والمراد بالوراثة فى قوله { يَرِثُنِي } وراثة العلم والنبوة والصفات الحميدة .
قال الإمام ابن كثير ما ملخصه : " وقوله : { وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآئِي } قرأ الأكثرون بنصب الياء من الموالى على أنه مفعول ، وعن الكسائى أنه سكن الياء . . .
ووجه خوفه أنه خشى أن يتصرفوا من بعده فى الناس تصرفاً سيئاً . فسأل الله ولداً يكون نبيا من بعده ليسوسهم بنبوته . . . لا أنه خشى من وراثتهم له ماله . فإن النبى أعظم منزلة وأجل قدراً من أن يشفق على ماله إلى هذا الحد ، وأن يأنف من وراثة عصبته له ، ويسأل أن يكون له ولد ليحوز ميراثه دونهم .
وقد ثبت فى الصحيحين من غير وجه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا نورث ما تركنا صدقة " وفى رواية عند الترمذى بإسناد صحيح : " نحن معاشر الأنبياء لا نورث " .
وعلى هذا فتعين حمل قوله { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي } على ميراث النبوة ولهذا قال : { وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } كقوله : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } أى : فى النبوة ، إذ لو كان فى الال لما خصه من بين إخوته بذلك ، ولما كان فى الإخبار بذلك كبير فائدة ، إذ من المعلوم المستقر فى جيمع الشرائع والملل ، أن الولد يرث أباه ، فلولا أنها وراثة خاصة لما أخبر بها ، وكل هذا يقرره ويثبته ما صح فى الحديث : " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، ما تركنا فهو صدقة " .
وقال بعض العلماء ما ملخصه : ومعنى { يَرِثُنِي } أى : إرث علم ونبوة ، ودعوة إلى الله والقيام بدينه ، لا إرث مال ، ويدل لذلك أمران :
أحدهما قوله : { وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } ومعلوم أن آل يعقوب انقرضوا من زمان ، فلا يورث عنهم إلا العلم والنبوة والدين .
والأمر الثانى ما جاء من الأدلة أن الأنبياء - صلولات الله وسلامه عليهم - لا يورث عنهم المال ، وإنما يورث عنهم العلم والدين ، فمن ذلك ما أخرجه الشيخان عن أبى بكر الصديق أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا نورث ما تركنا صدقة " .
وقوله : يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ يقول : يرثني من بعد وفاتي مالي ، ويرث من آل يعقوب النبوّة ، وذلك أن زكريا كان من ولد يعقوب . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح ، قوله يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ يقول : يرث مالي ، ويرث من آل يعقوب النبوّة .
حدثنا مجاهد ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا إسماعيل ، عن أبي صالح في قوله يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ قال : يرث مالي ، ويرث من آل يعقوب النبوّة .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ، في قوله يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ قال : يرثني مالي ، ويرث من آل يعقوب النبوّة .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ، في قوله يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ قال : يكون نبيا كما كانت اباؤه أنبياء .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ قال : وكان وارثته علما ، وكان زكريا من ذرّية يعقوب .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : كان وارثته علما ، وكان زكريا من ذرية يعقوب .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن الحسن ، في قوله : يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ قال : نبوّته وعلمه .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، عن مبارك ، عن الحسن ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «رَحِمَ اللّهُ أخِي زَكَرِيّا ، ما كانَ عَلَيْهِ مِنْ وَرَثَةِ مالِهِ حِينَ يَقُولُ فَهَبْ لي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّا ، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ قال : كان الحسن يقول : يرث نبوّته وعلمه . قال قتادة : ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الاَية ، وأتى على يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ قال : «رحم الله زكريا ما كان عليه من ورثته » .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «يَرْحَمُ اللّهُ زَكَرِيّا وَما كانَ عَلَيْهِ مِنْ وَرَثَتِهِ ، وَيَرْحَمُ اللّهُ لُوطا إنْ كانَ لَيَأْوِي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ » .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ فَهَبْ لي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ قال : يرث نبوّتي ونبوّة آل يعقوب .
واختلف القرّاء في قراءة قوله : يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ فقرأت ذلك عامّة قرّاء المدينة ومكة وجماعة من أهل الكوفة : يَرِثُنِي وَيَرِثُ برفع الحرفين كليهما ، بمعنى : فهب الذي يرثني ويرث من آل يعقوب ، على أن يرثني ويرث من آل يعقوب ، من صلة الوليّ . وقرأ ذلك جماعة من قرّاء أهل الكوفة والبصرة : «يَرِثْنِي ويَرِثْ » بجزم الحرفين على الجزاء والشرط ، بمعنى : فهب لي من لدنك وليا فإنه يرثني إذا وهبته لي . وقال الذين قرأوا ذلك كذلك : إنما حسُن ذلك في هذا الموضع ، لأن يرثني من آية غير التي قبلها . قالوا : وإنما يحسُن أن يكون مثل هذا صلة ، إذا كان غير منقطع عما هو له صلة ، كقوله : رِدْءا يُصَدّقُنِي .
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين عندي في ذلك بالصواب قراءة من قرأه برفع الحرفين على الصلة للوليّ ، لأنّ الوليّ نكرة ، وأن زكريا إنما سأل ربه أن يهب له وليا يكون بهذه الصفة ، كما رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا أنه سأله وليا ، ثم أخبر أنه إذا وهب له ذلك كانت هذه صفته ، لأن ذلك لو كان كذلك ، كان ذلك من زكريا دخولاً في علم الغيب الذي قد حجبه الله عن خلقه .
وقوله : وَاجْعَلْهُ رَبّ رَضِيّا يقول : واجعل يا ربّ الوليّ الذي تهبه لي مرضيا ترضاه أنت ويرضاه عبادك دينا وخُلُقا وخَلْقا . والرضي : فعيل صرف من مفعول إليه .
{ يرثني ويرث من آل يعقوب } صفتان له وجزمهما أبو عمرو والكسائي على أنهما جواب الدعاء ، والمراد وراثة الشرع والعلم فإن الأنبياء لا يورثون المال . وقيل يرثني الحبورة فإنه كان حبرا ، ويرث من آل يعقوب الملك ، وهو يعقوب بن إسحاق عليهما الصلاة والسلام . وقيل يعقوب كان أخا زكريا أو عمران بن ماثان من نسل سليمان عليه السلام . وقرئ " يرثني وارث آل يعقوب " على الحال من أحد الضميرين ، وأو " يرث " بالتصغير لصغره ووارث من آل يعقوب على أنه فاعل يرثني وهذا يسمى التجريد في علم البيان لأنه جرد عن المذكور أولا مع أنه المراد { واجعله رب رضيا } ترضاه قولا وعملا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.