التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{قَالَ بَصُرۡتُ بِمَا لَمۡ يَبۡصُرُواْ بِهِۦ فَقَبَضۡتُ قَبۡضَةٗ مِّنۡ أَثَرِ ٱلرَّسُولِ فَنَبَذۡتُهَا وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتۡ لِي نَفۡسِي} (96)

وقد رد السامرى على موسى بقوله : { بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ } أى : علمت ما لم يعلمه القوم ، وفطنت لما لم يفطنوا له ، ورأيت ما لم يروه .

قال الزجاج : يقال : بصر بالشىء يبصر - ككرم وفرح - إذا علمه ، وأبصره إذا نظر إليه .

وقيل : هما بمعنى واحد .

{ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول فَنَبَذْتُهَا } روى أن السامرى رأى جبريل - عليه السلام - حين جاء إلى موسى ليذهب به إلى الميقات لأخذ التوراة عن الله - عز وجل - ولم ير جبريل أحد غير السامرى من قوم موسى ، ورأى الفرس كلما وضعت حافرها على شىء اخضرت ، فعلم أن للتراب الذى تضع عليه الفرس حافرها شأنا ، فأخذ منه حفنة وألقاها فى الحلى المذاب فصار عجلا له خوار .

والمعنى قال السامرى لموسى : علمت ما لم يعلمه غيرى فأخذت حفنة من تراب أثر حافر فرس الرسول وهو جبريل - عليه السلام - فألقيت هذه الحفنة فى الحلى المذاب ، فصار عجلا جسدا له خوار .

{ وكذلك سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي } أى : ومثل هذا الفعل سولته لى نفسى ، أى زينته وحسنته لى نفسى ، لأجعل بنى إسرائيل يتركون عبادة إلهك يا موسى ، ويعبدون العجل الذى صنعته لهم .

وعلى هذا التفسير الذى سار عليه كثير من المفسرين ، يكون المراد بالرسول : جبريل - عليه السلام - ويكون المراد بأثره : التراب الذى أخذه من موضع حافر فرسه .

هذا ، وقد نقل الفخر الرازى عن أبى مسلم الأصفهانى رأيا آخر فى تفسير الآية فقال ما ملخصه : ليس فى القرآن ما يدل على ما ذكره المفسرون ، فهنا وجه آخر ، وهو أن يكون المراد بالرسول : موسى - عليه السلام - وبأثره : سنته ورسمه الذى أمر به ، وهو أن يكون المراد بالرسول : موسى - عليه السلام - وبأثره : سنته ورسمه الذى أمر به ، فقد يقول الرجل : فلان يقص أثر فلان ويقتص أثره إذا كان يمتثل رسمه ، والتقدير : أن موسى لما أقبل على السامرى بالتوبيخ وبسؤاله عن الأمر الذى دعاه إلى إضلال القوم بعبادة العجل ، رد عليه بقوله : بصرت بما لم يبصروا به ، أى : عرفت أن الذى أنتم عليه ليس بحق ، وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول ، أى : أخذت شيئا من علمك ودينك فنبذته ، أى : طرحته .

. .

وعلى هذا التفسير الذى ذهب إليه أبو مسلم يكون المراد بالرسول : موسى - عليه السلام - ويكون المراد بأثره : دينه وسنته وعلمه .

ويكون المعنى الإجمالى للآية : أن السامرى قال لموسى - عليه السلام - كنت قد أخذت جانبا من دينك وعلمك ، ثم تبين لى أنك على ضلال فنبذت ما أخذته عنك وسولت لى نفسى أن أصنع للناس عجلا لكى يعبدوه لأن عبادته أراها هى الحق .

وقد رجح الإمام الرازى فى تفسيره ما ذهب إليه أبو مسلم فقال : واعلم أن هذا القول الذى قاله أبو مسلم ليس فيه إلا مخالفة للمفسرين ، ولكنه أقرب إلى التحقيق لوجوه .

1 - أن جبريل ليس مشهورا باسم الرسول ، ولم يجر له فيما تقدم ذكر حتى تجعل لام التعريف إشارة إليه .

2 - أنه لا بد فيه من الإضمار ، وهو قبضته من أثر حافر فرس الرسول ، والإضمار خلاف الأصل .

3 - أنه لا بد من التعسف فى بيان أن السامرى كيف اختص من بين جميع الناس برؤية جبريل ومعرفته ؟ ثم كيف عرف أن لتراب حافر فرسه هذا الأثر ؟ والذى ذكروه أن جبريل هو الذى رباه بعيد . . .

وقد رد الإمام الآلوسى على الإمام الفخر الرازى - رحمهما الله - فقال ما ملخصه :

1 - عهد فى القرآن الكريم إطلاق الرسول على جبريل ، كما فى قوله - تعالى - : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } وعدم جريان ذكره فيما تقدم لا يمنع أن يكون معهودا ، ويجوز أن يكون إطلاق الرسول عليه كان شائعا فى بنى إسرائيل .

2 - تقدير المضاف فى الكلام أكثر من أن يحصى ، وقد عهد ذلك فى كتاب الله غير مرة .

3 - رؤية السامرى دون غيره لجبريل ، كان ابتلاء من الله - تعالى - ليقضى الله أمرا كان مفعولا ، ومعرفته تأثير ذلك الأثر دون غيره كانت بسبب ما ألقى فى روعه من أنه لا يلقيه على شىء فيقول له كن كذا إلا كان - كما فى خبر ابن عباس - أو كانت لما شاهد من خروج النبات بالوطء - كما فى بعض الآثار - .

ويبدو لنا أن ما ذهب إليه أبو مسلم ، أقرب إلى ما يفيده ظاهر القرآن الكريم ، إذا ما استبعدنا تلك الروايات التى ذكرها المفسرون فى شأن السامرى وفى شأن رؤيته لجبريل .

ولا نرى حرجا فى استبعادها ، لأنها عارية عن السند الصحيح إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - أو إلى أصحابه ، ويغلب على ظننا أنها من الإسرائيليات التى نرد العلم فيها إلى الله - تعالى - .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{قَالَ بَصُرۡتُ بِمَا لَمۡ يَبۡصُرُواْ بِهِۦ فَقَبَضۡتُ قَبۡضَةٗ مِّنۡ أَثَرِ ٱلرَّسُولِ فَنَبَذۡتُهَا وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتۡ لِي نَفۡسِي} (96)

وقوله : " بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ " يقول : قال السامريّ : علمت ما لم يعلموه ، وهو فعلت من البصيرة : أي صرت بما عملت بصيرا عالما . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : لما قتل فرعون الولدان قالت أمّ السامريّ : لو نحيته عني حتى لا أراه ، ولا أدري قتله ، فجعلته في غار ، فأتى جبرئيل ، فجعل كفّ نفسه في فيه ، فجعل يُرضعه العسل واللبن ، فلم يزل يختلف إليه حتى عرفه ، فمن ثم معرفته إياه حين قال : " فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أثَرِ الرّسُولِ " .

وقال آخرون : هي بمعنى : أبصرت ما لم يبصروه . وقالوا : يقال : بصرت بالشيء وأبصرته ، كما يقال : أسرعت وسرعت ما شئت . ذكر من قال : هو بمعنى أبصرت :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة قال " بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ " يعني فرس جبرئيل عليه السلام .

وقوله : " فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أثَرِ الرّسُولِ " يقول : قبضت قبضة من أثر حافر فرس جبرئيل . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن حكيم بن جبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لما قذفت بنو إسرائيل ما كان معهم من زينة آل فرعون في النار ، وتكسرت ، ورأى السامريّ أثر فرس جبرئيل عليه السلام ، فأخذ ترابا من أثر حافره ، ثم أقبل إلى النار فقذفه فيها ، وقال : كن عجلاً جسدا له خوار ، فكان للبلاء والفتنة .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : قبض قبضة منه من أثر جبرئيل ، فألقى القبضة على حليهم فصار عجلاً جسدا له خوار ، فقال : هذا إلهكم وإله موسى .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : " فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أثَر الرّسُولِ فَنَبَذْتُها " قال : من تحت حافر فرس جبرئيل ، نبذه السامريّ على حلية بني إسرائيل ، فانسبك عجلاً جسدا له خوار ، حفيف الريح فيه فهو خواره ، والعجل : ولد البقرة .

واختلف القرّاء في قراءة هذين الحرفين ، فقرأته عامّة قرّاء المدينة والبصرة " بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ " بالياء ، بمعنى : قال السامريّ : بصرت بما لم يبصر به بنو إسرائيل . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة : «بَصُرْتُ بِمَا لَمْ تَبْصُرُوا بهِ » بالتاء على وجه المخاطبة لموسى صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، بمعنى : قال السامريّ لموسى : بصرت بما لم تبصر به أنت وأصحابك .

والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء مع صحة معنى كل واحدة منهما ، وذلك أنه جائز أن يكون السامريّ رأى جبرئيل ، فكان عنده ما كان بأن حدثته نفسه بذلك أو بغير ذلك من الأسباب ، أن تراب حافر فرسه الذي كان عليه يصلح لما حدث عنه حين نبذه في جوف العجل ، ولم يكن علم ذلك عند موسى ، ولا عند أصحابه من بني إسرائيل ، فلذلك قال لموسى : «بَصُرْتُ بِمَا لَمْ تَبْصُرُوا بهِ » أي علمت بما لم تعلموا به . وأما إذا قرىء " بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ " بالياء ، فلا مؤنة فيه ، لأنه معلوم أن بني إسرائيل لم يعلموا ما الذي يصلح له ذلك التراب .

وأما قوله : " فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أثَرِ الرّسُولِ " فإن قرّاء الأمصار على قراءته بالضاد ، بمعنى : فأخذت بكفي ترابا من تراب أثر فرس الرسول . وروي عن الحسن البصري وقتادة ما :

حدثني أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا هشيم ، عن عباد بن عوف ، عن الحسن أنه قرأها : «فَقَبَصْتُ قَبْصَةً » بالصاد .

وحدثني أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا هشيم ، عن عباد ، عن قَتادة مثل ذكر بالصاد . بمعنى : أخذت بأصابعي من تراب أثر فرس الرسول ، والقبضة عند العرب : الأخذ بالكفّ كلها ، والقبصة : الأخذ بأطراف الأصابع .

وقوله : " فَنَبَذْتُها " يقول : فألقيتها " وكَذَلَكَ سَوّلَتْ لي نَفْسِي " يقول : وكما فعلت من إلقائي القبضة التي قبضت من أثر الفرس على الحلية التي أوقد عليها حتى انسبكت فصارت عجلاً جسدا له خوار . " سَوّلَتْ لِي نَفْسِي " يقول : زينت لي نفسي أنه يكون ذلك كذلك ، كما :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : " وكَذَلِكَ سَوّلَتْ لِي نَفْسِي " قال : كذلك حدثتني نفسي .