قوله تعالى : { هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر } الآية .
لمَّا ذكر في الآيةِ الأولى ، مجيء الرَّحمة بعد الضرِّ ، أو الرَّخاء بعد الشدَّة ، ذكر في هذه الآية مثالاً لذلك ، وبياناً لنقل الإنسان من الضرِّ إلى الرحمة ، وذلك أنَّ الإنسان إذا ركب السَّفينة ، ووجد الرِّيح الطيبة الموافقة لمقصوده ، حصل له المسرَّة القويَّة ، والنَّفْع التَّام ، ثم قد تظهرُ علامات الهلاك ؛ بأنْ تجيئهم الرِّياح العاصفة ، أو تأتيهم الأمواج العظيمة من كل جانبٍ ، أو يغلب على ظنونهم أنَّ الهلاكَ واقعٌ بالانتقال من تلك الأحوال الطيِّبة ، إلى هذه الأحوال الشديدة ، فوجب الخوفُ العظيمُ ، والإنسان في هذه الحالة ، لا يطمعُ إلا في فضْلِ الله - سبحانه وتعالى - ، ويقطع طعمهُ عن جميع الخلق ، ويصير بجميع أجزائه مُتضرِّعاً إلى الله - تعالى - ، ثُمَّ إذا نجَّاهُ الله - تعالى - من هذه البليَّة العظيمة ، نسي النِّعمة ، ورجع إلى ما ألفهُ من العقائد الباطلةِ .
قوله : " يَنْشُركم " قراءةُ ابن{[18361]} عامر من النَّشْرِ ضدَّ الطيّ ، والمعنى : يُفَرِّقكم ويَبُثُّكُم ، وقرأ الحسن{[18362]} : " يَنْشِركُم " من " أنْشَر " ، أي : أحْيَا ، وهي قراءةُ ابن مسعودٍ أيضاً ، وقرأ{[18363]} بعضُ الشَّاميين : " يُنَشِّركم " بالتشديد ؛ للتَّكثير من النَّشْر الذي هو مطاوع الانتشار ، وقرأ الباقون : " يُسَيِّركُم " من التَّسْييرِ ، والتَّضعيفُ فيه للتعدية ، تقول : سَارَ الرَّجُل ، وسيَّرْتُهُ أنَا .
وقال الفارسيُّ : " هو تَضْعيفُ مُبَالغةٍ لا تضعيفُ تعديةٍ ؛ لأنَّ العرب تقول : سِرْتُ الرَّجُلَ وسيَّرته " .
ومنه قول الهُذليِّ : [ الطويل ]
فَلا تَجْزَعَنْ مِنْ سُنَّةٍ أنْتَ سِرْتَهَا *** فأوَّلُ رَاضٍ سُنَّةً مَنْ يَسِيرُهَا{[18364]}
وهذا الذي قالهُ أبو علي غير ظاهر ؛ لأنَّ الأكثر في لسان العرب ، أنَّ " سار " قاصرٌ ، فجعلُ المضعف مأخوذاً من الكثير أولى .
وقال ابن عطيَّة : " وَعَلى هذا البيت اعتراضٌ ، حتَّى لا يكون شاهداً في هذا ؛ وهو أن يكون الضَّمير كالظرف كما تقول : سِرْتُ الطريق " .
قال أبو حيَّان{[18365]} : " وأمَّا جعلُ ابن عطيَّة الضَّميرَ كالظَّرفِ كما تقول : سِرْتُ الطَّريقَ . فهذا لا يجوزُ عند الجمهور ؛ لأنَّ " الطَّريق " عندهم ظرفٌ مختصٌّ كالدَّار ، فلا يصلُ إليها الفعلُ غير " دَخَلتُ " عند سيبويه ، و " انطلقتُ " و " ذَهَبْتُ " عند الفرَّاء - إلاَّ بوساطة " في " ، إلاَّ في ضرورة ، وإن كان كذلك فضميرهُ أحرى أن لا يتعدَّى إليه الفعل " .
وزعم ابنُ الطَّراوةِ أنَّ " الطَّريقَ " ظرفٌ غيرُ مختصٍّ ، فيصلُ إليه الفعلُ بنفسه ، وأباهُ النُّحَاة " .
قوله : " حتى إِذَا " " حتَّى " متعلقةٌ ب " يُسَيِّركم " ، وقد تقدَّم الكلامُ على " حتَّى " هذه الداخلة على " إذَا " [ النساء : 6 ] ، قال الزمخشري : " كيف جعل الكونَ في الفُلكِ غاية التَّسيير في البَحْر ، والتَّسييرُ في البَحْر ، إنَّما هو بالكون في الفلك ؟ قلت : لَمْ يجعلِ الكون في الفلكِ غاية التَّسيير ، ولكنَّ مضمونَ الجملةِ الشرطيةِ الواقعةِ بعد " حتَّى " بما في حيِّزها ، كأنَّه قال : يُسَيِّركُم حتَّى إذا وقعت هذه الحادثةُ ، فكان كيت وكيت من مجيء الرِّيح العاصفِ ، وتراكُم الأمواج ، والظَّن للهلاك ، والدُّعاء بالإنجاء " ، وقرأ أبو الدَّرْدَاء وأمُّ الدرداء{[18366]} : " في الفُلْكِيّ " بياء النَّسب ، وتخريجها يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يراد به الماءُ الغَمْرُ الكثيرُ ، الذي لا يجري الفلكُ إلاَّ فيه ، كأنَّه قيل : كنتم في اللُّجِّ الفلكيِّ ، ويكون الضمير في " جَرَيْنَ " عائداً على الفلك ؛ لدلالةِ " الفُلْكي " عليه لفظاً ، ولزوماً .
والثاني : أن يكون من باب النِّسبةِ ، كقولهم : " أحْمَرِيٌّ " ، كقوله : [ الرجز ]
أطَرَباً وأنتَ قِنَّسْرِيُّ *** والدَّهْرُ بالإنسَانِ دَوَّارِيُّ{[18367]}
وكنسبتهم إلى العلم ، في قولهم : " الصَّلتَانيّ " ، كقوله : [ الطويل ]
أنَا الصَّلتانِيُّ الذي قَدْ عَلِمْتُمُ*** . . . {[18368]}
قوله : " وجَريْنَ " يجُوزُ أن يكون نسقاً على " كُنْتُم " ، وأن يكون حالاً على إضمار " قَدْ " ، والضمير عائدٌ على " الفُلْكِ " ، والمراد به هنا : الجمع ، وقد تقدَّم أنه تكسير ، وأنَّ تغييره تقديريٌّ [ البقرة : 164 ] ، فضمَّتُه كضمَّةِ " بُدْن " ، وأنَّهُ ليس باسم جمع كما زعم الأخفشُ .
وقوله : " بِهِمْ " فيه التفاتٌ من الخطاب إلى الغيبة .
قال الزمخشري{[18369]} : " فإن قلت ما فائدةُ صرف الكلامِ ، عن الخطابِ إلى الغيبةِ ؟ قلت : المبالغةُ ؛ كأنه يذكُرُ لغيرهم حالهُ ليُعَجِّبَهم منها ، ويستدعي منهم الإنكارَ والتَّقبيحَ " ، وقال ابنُ عطيَّة : " بِهِمْ : خروجٌ من الخطاب إلى الغَيْبَة ، وحسُنَ ذلك ؛ لأنَّ قوله : " كُنتُمْ في الفُلْكِ " هو بالمعنى المعقُول ، حتى إذا حصل بعضكم في السُّفُن " . انتهى ، فقدَّر اسماً غائباً ، وهو ذلك المضافُ المحذوف ، فالضميرُ الغائب يعود عليه ، ومثله { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ } [ النور : 40 ] ، تقديره : أو كذي ظُلُمات ، وعلى هذا فليس من الالتفات في شيءٍ .
وقال أبو حيَّان : " والذي يظهر أنَّ حكمةَ الالتفاتِ هنا : هي أنَّ قوله { هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ } خطابٌ فيه امتنانٌ ، وإظهارُ نعمةٍ للمخاطبين ، والمُسَيَّرون في البَرِّ والبَحْر مؤمنون وكُفَّار ، والخطابُ شاملٌ ، فحسُنَ خطابُهُم بذلك ، ليستديمَ الصَّالحُ على الشُّكْر ، ولعلَّ الطَّالحَ يتذكَّرُ هذه النّعْمَة .
ولمَّا كان في آخر الآية ما يقتضي أنَّهم إذا نجوا بغَوا في الأرض ، عدلَ عن خطابهم بذلك إلى الغَيْبة ؛ لئلاَّ يخاطب المؤمنين بما لا يليقُ صُدُورُه منهم ، وهو البغيُ بغير الحقِّ " .
قوله : " بريحٍ " متعلِّقٌ ب " جَرَيْنَ " ، فيقال : كيف يتعدَّى فعلٌ واحدٌ ، إلى معمولين بحرف جرٍّ متحدٍ لفظاً ومعنًى ؟ فالجوابُ : أنَّ الياءَ الأولى للتَّعدية ، كهي في " مَرَرْتُ بزَيْدٍ " ، والثانية للحالِ ، فتتعلق بمحذُوف ، والتقدير : جريْنَ بهم مُلتبسةً بريحٍ ، فتكونُ الحالُ من ضميرِ الفُلْكِ .
قوله : " وَفَرِحُواْ بِهَا " يجُوزُ أن تكون هذه الجملةُ نسقاً على " جَرَيْنَ " ، وأن تكُون حالاً ، و " قد " معها مُضْمَرةٌ عند بعضهم ، أي : وقد فَرِحَوا ، وصاحبُ الحَالِ الضَّمير في " بِهِمْ " .
قوله : " جَآءَتْهَا " الظَّاهرُ أنَّ هذه الجملة الفعليَّة جواب " إِذَا " ، وأنَّ الضمير في " جَاءَتْهَا " ضميرُ الرِّيح الطيِّبة ، أي : جاءتِ الريحَ الطَّيبةَ ريحٌ عاصفٌ ، أي : خَلَفْتْهَا ، وبهذا بدأ الزمخشري ، وسبقه إليه الفرَّاء وجوَّز أن يكون الضميرُ للفلك ، ورجَّح هذا بأنَّ الفلك هو المُحَدَّث عنه .
قوله : " وظَنُّوا " يجُوزُ أن يكون معطوفاً على " جَاءَتْهَا " ، الذي هو جوابُ " إذَا " ، ويجوز أن يكون معطوفاً على " كُنتُمْ " ، وهو قولُ الطبري ؛ ولذلك قال : وظَنُّوا جوابه " دعوُا الله " .
قال أبو حيَّان : " ظاهرُه العطفُ على جواب " إذَا " ، لا أنَّه معطوفٌ على كُنتُمْ ، لكنَّه محتمل ، كما تقول : " إذا زَارك فلان أكرمهُ ، وجاءكَ خالدٌ فأحسن إليه " ، وكأنَّ أداةَ الشَّرطِ مذكورةٌ " .
وقرأ زيد{[18370]} بن علي : " حِيطَ " ثلاثيّاً .
قوله : " دَعَوُاْ الله " قال أبو البقاء{[18371]} : " هو جوابُ ما اشتمل عليه المعنى من معنى الشَّرطِ ، تقديره : لمَّا ظنُّوا أنَّهُم أحيط بهم دعوُا الله " ، وهذا كلامٌ فارغٌ ، وقال الزمخشري : " هي بدلٌ من " ظَنُّوا " ؛ لأنَّ دعاءهم من لوازم ظنِّهم الهلاكَ ، فهو مُتلبسٌ به " ، ونقل أبو حيَّان عن شيخه أبي جعفر : " أنَّه جوابٌ لسُؤال مقدَّر ، كأنَّه قيل : فماذا كان حالهم إذ ذاك ؟ فقيل : دَعَوا الله " ، وهذا نقله ابنُ الخطيب عن بعضهم ، و " مُخْلِصينَ " حال ، و " لَهُ " متعلِّقٌ به ، و " الدِّينَ " مفعوله .
قوله : " لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا " : اللاَّمُ : موطئةٌ للقسم المحذوف ، و " لنَكُونَنَّ " : جوابه ، والقسمُ وجوابُهُ : في محلِّ نصب بقول مقدَّر ، وذلك القولُ المقدَّر : في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، والتقديرُ : دعوا قائلين : لَئِن أنْجَيتنَا من هذه لنكُوننَّ ، ويجوزُ أن يجرى " دعَوا " مجرى " قالُوا " لأنَّ الدُّعَاء والقول بمعنى ؛ إذ هو نوعٌ من أنواعه ، وهو مذهبٌ كوفيٌّ .