بعد كل ذلك أخذت السورة الكريمة في بيان الاسباب التي أوجبت البراءة من عهود المشركين ، والحِكَم التي من أجلها أمر الله بقتالهم والتضييق عليهم فقال - تعالى - : { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ . . . لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } .
وقوله - سبحانه - : { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله وَعِندَ رَسُولِهِ } الاستفهام فيه للانكار والاستبعاد لأن يكون للمشركين عهد . وهو إنكار للوقوع لا للواقع . أى ؛ تحذير للمؤمنين من أن يقع منهم ذلك في المستقبل .
والمراد بالمشركين أولئك الذين نقضوا عهودهم ، لأن البراءة إنما هي في شأنهم والعهد : ما يتفق شخصان او طائفتان من الناس على التزامه بينهما ، فإن أكداه ووثقاه بما يقتضى زيادة العناية بالوفاء به سمى ميثاقا ، لاشتقاقه من الوثاق - بفتح الواو - وهو الحبل أو القيد . وإن أكداه بالميمين خاصة سمى يمينا .
ومسى بذلك لوضع كل من المتعاقدين يمينه في يمين الآخر عند عقده .
والمعنى : لا ينبغى ولا يجوز أن يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله لأن هؤلاء المشركين لا يدينون لله بالعبودية ، ولا لرسوله بالطاعة ، ولأنهم قوم دأبهم الخيانة . وعادتهم الغدر ، ومن كان كذلك لا يكون له عهد عند الله ولا عند رسوله .
قالوا : وفى توجيه الإِنكار إلى كيفية ثبوت العهد من المبالغة ما ليس في توجيهه إلى ثبوته ، لأن كل موجود يجب أن يكون وجوده على حال من الأحوال ، فإذا انتفت جميع أحوال وجوده ، فقد انتفى وجوده بالطريق البرهانى . وتكرير كلمة { عِندَ } للايذان بعدم الاعتداء بعهودهم عند كل من الله - تعالى - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - على حدة .
و { يَكُونُ } من الكون التام و { كَيْفَ } محلها النصب على التشبيه بالحال أو الظرف . أو من الكون الناقص فيكون قوله { عَهْدٌ } اسمها ، وقوله { كَيْفَ } خبرها وهو واجب التقديم ، لأن الاستفهام له صدر الكلام .
وقوله : { إِلاَّ الذين عَاهَدْتُمْ عِندَ المسجد الحرام فَمَا استقاموا لَكُمْ فاستقيموا لَهُمْ . . } استثناء من المشركين الذين استنكرت الآية أن تكون لهم عهود عند الله وعند رسوله .
والمراد بالمشركين الذين استثنوا هنا : أولئك الذين سبق الحديث عنهم في قوله - تعالى - قبل ذلك { إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ } وهم - كما رجحه ابن جرير والخازن - بنو خزيمه وبنو مدلج وبنو مضرة من قبائل بنى بكر ، وكانوا قد وفوا بعهودهم مع المسلمين .
وأيد ذكر استثنائهم هنا ، لتأكيد هذا الحكم وتقريره .
والمراد بالمسجد الحرام : جميع الحرم ، فيكون الكلام على حذف مضاف .
والتعرض لكون المعاهدة عند المسجد الحرام ، لزيادة بيان اصحابها ، وللإِشعار بسبب وجوب الوفاء بها .
والمعنى : لا ينبغى ولا يصح أن يكون للشمركين عهد عند الله وعند رسوله ، لكن الذين عاهدتموهم - أيها المؤمنون - عند المسجد الحرام من المشركين ولم ينقضوا عهودهم { فَمَا استقاموا لَكُمْ فاستقيموا لَهُمْ } .
أى : فاستقيموا لهم مدة استقامتهم لكم ، فتكون { مَا } مصدرية منصوبة المحل على الظرفية .
ويصح أن تكون شرطية وعائدة محذوف فيكون المعنى : فأى زمان استقاموا لكم فيه فاستقيموا لهم ، إذ لا يجوز أن يكون نقض العهد من جهتكم .
وقوله : { إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين } تذييل قصد به التعليل لوجوب الامتثال ، وتبيين أن الوفاء بالعهد إلى مدته مع الموفين بعهدهم من تقوى الله التي يحبها لعباده ، ويحبهم بسبب تمسكهم بها .
هذا ، وقد أخذ العلماء من هذه الآية : ان العهد المعتد به في شريعة الإِسلام ، هو عهد الأوفياء غير الناكثين ، وأن من استقام على عهده عاملناه بمقتضى استقامته ، وأن الالتزام بالعهود من تقوى الله التي يحبها لعباده .
القول في تأويل قوله تعالى : { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاّ الّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتّقِينَ } .
يقول تعالى ذكره : أنى يكون أيها المؤمنون بالله ورسوله ، وبأيّ معنى يكون للمشركين بربهم عهد وذمة عند الله وعند رسوله ، يوفي لهم به ، ويتركوا من أجله آمنين يتصرفون في البلاد وإنما معناه : لا عهد لهم ، وأن الواجب على المؤمنين قتلهم حيث وجدوهم إلا الذين أعطوا العهد عند المسجد الحرام منهم ، فإن الله جلّ ثناؤه أمر المؤمنين بالوفاء لهم بعهدهم والاستقامة لهم عليه ، ما داموا عليه للمؤمنين مستقيمين .
واختلف أهل التأويل في الذين عُنوا بقوله : إلاّ الّذَينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ المَسّجِدِ الحَرَامِ فقال بعضهم : هم قوم من جذيمة بن الديل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : كَيْفَ يَكُونُ للْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إلاّ الّذِينَ عاهدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فاسْتَقِيمُوا لَهُمْ هم بنو جذيمة بن الديل .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن محمد بن عباد بن جعفر ، قوله : إلاّ الّذَينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ قال : هم جذيمة بكر من كنانة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : كَيْفَ يَكُونُ للْمُشْرِكِينَ الذين كانوا وأنتم على العهد العام بأن لا تمنعوهم ولا يمنعوكم من الحرم ولا في الشهر الحرام ، عَهْدٌ عِنْدَ اللّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إلاّ الّذِينَ عاهدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وهي قبائل بني بكر الذين كانوا دخلوا في عهد قريش وعقدتم يوم الحديبية إلى المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش ، فلم يكن نقضَها إلا هذا الحيّ من قريش وبنو الديل من بكر ، فأمر بإتمام العهد لمن لم يكن نقض عهده من بني بكر إلى مدته فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ . . . الآية .
وقال آخرون : هم قريش . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، قوله : إلاّ الّذِينَ عاهدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ هم قريش .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : إلاّ الّذِينَ عاهدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ يعني : أهل مكة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : إلاّ الّذِينَ عاهدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ يقول : هم قوم كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم مدة ، ولا ينبغي لمشرك أن يدخل المسجد الحرام ولا يعطي المسلم الجزية . فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فاسْتَقِيمُوا لَهُمْ يعني : أهل العهد من المشركين .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إلاّ الّذِينَ عاهدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فاسْتَقِيمُوا لَهُمْ قال : هؤلاء قريش . وقد نسخ هذا الأشهر التي ضربت لهم ، وغدروا بهم فلم يستقيموا ، كما قال الله فضرب لهم بعد الفتح أربعة أشهر يختارون من أمرهم : إما أن يسلموا ، وإما أن يلحقوا بأيّ بلاد شاءوا قال : فأسلموا قبل الأربعة الأشهر ، وقبل قَتْلٍ .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر عن قتادة : إلاّ الّذِينَ عاهدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فاسْتَقِيمُوا لَهُمْ قال : هم قوم جذيمة . قال : فلم يستقيموا ، نقضوا عهدهم أي أعانوا بني بكر حلف قريش على خزاعة حلف النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال آخرون : هم قوم من خزاعة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : إلاّ الّذِينَ عاهدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ قال : أهل العهد من خزاعة .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب عندي قول من قال : هم بعض بني بكر من كنانة ، ممن كان أقام على عهده ولم يكن دخل في نقض ما كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش يوم الحديبية من العهد مع قريش حين نقضوه بمعونتهم حلفاءهم من بني الديل على حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من خزاعة .
وإنما قلت هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب لأن الله أمر نبيه والمؤمنين بإتمام العهد لمن كانوا عاهدوه عند المسجد الحرام ، ما استقاموا على عهدهم . وقد بينا أن هذه الاَيات إنما نادى بها عليّ في سنة تسع من الهجرة ، وذلك بعد فتح مكة بسنة ، فلم يكن بمكة من قريش ولا خزاعة كافر يومئذ بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فيؤمر بالوفاء له بعهده ما استقام على عهده ، لأن من كان منهم من ساكني مكة كان قد نقض العهد وحورب قبل نزول هذه الاَيات .
وأما قوله : إنّ اللّهَ يُحِبّ المُتّقِينَ فإن معناه : إن الله يحبّ من اتقى وراقبه في أداء فرائضه ، والوفاء بعهده لمن عاهده ، واجتناب معاصيه ، وترك الغدر بعهوده لمن عاهده .
{ كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله } استفهام بمعنى الإنكار والاستبعاد لأن يكون لهم عهد ولا ينكثوه مع وغرة صدورهم ، أو لأن يفي الله ورسوله بالعهد وهم نكثوه ، وخبر يكون كيف وقدم للاستفهام أو للمشركين أو عند الله وهو على الأولين صفة لل { عهد } أو ظرف له أو ل { يكون } ، و{ كيف } على الأخيرين حال من ال { عهد } و{ للمشركين } إن لم يكن خبرا فتبيين . { إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام } هما المستثنون قبل ومحله النصب على الاستثناء أو الجر على البدل أو الرفع على أن الاستثناء منقطع أي : ولكن الذين عاهدتم منهم عند المسجد الحرام . { فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم } أي فتربصوا أمرهم فإن استقاموا على العهد فاستقيموا على الوفاء وهو كقوله { فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم } غير أنه مطلق وهذا مقيد وما تحتمل الشرطية والمصدرية { إن الله يحب المتقين } سبق بيانه .