التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَءَاتَىٰكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلۡتُمُوهُۚ وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآۗ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَظَلُومٞ كَفَّارٞ} (34)

ثم ختم - سبحانه - هذه النعم بقوله { وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ . . }

أى : وأعطاكم - فضلا عما تقدم من النعم - بعضا من جميع ما سألتموه إياه من نعم ، على حسب ما تقتضيه إرادته وحكمته التى لا تعلمونها كما قال - تعالى - { وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض ولكن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ } قال الجمل ما ملخصه " قوله { وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } أى : كل نوع أو كل صنف سألتموه أى : شأنكم أن تسألوه لاحتياجكم إليه ، وإن لم تسألوه بالفعل .

وفى " من " قولان : أحدهما أنها زائدة فى المفعول الثانى ، أى : آتاكم كل ما سألتموه .

والثانى أن تكون تبعيضية أى : وآتاكم بعض جميع ما سألتموه وعلى هذا فالمفعول محذوف تقديره : وآتاكم شيئسا من كل ما سألتموه ، وهو رأى سيبويه . . "

وجملة { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا } مؤكدة لمضمون ما قبلها .

أى : وإن تحاولوا عد نعم الله عليكم ، وتحاولوا تحديد هذا العدد ، لن تستطيعوا ذلك لكثرة هذه النعم ، وخفاء بعضه عليكم .

والإِحصاء : ضبط العدد وتحديده ، مأخوذ من الحصا وهو صغار الحجارة لأن العرب كانوا يعدون الأعداد الكثيرة بالحصى تجنبا للخطأ .

قال ابن كثير : " يخبر - سبحانه - عن عجز العباد من تعداد نعمه فضلا عن القيام بشكرها ، كما قال طلق بن حبيب - رحمه الله - : إن حق الله أثقل من أن يقوم به العباد وإن نعم الله أكثر من يحصيها العباد ولكن أصبحوا توابين وأمسوا توابين " .

وفى صحيح البخاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : " لك الحمد غير مكفى - أى لم يكفه غيره بل هو - سبحانه - يكفى غيره - ولا مودع - أى متروك حمده - ، ولا مستغنى عنه ربنا - أى هو الذى يحتاج إليه الخلق . . " .

والمراد بالإِنسان فى قوله { إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } نوع معين منه وهو الكافر كما فى قوله - تعالى - { وَيَقُولُ الإنسان أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً } أى : إن الإِنسان الكافر لشديد الظلم لنفسه بعبادته لغير الله - تعالى - ، ولشديد الجحود والكفران لنعمه - عز وجل .

قال الشوكانى : قوله - سبحانه : { إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ } أى لنفسه بإغفاله لشكر نعم الله عليه ، وظاهره شمول كل إنسان ، وقال الزجاج : إن الإِنسان هنا اسم جنس يقصد به الكافر خاصة ، كما فى قوله - تعالى - { والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ } " كفار " أى : شديد كفران نعم الله عليه ، جاحد لها ، غير شاكر لله عليها كما ينبغى ويجب عليه .

وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد ابتدأت ببيان سوء عاقبة الذين بدلوا نعمة الله كفرا ، وثنت بأمر النبى - صلى الله عليه وسلم - بأن يحض المؤمنين الصادقين على الاستزادة من إقامة الصلاة ومن الانفاق فى سبيل الله .

ثم ساقت عشر نعم تدل دلالة واضحة على وحدانية الله - تعالى - وعلمه وقدرته ، وهذه النعم هى خلق السموات والأرض ، وإنزال المطر من السماء ، وإخراج الثمرات به ، وتسخير الفلك فى البحار ، وتسخير الأنهار ، وتسخير الليل والنهار .

ثم ختمت ببيان أنه - سبحانه - قد أعطى الناس - فضلا عن كل ذلك - جميع ما يحتاجون إليه فى مصالحهم على حسب حكمته ومشيئته ولكن الناس - إلا من عصم الله - لا يقابلون نعمه - سبحانه - بما تستحقه من شكر ، لشدة ظلمهم وكثرة جحودهم .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَءَاتَىٰكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلۡتُمُوهُۚ وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآۗ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَظَلُومٞ كَفَّارٞ} (34)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَآتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ }

يقول تعالى ذكْره : وأعطاكم مع إنعامه عليكم بما أنعم به عليكم من تسخير هذه الأشياء التي سخرها لكم والرزق الذي رزقكم من نبات الأرض وغروسها من كلّ شيء سألتموه ورغبتم إليه شيئا . وحذف الشيء الثاني اكتفاءً ب «ما » التي أضيفت إليها «كلّ » وإنما جاز حذفه ، لأن «مِن » تُبعّض ما بعدها ، فكفت بدلالتها على التبعيض من المفعول ، فلذلك جاز حذفه ، ومثله قوله تعالى : وأُوتِيَتْ مِنْ كُلّ شَيْءٍ يعني به : وأوتيت من كلّ شيء في زمانها شيئا . وقد قيل : إن ذلك إنما قيل على التكثير ، نحو قول القائل : فلان يعلم كلّ شيء ، وأتاه كل الناس ، وهو يعني بعضهم ، وكذلك قوله : فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أبْوَابَ كُلّ شَيْءٍ . وقيل أيضا : إنه ليس شيء إلاّ وقد سأله بعض الناس ، فقيل : وآتاكُمْ مِنْ كُلّ ما سألْتُمُوهُ أي قد آتى بعضكم منه شيئا ، وآتى آخر شيئا مما قد سأله . وهذا قول بعض نحويّى أهل البصرة .

وكان بعض نحويّي أهل الكوفة يقول : معناه : وأتاكم من كلّ ما سألتموه لو سألتموه ، كأنه قيل : وآتاكم من كلّ سؤلكم وقال : ألا ترى أنك تقول للرجل لم يسألك شيئا : والله لأعطينك سُؤْلك ما بلغت مسألتك وإن لم يسأل ؟

فأما أهل التأويل ، فإنهم اختلفوا في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : وآتاكم من كلّ ما رغبتم إليه فيه . ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء وحدثني الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : مِنْ كُلّ ما سألْتُمُوهُ ورغبتم إليه فيه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حُذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وحدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن : وآتاكُمْ مِنْ كُلّ ما سألْتُمُوهُ قال : من كلّ الذي سألتموه .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : وآتاكم من كل الذي سألتموه والذي لم تسألوه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا خلف ، يعني ابن هشام ، قال : حدثنا محبوب ، عن داود بن أبي هند ، عن رُكانة بن هاشم : مِنْ كُلّ ما سألْتُمُوه وقال : ما سألتموه وما لم تسألوه .

وقرأ ذلك آخرون : «وآتاكُمْ مِلْ كُلَ ما سألْتُمُوهُ » بتنوين «كلّ » وترك إضافتها إلى «ما » بمعنى : وآتاكم من كلّ شيء لم تسألوه ولم تطلبوه منه . وذلك أن العباد لم يسألوه الشمس والقمر والليل والنهار ، وخلق ذلك لهم من غير أن يسألوه . ذكر من قال ذلك :

حدثني أبو حُصَين ، عبد الله بن أحمد بن يونُس ، قال : حدثنا بَزِيع ، عن الضحاك بن مُزاحم في هذه الاَية : «وآتاكُمْ مِنْ كُلَ ما سألْتُمُوهُ » قال : ما لم تسألوه .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبيد ، عن الضحاك أنه كان يقرأ : «مِنْ كُلَ ما سألْتُمُوهُ » ويفسره : أعطاكم أشياء ما سألتموها ولم تلتمسوها ، ولكن أعطيتكُم برحمتي وسعتي . قال الضحاك : فكم من شيء أعطانا الله ما سألنا ولا طلبناه .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : «وآتاكُمْ مِنْ كُلَ ما سَألْتُمُوهُ » يقول : أعطاكم أشياء ما طلبتموها ولا سألتموها ، صدق الله كم من شيء أعطاناه الله ما سألناه إياه ولا خطر لنا على بال .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : «وآتاكُمْ مِنْ كُلَ ما سألْتُمُوهُ » قال : لم تسألوه من كلّ الذي آتاكم .

والصواب من القول في ذلك عندنا ، القراءة التي عليها قرّاء الأمصار ، وذلك إضافة «كل » إلى «ما » بمعنى : وآتاكم من سؤلكم شيئا ، على ما قد بيّنا قبل ، لإجماع الحجة من القرّاء عليها ورفضهم القراءة الأخرى .

القول في تأويل قوله تعالى : وَإنْ تَعُدّوا نِعْمَةَ اللّهِ لا تُحْصُوها إنّ الإنْسانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ .

يقول تعالى ذكره : وإن تعدّوا أيها الناس نعمة الله التي أنعمها عليكم لا تطيقوا إحصاء عددها والقيام بشكرها إلاّ بعون الله لكم عليها . إنّ الإنْسانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ يقول : إن الإنسان الذي بدّل نعمة الله كفرا لظَلُومٌ : يقول : لشاكر غير من أنعم عليه ، فهو بذلك من فعله واضع الشكر في غير موضعه وذلك أن الله هو الذي أنعم عليه بما أنعم واستحقّ عليه إخلاص العبادة له ، فعبد غيره وجعل له أندادا ليضلّ عن سبيله ، وذلك هو ظلمه . وقوله : كَفّارٌ يقول : هو جحود نعمة الله التي أنعم بها عليه لصرفه العبادة إلى غير من أنعم عليه ، وتركه طاعة من أنعم عليه .

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : حدثنا مِسْعَر ، عن سعد بن إبراهيم ، عن طلق بن حبيب ، قال : إن حقّ الله أثقل من أن تقوم به العباد ، وإن نعم الله أكثر من أن تحصيهَا العباد ولكن أصبِحوا تَوّابين وأمسُوا توّابين .