قوله تعالى : " لكيلا تأسوا على ما فاتكم " أي حتى لا تحزنوا على ما فاتكم من الرزق ، وذلك أنهم إذا علموا أن الرزق قد فرغ منه لم يأسوا على ما فاتهم منه . وعن ابن مسعود أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يجد أحدكم طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه ) ثم قرأ " لكيلا تأسوا على ما فاتكم " إي كي لا تحزنوا على ما فاتكم من الدنيا فإنه لم يقدر لكم ولو قدر لكم لم يفتكم " ولا تفرحوا بما آتاكم " أي من الدنيا ، قال ابن عباس . وقال سعيد بن جبير : من العافية والخصب . وروى عكرمة عن ابن عباس : ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح ، ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبرا ، وغنيمته شكرا . والحزن والفرح المنهي عنهما هما اللذان يتعدى فيهما إلى ما لا يجوز ، قال الله تعالى : " والله لا يحب كل مختال فخور{[14727]} " أي متكبر بما أوتي من الدنيا ، فخور به على الناس . وقراءة العامة " آتاكم " بمد الألف أي أعطاكم من الدنيا . واختاره أبو حاتم . وقرأ أبو العالية ونصر بن عاصم وأبو عمرو " أتاكم " بقصر الألف واختاره أبو عبيد . أي جاءكم ، وهو معادل ل " فاتكم " ولهذا لم يقل أفاتكم . قال جعفر بن محمد الصادق : يا ابن آدم ما لك تأسى على مفقود لا يرده عليك الفوت ، أو تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت . وقيل لبرزجمهر : أيها الحكيم ! مالك لا تحزن على ما فات ، ولا تفرح بما هو آت ؟ قال : لأن الفائت لا يتلافى بالعَبْرَة ، والآتي لا يستدام بالحَبْرَة . وقال الفضيل بن عياض في هذا المعنى : الدنيا مُبِيد ومُفِيد ، فما أباد فلا رجعة له ، وما أفاد آذن بالرحيل . وقيل : المختال الذي ينظر إلى نفسه بعين الافتخار ، والفخور الذي ينظر إلى الناس بعين الاحتقار ، وكلاهما شرك خفي . والفخور بمنزلة المصراة تشد أخلافها ليجتمع فيها اللبن ، فيتوهم المشتري أن ذلك معتاد وليس كذلك ، فكذلك الذي يرى من نفسه حالا وزينة وهو مع ذلك مدّع فهو الفخور .
{ لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم } المعنى : فعل الله ذلك وأخبركم به لكيلا تسلموا لقضاء الله ولا تكترثوا بأمور الدنيا ، ومعنى : لا تأسوا لا تحزنوا أي : فلا تحزنوا على ما فاتكم منها ولا تفرحوا فيها وقرأ الجمهور بما آتاكم بالمد أي : بما أعطاكم الله من الدنيا ، وقرأ أبو عمرو بما أتاكم بالقصر أي : بما جاءكم من الدنيا فإن قيل : إن الإنسان لا يملك نفسه أن يفرح بالخير ويحزن للشر كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما أتى بمال كثير : اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينت لنا ، فالجواب : أن النهي عن الفرح إنما هو عن الذي يقود إلى الكبر والطغيان ، وعن الحزن الذي يخرج عن الصبر والتسليم .
{ كل مختال فخور } المختال صاحب الخيلاء والفخور شديد الفخر على الناس .
ولما بين هذا الأمر العظيم الدال على ما له سبحانه من الكبرياء والعظمة ، بين ثمرة أعماله بقوله : { لكيلا } أي أعملناكم بأن على ما لنا من العظمة قد فرغنا من التقدير ، فلا يتصور فيه تقديم ولا تأخير ولا تبديل ولا تغيير ، لأن الحزن لا يدفعه ، ولا السرور يجلبه ويجمعه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يا معاذ ليقلّ همك ما قدر يكن " لأجل أن لا { تأسوا } أي تحزنوا حزناً كبيراً زائداً { على } ما{[62594]} في أصل الجبلة ، يوصل إلى المبلغ{[62595]} بتعاطي أسبابه والتمادي فيها ليتأثر عنها السخط وعدم الرضا بالقضاء ، فربما جر ذلك إلى أمر عظيم { ما فاتكم } من المحبوبات الدنيوية { ولا تفرحوا } أي تسروا سروراً يوصل إلى البطر بالتمادي مع ما في أصل الجبلة { بما آتاكم } أي جاءكم منها على قراءة أبي عمرو{[62596]} بالقصر ، وأعطاكم الله{[62597]} على قراءة الباقين بالمد ، وهي تدل على أن النعم لا بد في إيجادها وإبقائها من حافظ ، ثم إنها لو خليت ونفسها فاتت لأنه ليس من ذاته إلا العدم ، وقد بين سبحانه أن في تقديره هذا وكتبه من السر أن من وطن نفسه على فقد ما لديه من أعيان ومعان{[62598]} قبل أن تأمره بالعدم والوجدان ، فلم يغيره ذلك عن المسابقة المذكورة ، فالمنهي عنه التمادي مع الحزن حتى يخرج عن الصبر ومع الفرح حتى يلهي عن الشكر ، لا أصل المعنى لأنه ليس من الأفعال الاختيارية ، قال جعفر الصادق : ما لك تأسف على مفقود ولا يرده إليك الفوت ، وما لك تفرح بوجود ولا يتركه في يدك{[62599]} الموت - انتهى ، ولقد عزى الله المؤمنين رحمة لهم في مصائبهم وزهدهم في رغائبهم بأن أسفهم على فوت المطلوب لا يعيده ، وفرحهم بحصول المحبوب لا يفيدهم ، ولأن ذلك لا مطمع في بقائه إلا بادخاره عند الله ، وذلك بأن يقول في المصيبة : قدر الله وما شاء الله{[62600]} فعل ويصير وفي النعمة هكذا قضى ، وما أدري ما مثاله
( هذا من فضل ربي ليبلوني أشكر أم أكفر }[ النمل : 40 ] فلا يزال خائفاً عند النقمة راجياً أثر النعمة ، قائلاً في الحالين : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، وأكمل من هذا أن يكون مسروراً بذكر ربه له في كلتا الحالتين كما قال القائل{[62601]} :سقياً لمعهدك الذي لو لم يكن *** ما كان قلبي للصبابة معهدا
وهذه صفة المتحررين{[62602]} من رق النفس ، وقيمة الرجال إنما تعرف بالواردات المغيرة ، فمن لم تغيره المضار ولم يتأثر بالمسار فهو سيد وقته ، أشار إليه القشيري . ولما كان الإمعان في استجلاب الأسى إنما هو من اليأس ونسيان النعم وزيادة الفرح الموصل إلى المرح إنما يجره الكبر والمرح ، وكان في أوصاف أهل الدنيا التفاخر ، قال تعالى مبيناً أن المنهي عنه سابقاً التمادي مع الجبلة في الحزن والفرح ، عاطفاً على ما تقديره : { فإن الله لا يحب كل يؤوس كفور } { والله لا يحب }{[62603]} أي لا يفعل فعل المحب بأن يكرم{[62604]} { كل مختال } أي متكبر نظر إلى ما في يده من الدنيا { فخور * } قال القشيري : الاختيال من بقايا النفس ورؤيتها ، والفخر من{[62605]} رؤية خطر ما به يفتخر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.