الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{وَقَدۡ كَفَرُواْ بِهِۦ مِن قَبۡلُۖ وَيَقۡذِفُونَ بِٱلۡغَيۡبِ مِن مَّكَانِۭ بَعِيدٖ} (53)

{ وَيَقْذِفُونَ } معطوف على قد كفروا ، على حكاية الحال الماضية ، يعني : وكانوا يتكلمون { بالغيب } ويأتون به { مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ } وهو قولهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم شاعر ، ساحر ، كذاب . وهذا تكلم بالغيب والأمر الخفي ، لأنهم لم يشاهدوا منه سحراً ولا شعراً ولا كذباً ، وقد أتوا بهذا الغيب من جهة بعيدة من حاله ، لأن أبعد شيء مما جاء به : الشعر والسحر ، وأبعد شيء من عادته التي عرفت بينهم وجربت : الكذب والزور : قرىء : «ويقذفون بالغيب » ، على البناء للمفعول ، أي : يأتيهم به شياطينهم ويلقنوهم إياه ، وإن شئت فعلقه بقوله : { وَقَالُواْ ءامَنَّا بِهِ } على أنه مثلهم في طلبهم تحصيل ما عطلوه من الإيمان في الدنيا بقولهم آمنا في الآخرة ، وذلك مطلب مستبعد بمن يقذف شيئاً من مكان بعيد لا مجال للظن في لحوقه ، حيث يريد أن يقع فيه لكونه غائباً عنه شاحطاً ، والغيب : الشيء الغائب ، ويجوز أن يكون الضمير للعذاب الشديد في قوله : { بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيد } [ سبأ : 46 ] وكانوا يقولون : وما نحن بمعذبين ، إن كان الأمر كما تصفون من قيام الساعة والعقاب والثواب ، ونحن أكرم على الله من أن يعذّبنا ، قائسين أمر الآخرة على أمر الدنيا ؛ فهذا كان قذفهم بالغيب ، وهو غيب ومقذوف به من جهة بعيدة ؛ لأن دار الجزاء لا تنقاس على دار التكليف .