اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{هُوَ ٱلَّذِي يُسَيِّرُكُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِۖ حَتَّىٰٓ إِذَا كُنتُمۡ فِي ٱلۡفُلۡكِ وَجَرَيۡنَ بِهِم بِرِيحٖ طَيِّبَةٖ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتۡهَا رِيحٌ عَاصِفٞ وَجَآءَهُمُ ٱلۡمَوۡجُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ أُحِيطَ بِهِمۡ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ لَئِنۡ أَنجَيۡتَنَا مِنۡ هَٰذِهِۦ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ} (22)

قوله تعالى : { هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر } الآية .

لمَّا ذكر في الآيةِ الأولى ، مجيء الرَّحمة بعد الضرِّ ، أو الرَّخاء بعد الشدَّة ، ذكر في هذه الآية مثالاً لذلك ، وبياناً لنقل الإنسان من الضرِّ إلى الرحمة ، وذلك أنَّ الإنسان إذا ركب السَّفينة ، ووجد الرِّيح الطيبة الموافقة لمقصوده ، حصل له المسرَّة القويَّة ، والنَّفْع التَّام ، ثم قد تظهرُ علامات الهلاك ؛ بأنْ تجيئهم الرِّياح العاصفة ، أو تأتيهم الأمواج العظيمة من كل جانبٍ ، أو يغلب على ظنونهم أنَّ الهلاكَ واقعٌ بالانتقال من تلك الأحوال الطيِّبة ، إلى هذه الأحوال الشديدة ، فوجب الخوفُ العظيمُ ، والإنسان في هذه الحالة ، لا يطمعُ إلا في فضْلِ الله - سبحانه وتعالى - ، ويقطع طعمهُ عن جميع الخلق ، ويصير بجميع أجزائه مُتضرِّعاً إلى الله - تعالى - ، ثُمَّ إذا نجَّاهُ الله - تعالى - من هذه البليَّة العظيمة ، نسي النِّعمة ، ورجع إلى ما ألفهُ من العقائد الباطلةِ .

قوله : " يَنْشُركم " قراءةُ ابن{[18361]} عامر من النَّشْرِ ضدَّ الطيّ ، والمعنى : يُفَرِّقكم ويَبُثُّكُم ، وقرأ الحسن{[18362]} : " يَنْشِركُم " من " أنْشَر " ، أي : أحْيَا ، وهي قراءةُ ابن مسعودٍ أيضاً ، وقرأ{[18363]} بعضُ الشَّاميين : " يُنَشِّركم " بالتشديد ؛ للتَّكثير من النَّشْر الذي هو مطاوع الانتشار ، وقرأ الباقون : " يُسَيِّركُم " من التَّسْييرِ ، والتَّضعيفُ فيه للتعدية ، تقول : سَارَ الرَّجُل ، وسيَّرْتُهُ أنَا .

وقال الفارسيُّ : " هو تَضْعيفُ مُبَالغةٍ لا تضعيفُ تعديةٍ ؛ لأنَّ العرب تقول : سِرْتُ الرَّجُلَ وسيَّرته " .

ومنه قول الهُذليِّ : [ الطويل ]

فَلا تَجْزَعَنْ مِنْ سُنَّةٍ أنْتَ سِرْتَهَا *** فأوَّلُ رَاضٍ سُنَّةً مَنْ يَسِيرُهَا{[18364]}

وهذا الذي قالهُ أبو علي غير ظاهر ؛ لأنَّ الأكثر في لسان العرب ، أنَّ " سار " قاصرٌ ، فجعلُ المضعف مأخوذاً من الكثير أولى .

وقال ابن عطيَّة : " وَعَلى هذا البيت اعتراضٌ ، حتَّى لا يكون شاهداً في هذا ؛ وهو أن يكون الضَّمير كالظرف كما تقول : سِرْتُ الطريق " .

قال أبو حيَّان{[18365]} : " وأمَّا جعلُ ابن عطيَّة الضَّميرَ كالظَّرفِ كما تقول : سِرْتُ الطَّريقَ . فهذا لا يجوزُ عند الجمهور ؛ لأنَّ " الطَّريق " عندهم ظرفٌ مختصٌّ كالدَّار ، فلا يصلُ إليها الفعلُ غير " دَخَلتُ " عند سيبويه ، و " انطلقتُ " و " ذَهَبْتُ " عند الفرَّاء - إلاَّ بوساطة " في " ، إلاَّ في ضرورة ، وإن كان كذلك فضميرهُ أحرى أن لا يتعدَّى إليه الفعل " .

وزعم ابنُ الطَّراوةِ أنَّ " الطَّريقَ " ظرفٌ غيرُ مختصٍّ ، فيصلُ إليه الفعلُ بنفسه ، وأباهُ النُّحَاة " .

قوله : " حتى إِذَا " " حتَّى " متعلقةٌ ب " يُسَيِّركم " ، وقد تقدَّم الكلامُ على " حتَّى " هذه الداخلة على " إذَا " [ النساء : 6 ] ، قال الزمخشري : " كيف جعل الكونَ في الفُلكِ غاية التَّسيير في البَحْر ، والتَّسييرُ في البَحْر ، إنَّما هو بالكون في الفلك ؟ قلت : لَمْ يجعلِ الكون في الفلكِ غاية التَّسيير ، ولكنَّ مضمونَ الجملةِ الشرطيةِ الواقعةِ بعد " حتَّى " بما في حيِّزها ، كأنَّه قال : يُسَيِّركُم حتَّى إذا وقعت هذه الحادثةُ ، فكان كيت وكيت من مجيء الرِّيح العاصفِ ، وتراكُم الأمواج ، والظَّن للهلاك ، والدُّعاء بالإنجاء " ، وقرأ أبو الدَّرْدَاء وأمُّ الدرداء{[18366]} : " في الفُلْكِيّ " بياء النَّسب ، وتخريجها يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يراد به الماءُ الغَمْرُ الكثيرُ ، الذي لا يجري الفلكُ إلاَّ فيه ، كأنَّه قيل : كنتم في اللُّجِّ الفلكيِّ ، ويكون الضمير في " جَرَيْنَ " عائداً على الفلك ؛ لدلالةِ " الفُلْكي " عليه لفظاً ، ولزوماً .

والثاني : أن يكون من باب النِّسبةِ ، كقولهم : " أحْمَرِيٌّ " ، كقوله : [ الرجز ]

أطَرَباً وأنتَ قِنَّسْرِيُّ *** والدَّهْرُ بالإنسَانِ دَوَّارِيُّ{[18367]}

وكنسبتهم إلى العلم ، في قولهم : " الصَّلتَانيّ " ، كقوله : [ الطويل ]

أنَا الصَّلتانِيُّ الذي قَدْ عَلِمْتُمُ*** . . . {[18368]}

فزاد ياء النَّسب في اسمه .

قوله : " وجَريْنَ " يجُوزُ أن يكون نسقاً على " كُنْتُم " ، وأن يكون حالاً على إضمار " قَدْ " ، والضمير عائدٌ على " الفُلْكِ " ، والمراد به هنا : الجمع ، وقد تقدَّم أنه تكسير ، وأنَّ تغييره تقديريٌّ [ البقرة : 164 ] ، فضمَّتُه كضمَّةِ " بُدْن " ، وأنَّهُ ليس باسم جمع كما زعم الأخفشُ .

وقوله : " بِهِمْ " فيه التفاتٌ من الخطاب إلى الغيبة .

قال الزمخشري{[18369]} : " فإن قلت ما فائدةُ صرف الكلامِ ، عن الخطابِ إلى الغيبةِ ؟ قلت : المبالغةُ ؛ كأنه يذكُرُ لغيرهم حالهُ ليُعَجِّبَهم منها ، ويستدعي منهم الإنكارَ والتَّقبيحَ " ، وقال ابنُ عطيَّة : " بِهِمْ : خروجٌ من الخطاب إلى الغَيْبَة ، وحسُنَ ذلك ؛ لأنَّ قوله : " كُنتُمْ في الفُلْكِ " هو بالمعنى المعقُول ، حتى إذا حصل بعضكم في السُّفُن " . انتهى ، فقدَّر اسماً غائباً ، وهو ذلك المضافُ المحذوف ، فالضميرُ الغائب يعود عليه ، ومثله { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ } [ النور : 40 ] ، تقديره : أو كذي ظُلُمات ، وعلى هذا فليس من الالتفات في شيءٍ .

وقال أبو حيَّان : " والذي يظهر أنَّ حكمةَ الالتفاتِ هنا : هي أنَّ قوله { هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ } خطابٌ فيه امتنانٌ ، وإظهارُ نعمةٍ للمخاطبين ، والمُسَيَّرون في البَرِّ والبَحْر مؤمنون وكُفَّار ، والخطابُ شاملٌ ، فحسُنَ خطابُهُم بذلك ، ليستديمَ الصَّالحُ على الشُّكْر ، ولعلَّ الطَّالحَ يتذكَّرُ هذه النّعْمَة .

ولمَّا كان في آخر الآية ما يقتضي أنَّهم إذا نجوا بغَوا في الأرض ، عدلَ عن خطابهم بذلك إلى الغَيْبة ؛ لئلاَّ يخاطب المؤمنين بما لا يليقُ صُدُورُه منهم ، وهو البغيُ بغير الحقِّ " .

قوله : " بريحٍ " متعلِّقٌ ب " جَرَيْنَ " ، فيقال : كيف يتعدَّى فعلٌ واحدٌ ، إلى معمولين بحرف جرٍّ متحدٍ لفظاً ومعنًى ؟ فالجوابُ : أنَّ الياءَ الأولى للتَّعدية ، كهي في " مَرَرْتُ بزَيْدٍ " ، والثانية للحالِ ، فتتعلق بمحذُوف ، والتقدير : جريْنَ بهم مُلتبسةً بريحٍ ، فتكونُ الحالُ من ضميرِ الفُلْكِ .

قوله : " وَفَرِحُواْ بِهَا " يجُوزُ أن تكون هذه الجملةُ نسقاً على " جَرَيْنَ " ، وأن تكُون حالاً ، و " قد " معها مُضْمَرةٌ عند بعضهم ، أي : وقد فَرِحَوا ، وصاحبُ الحَالِ الضَّمير في " بِهِمْ " .

قوله : " جَآءَتْهَا " الظَّاهرُ أنَّ هذه الجملة الفعليَّة جواب " إِذَا " ، وأنَّ الضمير في " جَاءَتْهَا " ضميرُ الرِّيح الطيِّبة ، أي : جاءتِ الريحَ الطَّيبةَ ريحٌ عاصفٌ ، أي : خَلَفْتْهَا ، وبهذا بدأ الزمخشري ، وسبقه إليه الفرَّاء وجوَّز أن يكون الضميرُ للفلك ، ورجَّح هذا بأنَّ الفلك هو المُحَدَّث عنه .

قوله : " وظَنُّوا " يجُوزُ أن يكون معطوفاً على " جَاءَتْهَا " ، الذي هو جوابُ " إذَا " ، ويجوز أن يكون معطوفاً على " كُنتُمْ " ، وهو قولُ الطبري ؛ ولذلك قال : وظَنُّوا جوابه " دعوُا الله " .

قال أبو حيَّان : " ظاهرُه العطفُ على جواب " إذَا " ، لا أنَّه معطوفٌ على كُنتُمْ ، لكنَّه محتمل ، كما تقول : " إذا زَارك فلان أكرمهُ ، وجاءكَ خالدٌ فأحسن إليه " ، وكأنَّ أداةَ الشَّرطِ مذكورةٌ " .

وقرأ زيد{[18370]} بن علي : " حِيطَ " ثلاثيّاً .

قوله : " دَعَوُاْ الله " قال أبو البقاء{[18371]} : " هو جوابُ ما اشتمل عليه المعنى من معنى الشَّرطِ ، تقديره : لمَّا ظنُّوا أنَّهُم أحيط بهم دعوُا الله " ، وهذا كلامٌ فارغٌ ، وقال الزمخشري : " هي بدلٌ من " ظَنُّوا " ؛ لأنَّ دعاءهم من لوازم ظنِّهم الهلاكَ ، فهو مُتلبسٌ به " ، ونقل أبو حيَّان عن شيخه أبي جعفر : " أنَّه جوابٌ لسُؤال مقدَّر ، كأنَّه قيل : فماذا كان حالهم إذ ذاك ؟ فقيل : دَعَوا الله " ، وهذا نقله ابنُ الخطيب عن بعضهم ، و " مُخْلِصينَ " حال ، و " لَهُ " متعلِّقٌ به ، و " الدِّينَ " مفعوله .

قوله : " لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا " : اللاَّمُ : موطئةٌ للقسم المحذوف ، و " لنَكُونَنَّ " : جوابه ، والقسمُ وجوابُهُ : في محلِّ نصب بقول مقدَّر ، وذلك القولُ المقدَّر : في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، والتقديرُ : دعوا قائلين : لَئِن أنْجَيتنَا من هذه لنكُوننَّ ، ويجوزُ أن يجرى " دعَوا " مجرى " قالُوا " لأنَّ الدُّعَاء والقول بمعنى ؛ إذ هو نوعٌ من أنواعه ، وهو مذهبٌ كوفيٌّ .


[18361]:وقرأ بها أيضا زيد بن ثابت وأبي العالية وأبي جعفر وعبد الله بن جبير بن الفصيح وشيبة. ينظر: السبعة ص (335)، الحجة 4/265، حجة القراءات ص (329)، إعراب القراءات 1/265، إتحاف فضلاء البشر 2/107، الكشاف 2/338.
[18362]:ينظر: إتحاف 2/107، المحرر الوجيز 3/113، البحر المحيط 5/141، الدر المصون 4/16.
[18363]:ينظر: البحر المحيط 5/141، الدر المصون 4/16.
[18364]:تقدم.
[18365]:ينظر: البحر المحيط 5/141.
[18366]:ينظر: الكشاف 2/338، المحرر الوجيز 3/113، البحر المحيط 5/142، الدر المصون 4/17.
[18367]:تقدم.
[18368]:صدر بيت وعجزه: متى ما يحكم فهو بالحق صادع *** ... ينظر: أمالي القالي 1/ج141 ومعاهد التنصيص 1/84 والشعر والشعراء 1/176 والمحتسب 1/311 والخزانة 2/176 والأشموني 4/203 والبحر المحيط 5/142، والدر المصون 4/17.
[18369]:ينظر: الكشاف 2/338.
[18370]:ينظر: البحر المحيط 5/142، الدر المصون 4/18.
[18371]:ينظر: الكشاف 2/339.