ثم بين - سبحانه - ما أعده لهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات من ألوان النعيم فقال : { أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ } .
ولفظ { عدن } بمعنى إقامة لا رحيل بعدها ولا تحول . وأصله من عدن فلان بالمكان . إذ أقام به واستقر فيه .
أى : أولئك الذين عمروا دنياهم بالإِيمان والعمل الصالح لهم جنات يقيمون فيها إقامة دائمة ، تجرى من تحت مساكنهم الأنهار .
{ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ } والأساور : جمع سوار . وهو نوع من الحلى يلبس بزند اليد .
أى : يلبسون فى تلك الجنات أساور من ذهب على سبيل التزين والتكريم .
ولا مانع من أن يضاف إلى هذه الأساور الذهبية ، أساور أخرى من فضة ، وثالثة من لؤلؤ كما فى قوله - تعالى - :
{ وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ }
{ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً . . }
وفى الصحيحين عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء " .
وقوله { وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ } معطوف على ما قبله .
والسندس : ما رق من الحرير واحده سندسة .
والإِستبرق : ما غلظ منه وثخن ، واحده إستبرقة .
أى : يتزينون فى الجنات بأساور من ذهب ، ويلبسون فيها ثيابا خضرا من رقيق الحرير ومن غليظه .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَآئِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً } .
والأرائك : جمع أريكة . وهو كل ما يتكأ عليه من سرير أو فراش .
أى : متكئين فى الجنات على الأرائك شأن المتنعمين المترفهين { نعم الثواب } ذلك الذى وعدهم الله - تعالى - به { وحسنت } تلك الأرائك فى الجنات { مرتفقا } .
أى : متكأ ومقرا ومجلسا ومسكنا .
وبذلك نرى الآية الكريمة قد اشتملت على ألوان متعددة من التكريم والثواب لأولئك المؤمنين الذين عمروا دنياهم بالعمل الصالح .
فقد بشرهم - سبحانه - بجنات عدن ، ثم بشرهم ثانيا بأن الأنهار تجرى من تحتهم ، ثم بشرهم ثالثا بأنهم يحلون فيها من أساور من ذهب ، ثم بشرهم رابعا بأنهم يلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق ، ثم بشرهم خامساً ، بأنهم يتكئون فى تلك الجنات على الأرائك .
وفى هذه البشارات ما فيها من الحض على المسارعة إلى العمل الصالح ، الذى يرفع درجات المؤمن إلى أعلى عليين ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم ، نسأل الله - تعالى - أن يرزقنا هذا الفضل ، فهو أكرم مسئول ، وأعظم مأمور .
ثم ساقت السورة الكريمة مثلا للنفس الإِنسانية المغرورة المتفاخرة بزينة الحياة الدنيا ، الجاحدة لنعم الله . . . وللنفس الإِنسانية المتواضعة ، المعتزة بعقيدتها السليمة ، الشاكرة لربها . . . لكى يكون فى هذا المثل عبرة وعظة لمن كان له قلب ، فقال - تعالى - : { وَاضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً } .
القول في تأويل قوله تعالى : { أُوْلََئِكَ لَهُمْ جَنّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ يُحَلّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مّتّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَآئِكِ نِعْمَ الثّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً } .
يقول تعالى ذكره : لهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناتُ عدن ، يعني بساتين إقامة في الاَخرة . تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنهَارُ يقول : تجري من دونهم ومن أيديهم الأنهار . وقال جلّ ثناؤه : من تحتهم ، ومعناه : من دونهم وبين أيديهم ، يُحَلّوْنَ فِيها مِنْ أساوِرَ يقول : يلبسون فيها من الحليّ أساور من ذهب ، والأساور : جمع إسوار .
وقوله : يَلْبَسُونَ ثِيابا خُضْرا مِنْ سُنْدُسٍ والسندس : جمع واحدها سندسة ، وهي ما رقّ من الديباج : والاستبرق : ما غلظ منه وَثخُن وقيل : إن الاستبرق : هو الحرير ومنه قول المرَقّش :
تَرَاهُنّ يَلْبَسْنَ المَشاعِرَ مَرّةً *** واسْتَبْرَقَ الدّيباجِ طَوْرا لِباسُها
وقوله : مُتّكِيئنَ فِيها على الأرَائِكِ يقول : متكئين في جنات عدن على الأرائك ، وهي السّرُر في الحِجال ، واحدتها : أريكة ومنه قول الشاعر :
خُدُودا جَفَتْ في السّيْرِ حتى كأنّما *** يُباشِرْنَ بالمَعْزاءِ مَسّ الأرَائِك
بينَ الرّوَاقِ وجانِبٍ مِنْ سِتْرِها *** مِنْها وبينَ أرِيكَةٍ الأنْضادِ
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله عَلَى الأرَائِكِ قال : هي الحجال . قال معمر ، وقال غيره : السرر في الحجال .
وقوله : نِعْمَ الثّوَابُ يقول : نعم الثواب جنات عدن ، وما وصف جلّ ثناؤه أنه جعل لهؤلاء الذين آمنوا وعلموا الصالحات وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقا يقول : وحسُنت هذه الأرائك في هذه الجنان التي وصف تعالى ذكره في هذه الاَية متكأ . وقال جلّ ثناؤه : وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقا فأنث الفعل بمعنى : وحسنت هذه الأرائك مرتَفَقا ، ولو ذكر لتذكير المرتفق كان صوابا ، لأن نِعْم وبِئْس إنما تدخلهما العرب في الكلام لتدلا على المدح والذمّ لا للفعل ، فلذلك تذكرهما مع المؤنث ، وتوحّدهما مع الاثنين والجماعة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.