قوله تعالى : { واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ } الآية .
لمَّا بالغ في تقرير الدَّلائل ، والجواب عن الشُّبه ، شرع في بيان قصص الأنبياء ؛ لوجوه :
الأول : أنَّ الكلام إذا طال في تقرير نوع من أنواع العُلُوم ؛ فربَّما حصل نوع من الملالة ، فإذا انتقل الإنسان من ذلك الفنِّ إلى فنٍّ آخر ، انشرح ، ووجد في نفسه رغبةً شديدةً .
الثاني : ليتأسَّى الرسول وأصحابه بمن سلف من الأنبياء ؛ فإنَّ الرسول إذا سمع أن معاملة هؤلاء الكُفَّار مع الرسل ما كانت إلا على هذا الوجه ، خفَّ ذلك على قلبه ، كما يقال : إن المصيبة إذا عمَّتْ خفَّتْ .
الثالث : أنَّ الكُفَّار إذا سمعُوا هذه القصص ، وعلموا أنَّ الجُهَّال وإن بالغُوا في إيذاء الأنبياء المتقدِّمين ، إلاَّ أنَّ الله - تعالى - أعانهم بالآخرة ، ونصرهم ، وأيَّدهُم ، وقهر أعداءهم ، كان سماع هؤلاء الكُفَّار لهذه القصص ، سبباً لانكسار قلوبهم ، ووقوعِ الخوف في صدورهم ؛ فحينئذٍ يُقَلِّلُون من الأذى والسَّفاهة .
الرابع : أنَّ محمَّداً - عليه الصلاة والسلام - لمَّا لمْ يتعلَّم علماً ، ولم يطالع كتاباً ، ثم ذكر هذه القصص من غير تفاوُتٍ ، ومن غير زيادة ولا نقصان ، دلَّ ذلك على أنَّه - عليه الصلاة والسلام - إنَّما عرفها بالوحْي والتنزيل ، وحذفت الواو من " اتْلُ " لأنه أمر . قوله : " إذْ قال " يجوز أن تكون " إذْ " معمولةً ل " نَبَأ " ويجوز أن تكون بدلاً من " نَبَأ " بدل اشتمال ، وجوَّز أبو البقاء : أن تكون حالاً من " نَبَأ " وليس بظاهر ، ولا يجوزُ أن يكون منصوباً ب " اتلُ " لفساده ؛ إذ " اتْلُ " مستقبلٌ ، و " إذ " ماضٍ ، و " لِقوْمِهِ " اللام : إمَّا للتبليغ ، وهو الظاهرُ ، وإمَّا للعِلَّة ، وليس بظاهرٍ .
قال المفسرون : " قون نُوح هم : ولد قابيل " .
قوله : { كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي } من باب الإسناد المجازيِّ ؛ كقولهم : " ثَقُلَ عليَّ ظلُّه " .
وقرأ أبو رجاء ، وأبو مجلز{[18532]} ، وأبو الجوزاء : " مُقَامِي " بضمِّ الميم ، و " المقام " بالفتح : مكان القيام ، وبالضم : مكان الإقامة ، أو الإقامة نفسها .
وقال ابن عطيَّة{[18533]} : " ولم يُقْرَأ هنا بضمِّ الميم " . كأنَّه لم يطَّلع على قراءة هؤلاء .
قال الواحدي : يقال : كَبُرَ يَكبُرُ كِبراً في السِّنِّ ، وكَبُرَ الأمرُ والشيء ، إذا عظم ، يَكْبُرُ كِبَراً وكُبَّارة ، قال ابن عبَّاس : " ثقُل عليكم ، وشقَّ عليكم " وأراد بالمقام ههنا : مُكْثَهُ{[18534]} .
الأول : أنَّه - عليه الصلاة والسلام - مكث فيهم ألف سنةٍ إلاَّ خمسين عاماً .
والثاني : أنَّ أولئك الكُفَّار كانوا قد ألفوا تلك المذاهب الفاسدة ، ومن ألف طريقة في الدِّين ؛ فإنه يثقل عليه أن يدعي إلى خلافها ؛ فإن اقترن بذلك طول مُدَّة الدُّعاءِ ، كان أثقل ، وأشدّ كراهية ، وقوله { وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ الله } : بحُجَجِه وبيناته .
قوله : { فَعَلَى الله } جواب الشَّرط ، وقوله { فأجمعوا } عطف على الجواب ، ولم يذكر أبُو البقاء غيره ، واستُشْكِل عليه أنَّه متوكلٌ على الله دائماً ، كبُر عليهم مقامُه أوْ لمْ يَكْبُرْ .
وقيل : جوابُ الشَّرط قوله : " فأجْمِعُوا " وقوله : { فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ } : جملةٌ اعتراضية بين الشَّرطِ وجوابه ؛ وهو كقول الشاعر : [ الكامل ]
إمَّا تَرَيْنِي قَد نَحَلٍْتُ ومَنْ يكُنْ *** غَرضاً لأطْرَافِ الأسنَّةِ يَنْحَلِ
فلرُبَّ أبْلَجَ مثلِ ثِقْلِكِ بَادِنٍ *** ضَخْمٍ على ظَهْرِ الجَوَادِ مُهَيَّلِ{[18535]}
وقيل : الجوابُ محذوفٌ ، أي : فافْعَلُوا ما شِئْتُم .
وقرأ العامَّة " " فأجْمِعُوا " أمْراً من " أجْمَع " بهزة القطع ، يقال : أجمع في المعاني ، وجمع في الأعيان ، فيقال : أجْمَعْتُ أمري ، وجمعتُ الجيشَ ، هذا هو الأكثر . قال الحارثُ بن حلِّزة : [ الخفيف ]
أجْمَعُوا أمْرَهُمْ بِليْلٍ فلمَّا *** أصْبَحُوا أصْبَحَتْ لَهُمْ ضَوْضَاءُ{[18536]}
يَا لَيْتَ شِعْرِي والمُنَى لا تَنْفَعُ *** هَلْ أغْدُوَنْ يَوْماً وأمْرِي مُجْمَعُ ؟{[18537]}
وهل أجمع متعدِّ بنفسه ، أو بحرف جر ثم حذف اتساعاً ؟ .
فقال أبو البقاء : من قولك أجمعتُ على الأمْرِ : إذا عزمتَ عليه ؛ إلاَّ أنَّه حُذفَ حرفُ الجر فوصل الفعل إليه ، وقيل : هو متعدٍّ بنفسه ، وأنشد قول الحارث .
وقال أبو فيد السَّدُوسي : أجمعت الأمر ، أفصحُ من أجمعت عليه .
وقال أبو الهيثم : أجمع أمرهُ جعلهُ مجموعاً بعد ما كان متفرقاً ، قال : وتفرقته أن يقول مرَّة افعل كذا ، ومرَّة افعل كذا ، وإذا عزم على أمرٍ واحدٍ ، فقد جمعه أي : جعله جميعاً ، فهذا هو الأصلُ في الإجماع ، ثم صار بمعنى : العزْم ، حتى وصل ب " عَلَى " فقيل : أجمعتُ على الأمر ؛ أي : عَزَمْتُ عليه ، والأصلُ : أجمعتُ الأمرَ .
وقرأ العامَّةُ : " وشُركَاءَكُم " نصباً وفيه أوجه :
أحدها : أنَّه معطوفٌ على " أمركُم " بتقدير حذف مضافٍ ، أي : وأمر شركائكم ؛ كقوله : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] ، ودلَّ على ذلك ما تقدَّم من أنَّ " أجمع " للمعاني .
الثاني : أنَّه عطفٌ عليه من غير تقدير حذف مضافٍ ، قيل : لأنَّه يقال أيضاً : أجمعت شركائي .
الثالث : أنَّه منصوبٌ بإضمار فعلٍ لائق ، واجمعُوا شركاءكم بوصل الهمزة ، وقيل : تقديره : وادعوا ، وكذلك هي في مصحف أبيِّ " وادعوا " فأضمر فعلاً لائقاً ؛ كقوله - تعالى - : { والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان } [ الحشر : 9 ] ، أي : واعتقدوا الإيمان .
عَلفتُهَا تِبْناً ومَاءً بَارِداً *** حتَّى شَتَتْ همَّالةً عَيْنَاهَا{[18538]}
أي : وسقيتها ماءً ؛ وكقوله : [ مجزوء الكامل ]
يا لَيْتَ زَوْجَك قَدْ غَدَا *** مُتَقَلِّداً سَيْفاً ورُمْحَا{[18539]}
إذَا مَا الغَانِيَاتُ يَرَزْنَ يَوْماً *** وزجَّجْنَ الحَواجِبَ والعُيُونَا{[18540]}
يريد : ومُعْتَقِلاً رمحاً ، وكحَّلنَ العُيُونا ، وقد تقدَّم أنَّ في هذه الأماكن غير هذا التخريج .
الرابع : أنه مفعولٌ معه ، أي : " مع شُركائكم " .
قال الفارسيُّ : وقد يُنْصَب الشُّرَكاء بواو " مع " ، كما قالوا : جاء البرد والطَّيالسة ، ولم يذكر الزَّمخشريُّ غير قول أبي علي .
قال الزَّجَّاج : " معناه : فأجمعُوا أمركم مع شُركائِكُم ، فلما ترك انتصب " .
قال أبو حيَّان : " وينبغي أن يكون هذا التخريجُ على أنَّه مفعولٌ معه من الفاعل ، وهو الضمير في " فأجْمِعُوا " لا من المفعول الذي هو " أمْرَكُمْ " وذلك على أشهر الاستعمالين ؛ لأنَّه يقال : " أجمع الشركاءُ أمرهم " ولا يقال : " جمع الشركاء أمرهم " إلا قليلاً " .
قال شهاب الدين : يعني : أنَّهُ إذا جعلناه مفعولاً معه من الفاعل ، كان جائزاً بلا خلافٍ ، وذلك لأنَّ من النَّحويين من اشترط في صحَّة نصب المفعول معه : أن يصلح عطفُه على ما قبله ، فإنْ لَمْ يصلح عطفه ، لم يصحَّ نصبُه مفعولاً معه ، فلو جعلناه من المفعول لم يجز على المشهور ، إذ لا يصلح عطفه على ما قبله ؛ إذ لا يقال : أجمعت شركائي ، بل جمعت .
وقرأ الزهري ، والأعمش ، والأعرج ، والجحدري{[18541]} ، وأبو رجاء ، ويعقوب ، والأصمعي عن نافع : " فاجْمَعُوا " بوصل الألف ، وفتح الميم من جمع يجْمَعُ ، و " شُرَكاءكُمْ " على هذه القراءةِ يتضح نصبه نسقاً على ما قبله ، ويجوز فيه ما تقدَّم في القراءة الأولى من الأوجه .
قال صاحبُ اللوامح : أجمعت الأمر : أي : جعلته جميعاً ، وجمعتُ الأموال جمعاً ، فكان الإجماع في الأحداث ، والجمعُ في الأعيان ، وقد يستعمل كلُّ واحدٍ مكان الآخر ، وفي التنزيل : { فَجَمَعَ كَيْدَهُ } [ طه : 60 ] وقد اختلف القراء في قوله : { فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ } [ طه : 64 ] .
فقرأ الستَّة : بقطع الهمزة ، جعلوه من " أجْمع " وهو موافق لما قيل : إنَّ " أجْمَع " في المعاني .
وقرأ أبو{[18542]} عمرو وحدهُ " فاجْمَعُوا " بوصل الألف ، وقد اتفقوا على قوله { فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أتى } [ طه : 60 ] ، فإنَّه من الثلاثي ، مع أنَّه متسلِّطٌ على معنًى ، لا عينٍ .
ومنهم من جعل للثلاثي معنى غير معنى الرُّباعي ؛ فقال في قراءة أبي عمرو : من جمع يَجْمع ضد فرَّق يفرق ، وجعل قراءة الباقين من : أجمع أمرهُ إذا أحكمه وعزم عليه ، ومنه قول الشاعر : [ الرجز ]
يَا ليتَ شِعْرِي والمُنَى لا تَنْفَعُ *** هَلْ أغْدُونْ يوماً وأمْرِي مُجْمَع ؟{[18543]}
وقيل : المعنى : فاجمعوا على كيدكم ؛ فحذف حرف الجرِّ .
وقرأ الحسن ، والسلمي ، وعيسى بن عمر ، وابن أبي إسحاق ، وسلام{[18544]} ، ويعقوب : " وشُرَكاؤكُمْ " رفعاً ، وفيه تخريجان :
أحدهما : أنَّه نسقٌ على الضَّمير المرفوع ب " أجْمِعُوا " قبله ، وجاز ذلك ؛ إذ الفصل بالمفعول سوَّغ العطف .
والثاني : أنه مبتدأ محذوف الخبر ، تقديره : وشُركاؤكُم فليُجْمِعُوا أمرهم ، وشذَّتْ فرقةٌ فقرأت{[18545]} : " وشُرَكائِكُمْ " بالخفضِ ، ووُجِّهَتْ على حذف المضاف ، وإبقاء المضاف إليه مجرُوراً على حاله ؛ كقول الشاعر :
أكُلَّ امرِئٍ تَحْسِبينَ امْرَءًا *** ونَارٍ توقَّدُ باللَّيْل نَارَا{[18546]}
أي : وكُلَّ نار ، فتقدير الآية : وأمر شركائكم ؛ فحذف الأمر ، وأبقى ما بعده على حاله ، ومن رأى برأي الكوفيين جوَّزَ عطفه على الضَّمير في " أمركم " من غير تأويل ، وقد تقدَّم ما فيه من المذاهب ، أعني : العطف على الضَّمير المجرور من غير إعادة الجارِّ في سُورة البقرة .
قوله : " غُمَّةً " يقال : غمٌّ وغُمَّةٌ ، نحو كَرْبٌ وكُربَةٌ .
قال أبو الهيثم : هو من قولهم : غمَّ علينا الهلالُ ، فهو مغمومٌ إذا التمسَ ، فلم يُرَ ؛ قال طرفةُ بن العبد : [ الطويل ]
لعَمْرُكَ ما أمْرِي عليَّ بغُمَّةٍ *** نَهَاري ولا لَيْلِي عليَّ بِسرمَدِ{[18547]}
وقال اللَّيث : يقال : هُو في غُمَّةٍ من أمره ، إذا لَمْ يتبيَّنْ لهُ .
قوله : { ثُمَّ اقضوا } مفعول " اقضوا " محذوف ، أي : اقضُوا إليَّ ذلك الأمر الذي تريدون إيقاعه بي ؛ كقوله : { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر } [ الحجر : 66 ] فعدَّاه لمفعول صريح .
وقرأ السَّري{[18548]} : " ثُمَّ أفْضُوا " بقطع الهمزة والفاء ، من أفْضى يُفضِي إذا انتهى ، يقال : أفضَيْتُ إليك ، قال تعالى : { وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ } [ النساء : 21 ] ، فالمعنى : ثُمَّ أفضُوا إليَّ سرَّكم ، أي : انتهوا به إليَّ ، وقيل : معناه : أسْرِعُوا به إليَّ ، وقيل : هو مِنْ أفْضَى ، أي : خَرَجَ إلى الفضاءِ ، أي : فأصْحِرُوا به إليَّ ، وأبرزُوه لي ؛ كقوله : [ الطويل ]
أبَى الضَّيْمَ والنُّعْمَانُ يَحْرِقُ نابهُ *** عليه فأفْضَى والسُّيُوفُ معاقِلُه{[18549]}
ولامُ الفضاءِ واوٌ ؛ لأنَّه من فضا يَفْضُو ، أي : اتَّسعَ ، والمعنى : فأحكمُوا أمركُم ، واعزِمُوا وادعُوا شُركَاءَكُم ، أي : آلهتكُم ، فاستعينوا بها لتجتمع .
وروى الأصمعي ، عن نافع : " فأجمعُوا ذوي الأمر منكم " فحذف المضاف ، وجرى على المضاف إليه ما كان يجري على المضاف لو ثبت .
قال ابن الأنباري : المرادُ من الأمر هنا : وجوه كيدهم ، ومكرهم ، والتقدير : لا تتركوا مِن أمركُم شيئاً إلا أحضرتُمُوه . والمراد من الشركاء : إما الأوثان ؛ لأنَّهم كانوا يعتقدون أنَّها تَضُرُّ وتنفعُ ، وإمَّا أن يكون المرادُ : من كان على مثل دينهم .
{ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً } أي : خفيًّا مبهماً ، من قولهم : غَمَّ الهلالُ على النَّاسِ ، أي : أشْكل عليهم ، فهو مغمومٌ إذا خفي . " ثُمَّ اقضُوا " أي : امضُوا ، " إليَّ " : بما في أنفسكم من مكروه وافرغوا منه ، يقال : قضى فلان : إذا مات ، وقضى دينه : إذا فرغ منه ، وقيل معناه : توجَّهُوا إليَّ بالقتل والمكروه ، وقيل : " فاقْضُوا ما أنتم قاضُون " كقول السَّحرة لفرعون " { فاقض مَآ أَنتَ قَاضٍ } [ طه : 72 ] .
قال القفال : ومجاز دُخُول كلمة " إلى " في هذا الموضع من قولهم : برئت إليك ، وخرجت إليك من العهد ، وفيه معنى الإخبار ؛ فكأنَّه - تعالى - قال : ثم اقضُوا إليَّ ما يستقرُّ رأيكم عليه محكماً مفروغاً منه ، ثم لا تنظرون أي : لا تمهلون ولا تُؤخِّرُون .
وقد نظَّم القاضي هذا الكلام على أحسن الوجوه ، فقال : إنه - عليه الصلاة والسلام - قال في أول الأمر : فعلى الله توكلت ؛ فإنِّي واثقٌ بوعد الله ، جازم بأنَّه لا يخلفُ الميعاد ، فلا تظُنُّوا أنَّ تهديدكم إيَّاي بالقتلِ والإيذاء يمنعني من الدُّعاء إلى الله ثم إنَّه - عليه الصلاة والسلام - أورد عليهم ما يدل على صحة دعواهُ ، فقال : { فأجمعوا أَمْرَكُمْ } كأنَّهُ يقول : اجمعوا ما تقدرُون عليه من الأشياء التي توجبُ حُصُول مطلوبكم ، ثم لم يقتصر على ذلك ، بل أمرهم أن يضُمُّوا إلى أنفسهم شركاءهم الذين كانوا يزعمون أنَّ حالهم يقوى بمكانتهم وبالتَّقَرُّب إليهم ، ثم لم يقتصر على هذين ، بل ضمَّ إليهما ثالثاً ، وهو قوله : { ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً } أراد أن يبلغوا فيه كل غايةٍ في المكاشفةِ والمجاهرة ، ثم لم يقتصر على ذلك ، بل ضمَّ إليها رابعاً ، فقال : { ثُمَّ اقضوا إِلَيَّ } والمراد : أن وجهوا كلَّ تلك الشُّرُور إليَّ ، ثم ضمَّ إلى ذلك خامساً ، وهو قوله : { لاَ تُنظِرُونَ } أي : عجِّلُوا ذلك بأشد ما تقدرون عليه من غير انتظار ، ومعلومٌ أنَّ مثل هذا الكلام يدل على أنه - عليه الصلاة والسلام - كان قد بلغ الغاية في التوكل على الله ، وأنَّه كان قاطعاً بأنَّ كيدهم لا يضرُّه ، ولا يصل إليه ، ومكرهم لا ينفذُ فيه .