التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{إِنَّمَا ٱلنَّسِيٓءُ زِيَادَةٞ فِي ٱلۡكُفۡرِۖ يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُۥ عَامٗا وَيُحَرِّمُونَهُۥ عَامٗا لِّيُوَاطِـُٔواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُۚ زُيِّنَ لَهُمۡ سُوٓءُ أَعۡمَٰلِهِمۡۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (37)

ثم نعى - سبحانه - على ما كانوا يفعلون من تحليل وتحريم للشهور على حسب أهوائهم . . فقال تعالى : { إِنَّمَا النسيء زِيَادَةٌ فِي الكفر . . . } والنسئ : مصدر بزنة فعيل مأخوذ من نسأ الشئ إذا أخره .

ومنه نسأت الإِبل عن الحوض إذا أخرتها عنه . ومنه أنسأ الله في أجل فلان ، أى : أخره والمراد به : تأخبر حرمة شهر إلى شهر آخر .

وقد أشار صاحب الكشاف إلى الأسباب التي جعلت المشركين يحلون الأشهر الحرم فقال : " كانوا أصحاب حروب وغارات ، فإذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شق عليهم ترك المحاربة ، فيحلونه ويحرمونه مكانه شهر آخر - وكان يشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر لا يغيرون فيها - حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم ؛ فكانوا يرحمون من شتى شهور العام أربعة أشهر ، وذلك قوله { لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله } أى ليوافقو العدة التي هي الأربعة ولا يخالفوها وقد خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين " .

والمعنى : إنما النسئ الذي يفعله المشركون ، من تأخيرهم حرمة شهر إلى آخر ، { زِيَادَةٌ فِي الكفر } أى : زيادة في كفرهم ؛ لأنهم قد ضموا إلى كفرهم آخر ، هو تحليلهم لما حرمه الله وتحريمهم لما أحله وبذلك يكونون قد جمعوا بين الكفر في العقيدة والكفر في التشريع .

قال القرطبى : وقوله : { زِيَادَةٌ فِي الكفر } بيان لما فعلته العرب من جمعها أنواعا من الكفر ، فإنها أنكرت وجد البارى - تعالى - فقالت : { وَمَا الرحمن } في أصح الوجوه . وأنكرت البعث فقالت { مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ } وأنكرت بعثة الرسل فقالوا : { أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ } وزعمت أن التحليل والتحريم إليها ، فابتدعته من ذاتها مقتفية لشهواتها فأحلت ما حرمه الله : ولا مبدل لكلماته ولو كره المشركون .

وقوله { يُضَلُّ بِهِ الذين كَفَرُواْ } قرأه الكوفيون بضم الياء وفتح الضاد بالبناء للمفعول .

أى : يوقع الذين كفروا بسبب ارتكابهم للنسئ في الضلال والموقع لهم في هذا الضلال كبراؤهم وشياطينهم .

وقرأه أهل الحرمين وأبو عمرو { يُضَلُّ } بفتح الياء وكسر الضاد بالبناء للفاعل .

أى : يضل الله الذين كفروا ، بأن يخلق فيهم الضلال بسبب مباشرتهم لما أدى إليه وهو ارتكابهم للنسئ .

ويصح أن يكون الفاعل هو الذين كفروا أى يضل الذين كفروا عن الحق بسبب استعمالهم للنسئ الذي هو لون من ألوان استحلال محارم الله .

وقوله : { يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً } بيان وتفسير ليكفية ضلالهم .

والضمير المنصوب في { يُحِلُّونَهُ . . وَيُحَرِّمُونَهُ } يعود إلى النسئ ، أى الشهر المؤخر عن موعده .

والمعنى أن هؤلاء الكافرين من مظاهر ضلالهم ، أنهم يحلون الشهر المؤخر عن وقته عاما من الأعوام ، ويحرمون مكانه شهرا آخر ليس من الأشهر الحرم ، وأنهم يحرمونه أى : يحافظون على حرمة الشهر الحرام عاما آخر ، إذا كانت مصحلتهم في ذلك .

والمواطأة : الموافقة . يقال : واطأت فلاناً على كذا إذا وافقته عليه بدون مخالفته .

والمعنى : فعل المشركون ما فعلوه من التحليل والتحريم للأشهر على حسب أهوائهم ، ليوافقوا بما فعلوا عدة الأشهر الحرم ، بحيث تكون أربعة في العدد وإن لم تكن عين الأشهر المحرمة في شريعة الله .

قال ابن عباس : ما أحل المشركون شهراً من الأشهر الحرم إلا حرموا مكانه شهراً من الأشهر الحلال . وما حرموا شهراً من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرا من الأشهر الحرام ، لكى يكون عدد الأشهر الحرم أربعة .

وقوله : { فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ الله } تفريع على ما تقدم .

أى : فيحلوا بتغييرهم الشهور المحرمة ، ما حرمه الله في شره ، فهم وإن كانوا وافقوا شريعة الله في عدد الشهور المحرمة ، إلا أنهم خالفوه في تخصيصها فقد كانوا - مثلا - يستحلون شهر المحرم بدله شهر صفر .

وقوله : { زُيِّنَ لَهُمْ سواء أَعْمَالِهِمْ } ذم لهم على انتكاس بصائرهم ، وسوء تفكيرهم .

أى : زين لهم الشيطان سوء أعمالهم ، فجعلهم يرون العمل القبيح عملا حسنا . وقوله : { والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين } تذييل قصد به التنفير والتوبيخ للكافرين .

أى : والله تعالى . اقتضت حكمته أن لا يهدى القوم الكافرين إلى طريقه القويم ، لأنهم بسبب سوء اختيارهم استحبوا العمى على الهدى ، وأثروا طريق الغى على طريق الرشاد . . فكان أمرهم فرطا .

هذا ، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هاتين الآيتين ما يأتى .

1- أن السنة اثنا عشر شهراً ، وأن شهور السنة القمرية هي المعول عليها في الأحكام لا شهور السنة الشمسية .

قال الفخر الرازى ، اعلم أن السنة عند العرب عبارة عن اثنى عشر شهراً من الشهور القمرية ، والدليل عليه هذه الآية - { إِنَّ عِدَّةَ الشهور } الآية ، وقوله . تعالى : { هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب . . . } فجعل تقديره القمر بالمنازل علة للسنين والحساب وذلك إنما يصح إذا كانت السنة معلقة بسير القمر .

وأيضاً قوله . تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج } ثم قال : واعلم أن مذهب العرب من الزمان الأول أن تكون السنة قمرية لا شمسية ، وهذا الحكم توارثوه عن إبراهيم وإسماعيل . عليها السلام . فأما عند اليهود والنصارى ، فليس الأمر كذلك . .

وقال الجمل : قوله { اثنا عَشَرَ شَهْراً } هذه شهور السنة القمرية التي هي مبنية على سير القمر في المنازل ، وهى شهور العرب التي يعتد بها المسلمون في صيامهم ومواقيت حجهم وأعيادهم وسائر أمورهم وأحكامهم . وأيام هذه الشهور ثلثمائة وخمسة وخمسون يوماً . والسنة الشمسية عبارة عن دوران الشمس في الفلك دورة تامة ، وهى ثلثمائة وهمسة وستون يوماً . وربع يوم . فتنقص السنة الهلالية عن السنة الشمسية عشرة أيام ، فبسبب هذا النقصان تدور السنة الهلالية فيقع الصوم والحج تارة في الشتاء وتارة في الصيف .

هذا ، وقد تكلم بعض المفسرين عن الشهور القمرية ، وعن سبسب تسميتها بما سميت به فارجع إليه إن شئت .

2- وجوب التقييد بما شعره الله من أحكام بدون زيادة أو نقصان عليها .

قال القرطبى ما ملخصه : وضع - هذه الشهور وسماها بأسمائها على مارتبها عليه يوم خلق السماوات والأرض ، وأنزل ذلك على أنبيائه في كتبه المنزلة ، وهى معنى قوله : { إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً } .

وحكمها باق على ما كانت عليه لم يزلها عن ترتيبها تغيير المشركين لأسمائها ، وتقديم المقدم في الاسم منها .

والمقصود من ذلك اتباع أمر الله فيها ، ورفض ما كان عليه أهل الجاهلية من تأخير أسماء الشهور وتقديمها .

ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - في خطبته في حدة الوداع : " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض " .

ثم قال القرطبى ؛ كانوا يحرمون شهراً فشهراً حتى استدار التحريم على السنة كلها . فقام الإِسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله فيه . فهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - " إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السماوات والأرض " .

3- أخذ بعضهم من قوله تعالى - { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } أن تحريم القتال في الأشهر الحرم ثابت لم ينسخ ، وأنه لا يصح القتال فيها إلا أن يكون دفاعاً .

قال ابن جريج : حلف بالله عطاء بن أبى رباح أنه ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا فيها .

وذهب جمهور العلماء إلى أن تحريم القتال في الأشهر الحرم قد نسخ ، بدليل أن الله - تعالى - بعد أن نهى المؤمين عن أن يظلموا أنفسهم بالقتال فيها أمرهم بقتال المشركين من غير تقيد يزمن فقال { وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً } فدل ذلك على أن القتال في الأشهر الحرم مباح .

وبدليل أن النبى - صلى الله عليه وسلم - حاصر أهل الطائف في شهر حرام وهو شهر ذى القعدة .

قال ابن كثير : ثبت في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى هوزان في شوال ، فلما كسرهم . . لجأوا إلى الطائف ، فعمد - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف فحاصرهم أربعين يوماً ، وانصرف ولم يفتحها فثبت أنه حاصر في الشهر الحرام - أى . في شهر ذى القعدة .

ثم قال ما ملخصه : وأما قوله - تعالى { وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً } فيحتمل أنه منقطع عما قبله وأنه حكم مستأنف . ويكون من باب التهييج للمؤمنين على قتال أعدائهم . . ويحتمل أنه أذن للمؤمنين بقتال أعدائهم في الشهر الحرام إذا كانت البداءة منهم - أى من الأعداء : كما قال : - تعالى - { الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قِصَاصٌ } وكما قال - تعالى - { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم } وهكذا الجواب عن حصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الطائف واستصحابه الحصار إلى أن دخل الشهر الحرام ، فإنه من تتمة قتال هوزان وأحلاقها ، فإنهم الذين بدأوا القتال للمسلمين .

. فعند ذلك قصدهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما تحصنوا بالطائف ذهب إليهم لينزلهم من حصونهم فنالوا من المسلمين ، وقتلوا جماعة منهم . . واستمر حصار المسلمين لهم أربعين يوماً ، وكان ابتداؤه في شهر حلال ، ودخل الشهر الحرام فاستمر فيه أياما ثم قفل عنهم ، لأنه يغتفر في الدوام مالا يغتفر في الابتداء ، وهذا أم مقرر .

ومن كلام ابن كثير . رحمه الله - نستنتج أنه يميل إلى القول بأن المنهى عنه هو ابتداء القتال في الأشهر الحرم ، لا إتام القتال فيها متى بدأ الاعداء ذلك وهو قريب من قول القائل : لا يحل القتال فيها ولا في الحرم إلا إن يكون دفاعاً .

وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس ، لأنه لم يثبت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بدأ أعداءه القتال في الأشهر الحرم ، وإنما الثابت أن الأعداء هم الذين ابتدأوا قتال المسلمين فيها ، فكان موقف المسلمين هو الدفاع عن أنفسهم :

4- ذكر المفسرون روايات في أول من أخر حرمة شهر إلى آخر ، فعن مجاهد قال : كان رجل من بنى كنانة يأتى كل عام إلى الموسم على حمار له فيقول : أيها الناس . إنى لا أعاب ولا أخاب ولا مرد لما أقول . إن قد حرمنا المحرم وأخرنا صفر . ثم يجئ العام المقبل بعده فيقول مثل مقالته ويقول : إنا قد حرمنا صفر وأخرنا المحرم .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هذا رجل من بنى كنانة يقال له " القلمس " وكان في الجاهلية . وكانوا في الجاهلية لا يغير بعضهم على بعض في الشهر الحرام . يلقى الرجل قاتل أبيه فلا يمد إليه يده . فلما كان هو قال لقومه : أخرجوا بنا - أى للقتال - فقالوا له : هذا المحرم . قال : ننسئه العام ، هي العام صفران . فإذا كان العام القابل قضينا . . جعلنا هما محرمين .

قال : ففقعل ذلك . فلما كان عام قابل قال : لا تغزوا في صفر . حرموه مع المحرم . هما محرمان .

وقد كان بعض أهل الجاهلية يتفاخر بهذا النسئ ، ومن ذلك قول شاعرهم :

ومنا ناسئ الشهر القلمس . . . قال آخر :

ألسنا الناسئين على معد . . . شهور الحل نجعلها حراما

وقد أبطل الإِسلام كل ذلك ، وأمر بترتيب الشهور على ما رتبها - سبحانه - عليه يوم خلق السماوات والأرض .

وبعد : فهذه سبع وثلاثون آية من أول السورة إلى هنا ، نراها - في مجموعها كما سبق أن بينا - قد حددت العلاقات النهائية بين المسلمين وبين أعدائهم من المشكرين وأهلا لكتاب ، كما نراها قد أبرزت الأسباب التي دعت إلى هذا التحديث بأسلوب حكيم مؤثر ، يقنع العقول ، ويشبع العواطف .

ثم انتقلت السورة بعد ذلك إلى الحديث عن غزوة تبوك وما جرى فيها من أحداث متنوعة . . وقد استغرق هذا الحديث معظم آيات السورة ، لا سيما فيما يتعلق بهتك أستار المنافقين ، والتحذير منهم .