي لأنهنّ في حجوركم ، وهو تعليل بالمظنّة فلا يقتضي اطّراد العلّة في جميع مواقع الحكم .
وقوله : { من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } ذكر قوله : { من نسائكم } ليُبنى عليه { اللاتي دخلتم بهن } وهو قيد في تحريم الربائب بحيث لا تحرم الربيبة إلاّ إذا وقع البناء بأمّها ، ولا يحرّمها مجرّد العقد على أمّها ، وهذا القيد جرى هنا ولم يجر على قوله : { وأمهات نسائكم } بل أطلق الحكم هناك ، فقال الجمهور هناك : أمّهات نسائكم معناه أمّهات أزواجكم ، فأمّ الزوجة تحرم بمجرد عقد الرجل على ابنتها لأنّ العقد يصيرّها امرأته ، ولا يلزم الدخول ولم يحْمِلوا المطلق منه على المقيَّد بعده ، ولا جعلوا الصفة راجعة للمتعاطفات لأنّها جرت على موصوف مُتعيِّنٍ تعلّقه بأحد المتعاطفات ، وهو قوله : { من نسائكم } المتعلق بقوله : وربائبكم ولا يصلح تعلّقه ب { أمّهات نسائكم } .
وقال علي بن أبي طالب ، وزيدُ بن ثابت ، وابنُ عمر ، وعبد الله بن عبّاس ، ومجاهد ، وجابر ، وابن الزبير : لا تحرم أمّ المرأة على زوج ابنتها حتّى يدخل بابنتها حملا للمطلق على المقيّد ، وهو الأصحّ مَحملاً . ولم يستطع الجمهور أن يوجّهوا مذهبهم بعلّة بيّنة ، ولا أن يستظهروا عليه بأثر . وعلّة تحريم المرأة على زوج ابنتها تساوي علّة تحريم ربيبة الرجل عليه ، ويظهر أنّ الله ذكر أمّهات النساء قبل أن يذكر الربائب ، فلو أراد اشتراط الدخول بالأمّهات في تحريمهنّ على أزواج بناتهنّ لذكره في أوّل الكلام قبل أن يذكره مع الربائب .
وهنالك رواية عن زيد بن ثابت أنّه قال : إذا طلّق الأمّ قبل البناء فله التزوّج بابنتها ، وإذا ماتت حَرُمت عليه ابنتُها . وكأنّه نظر إلى أنّ الطلاق عدول عن العقد ، والموت أمر قاهر ، فكأنّه كان ناوياً الدخول بها ، ولا حظّ لهذا القول .
وقوله : { وحلائل أبنائكم } الحلائل جمع الحليلة فعيلة بمعنى فاعلة ، وهي الزوجة ، لأنّها تحِلّ معه ، وقال الزجّاج : هي فعيلة بمعنى مفعولة ، أي محلّلة إذ أباحها أهلها له ، فيكون من مجيء فعيل للمفعول من الرباعي في قولهم حكيم ، والعدول عن أن يقال : ومَا نكح أبناؤكم أو ونساء أبنائكم إلى قوله : { وحلائل أبنائكم } تفنّن لتجنّب تكرير أحد اللفظين السابقين وإلاّ فلا فرق في الإطلاق بين الألفاظ الثلاثة .
وقد سُمي الزوج أيضاً بالحليل وهو يحتمل الوجهين كذلك . وتحريم حليلة الابن واضح العلّة ، كتحريم حليلة الأب .
وقوله : { الذين من أصلابكم } تأكيد لمعنى الأبناء لدفع احتمال المجاز ، إذ كانت العرب تسمّي المتبنَّى ابناً ، وتجعل له ما للابن ، حتّى أبطل الإسلام ذلك وقوله تعالى : { ادعوهم لآبائهم } [ الأحزاب : 5 ] فما دُعي أحد لمتبنّيه بعدُ ، إلاّ المقداد بن الأسود وعُدّت خصوصيّة . وأكّد الله ذلك بالتشريع الفعلي بالإذن لرسوله صلى الله عليه وسلم بتزوّج زينب ابنة جحش ، بعد أن طلّقها زيد بن حارثة الذي كان تبنّاه ، وكان يُدعى زيد بن محمد . وابن الابن وابن البنت ، وإن سفلا ، أبناء من الأصلاب لأنّ للجدّ عليهم ولادة لا محالة .
وقوله : { وأن تجمعوا بين الأختين } هذا تحريم للجمع بين الأختين فحكمته دفع الغيرة عمّن يريد الشرع بقاء تمام المودّة بينهما ، وقد علم أنّ المراد الجمع بينهما فيما فيه غيرة ، وهو النكاح أصالة ، ويلحق به الجمع بينهما في التسرّي بملك اليمين ، إذ العلّة واحدة فقوله تعالى : { وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم } وقوله :
{ إلا ما ملكت أيمانكم } [ النساء : 24 ] يخصّ بغير المذكورات . وروي عن عثمان بن عفّان : أنّه سئل عن الجمع بين الأختين في التسري فقال : « أحلتهما » آية يعني قوله تعالى : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } وحرّمتهما آية يعني هذه الآية ، أي فهو متوقّف . وروي مثله عن علي ، وعن جمع من الصحابة ، أنّ الجمع بينهما في التسرّي حرام ، وهو قول مالك . قال مالك « فإن تسرّى بإحدى الأختين ثمّ أراد التسرّي بالأخرى وقف حتى يحرّم الأولى بما تحرم به من بيع أو كتابة أو عتق ولا يحدّ إذا جمع بينهما » . وقال الظاهرية : يجوز الجمع بين الأختين في التسرّي لأنّ الآية واردة في أحكام النكاح ، أمّا الجمع بين الأختين في مجرَّد الملك فلا حظر فيه .
وقوله : { إلا ما قد سلف } هو كنظيره السابق ، والبيان فيه كالبيان هناك ، بيد أنّ القرطبي قال هنا : ويحتمل معنى زائداً وهو جواز ما سلف وأنّه إذا جرى الجمع في الجاهلية كان النكاح صحيحاً وإذا جرى الجمع في الإسلام خيّر بين الأختين من غير إجراء عقود الكفّار على مقتضى الإسلام ، ولم يعزُ القول بذلك لأحد من الفقهاء .
وقوله : { إن الله كان غفوراً رحيماً } يناسب أن يكون معنى { إلا ما قد سلف } تقرير ما عقدوه من ذلك في عهد الجاهلية ، فالمغفرة للتجاوز عن الاستمرار عليه ، والرحمة لبيان سبب ذلك التجاوز .