اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ نُوحٍ إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيۡكُم مَّقَامِي وَتَذۡكِيرِي بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلۡتُ فَأَجۡمِعُوٓاْ أَمۡرَكُمۡ وَشُرَكَآءَكُمۡ ثُمَّ لَا يَكُنۡ أَمۡرُكُمۡ عَلَيۡكُمۡ غُمَّةٗ ثُمَّ ٱقۡضُوٓاْ إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ} (71)

قوله تعالى : { واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ } الآية .

لمَّا بالغ في تقرير الدَّلائل ، والجواب عن الشُّبه ، شرع في بيان قصص الأنبياء ؛ لوجوه :

الأول : أنَّ الكلام إذا طال في تقرير نوع من أنواع العُلُوم ؛ فربَّما حصل نوع من الملالة ، فإذا انتقل الإنسان من ذلك الفنِّ إلى فنٍّ آخر ، انشرح ، ووجد في نفسه رغبةً شديدةً .

الثاني : ليتأسَّى الرسول وأصحابه بمن سلف من الأنبياء ؛ فإنَّ الرسول إذا سمع أن معاملة هؤلاء الكُفَّار مع الرسل ما كانت إلا على هذا الوجه ، خفَّ ذلك على قلبه ، كما يقال : إن المصيبة إذا عمَّتْ خفَّتْ .

الثالث : أنَّ الكُفَّار إذا سمعُوا هذه القصص ، وعلموا أنَّ الجُهَّال وإن بالغُوا في إيذاء الأنبياء المتقدِّمين ، إلاَّ أنَّ الله - تعالى - أعانهم بالآخرة ، ونصرهم ، وأيَّدهُم ، وقهر أعداءهم ، كان سماع هؤلاء الكُفَّار لهذه القصص ، سبباً لانكسار قلوبهم ، ووقوعِ الخوف في صدورهم ؛ فحينئذٍ يُقَلِّلُون من الأذى والسَّفاهة .

الرابع : أنَّ محمَّداً - عليه الصلاة والسلام - لمَّا لمْ يتعلَّم علماً ، ولم يطالع كتاباً ، ثم ذكر هذه القصص من غير تفاوُتٍ ، ومن غير زيادة ولا نقصان ، دلَّ ذلك على أنَّه - عليه الصلاة والسلام - إنَّما عرفها بالوحْي والتنزيل ، وحذفت الواو من " اتْلُ " لأنه أمر . قوله : " إذْ قال " يجوز أن تكون " إذْ " معمولةً ل " نَبَأ " ويجوز أن تكون بدلاً من " نَبَأ " بدل اشتمال ، وجوَّز أبو البقاء : أن تكون حالاً من " نَبَأ " وليس بظاهر ، ولا يجوزُ أن يكون منصوباً ب " اتلُ " لفساده ؛ إذ " اتْلُ " مستقبلٌ ، و " إذ " ماضٍ ، و " لِقوْمِهِ " اللام : إمَّا للتبليغ ، وهو الظاهرُ ، وإمَّا للعِلَّة ، وليس بظاهرٍ .

قال المفسرون : " قون نُوح هم : ولد قابيل " .

قوله : { كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي } من باب الإسناد المجازيِّ ؛ كقولهم : " ثَقُلَ عليَّ ظلُّه " .

وقرأ أبو رجاء ، وأبو مجلز{[18532]} ، وأبو الجوزاء : " مُقَامِي " بضمِّ الميم ، و " المقام " بالفتح : مكان القيام ، وبالضم : مكان الإقامة ، أو الإقامة نفسها .

وقال ابن عطيَّة{[18533]} : " ولم يُقْرَأ هنا بضمِّ الميم " . كأنَّه لم يطَّلع على قراءة هؤلاء .

قال الواحدي : يقال : كَبُرَ يَكبُرُ كِبراً في السِّنِّ ، وكَبُرَ الأمرُ والشيء ، إذا عظم ، يَكْبُرُ كِبَراً وكُبَّارة ، قال ابن عبَّاس : " ثقُل عليكم ، وشقَّ عليكم " وأراد بالمقام ههنا : مُكْثَهُ{[18534]} .

وسبب هذا الثِّقل أمران :

الأول : أنَّه - عليه الصلاة والسلام - مكث فيهم ألف سنةٍ إلاَّ خمسين عاماً .

والثاني : أنَّ أولئك الكُفَّار كانوا قد ألفوا تلك المذاهب الفاسدة ، ومن ألف طريقة في الدِّين ؛ فإنه يثقل عليه أن يدعي إلى خلافها ؛ فإن اقترن بذلك طول مُدَّة الدُّعاءِ ، كان أثقل ، وأشدّ كراهية ، وقوله { وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ الله } : بحُجَجِه وبيناته .

قوله : { فَعَلَى الله } جواب الشَّرط ، وقوله { فأجمعوا } عطف على الجواب ، ولم يذكر أبُو البقاء غيره ، واستُشْكِل عليه أنَّه متوكلٌ على الله دائماً ، كبُر عليهم مقامُه أوْ لمْ يَكْبُرْ .

وقيل : جوابُ الشَّرط قوله : " فأجْمِعُوا " وقوله : { فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ } : جملةٌ اعتراضية بين الشَّرطِ وجوابه ؛ وهو كقول الشاعر : [ الكامل ]

إمَّا تَرَيْنِي قَد نَحَلٍْتُ ومَنْ يكُنْ *** غَرضاً لأطْرَافِ الأسنَّةِ يَنْحَلِ

فلرُبَّ أبْلَجَ مثلِ ثِقْلِكِ بَادِنٍ *** ضَخْمٍ على ظَهْرِ الجَوَادِ مُهَيَّلِ{[18535]}

وقيل : الجوابُ محذوفٌ ، أي : فافْعَلُوا ما شِئْتُم .

وقرأ العامَّة " " فأجْمِعُوا " أمْراً من " أجْمَع " بهزة القطع ، يقال : أجمع في المعاني ، وجمع في الأعيان ، فيقال : أجْمَعْتُ أمري ، وجمعتُ الجيشَ ، هذا هو الأكثر . قال الحارثُ بن حلِّزة : [ الخفيف ]

أجْمَعُوا أمْرَهُمْ بِليْلٍ فلمَّا *** أصْبَحُوا أصْبَحَتْ لَهُمْ ضَوْضَاءُ{[18536]}

وقال آخر : [ الرجز ]

يَا لَيْتَ شِعْرِي والمُنَى لا تَنْفَعُ *** هَلْ أغْدُوَنْ يَوْماً وأمْرِي مُجْمَعُ ؟{[18537]}

وهل أجمع متعدِّ بنفسه ، أو بحرف جر ثم حذف اتساعاً ؟ .

فقال أبو البقاء : من قولك أجمعتُ على الأمْرِ : إذا عزمتَ عليه ؛ إلاَّ أنَّه حُذفَ حرفُ الجر فوصل الفعل إليه ، وقيل : هو متعدٍّ بنفسه ، وأنشد قول الحارث .

وقال أبو فيد السَّدُوسي : أجمعت الأمر ، أفصحُ من أجمعت عليه .

وقال أبو الهيثم : أجمع أمرهُ جعلهُ مجموعاً بعد ما كان متفرقاً ، قال : وتفرقته أن يقول مرَّة افعل كذا ، ومرَّة افعل كذا ، وإذا عزم على أمرٍ واحدٍ ، فقد جمعه أي : جعله جميعاً ، فهذا هو الأصلُ في الإجماع ، ثم صار بمعنى : العزْم ، حتى وصل ب " عَلَى " فقيل : أجمعتُ على الأمر ؛ أي : عَزَمْتُ عليه ، والأصلُ : أجمعتُ الأمرَ .

وقرأ العامَّةُ : " وشُركَاءَكُم " نصباً وفيه أوجه :

أحدها : أنَّه معطوفٌ على " أمركُم " بتقدير حذف مضافٍ ، أي : وأمر شركائكم ؛ كقوله : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] ، ودلَّ على ذلك ما تقدَّم من أنَّ " أجمع " للمعاني .

الثاني : أنَّه عطفٌ عليه من غير تقدير حذف مضافٍ ، قيل : لأنَّه يقال أيضاً : أجمعت شركائي .

الثالث : أنَّه منصوبٌ بإضمار فعلٍ لائق ، واجمعُوا شركاءكم بوصل الهمزة ، وقيل : تقديره : وادعوا ، وكذلك هي في مصحف أبيِّ " وادعوا " فأضمر فعلاً لائقاً ؛ كقوله - تعالى - : { والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان } [ الحشر : 9 ] ، أي : واعتقدوا الإيمان .

ومثله قول الآخر : [ الرجز ]

عَلفتُهَا تِبْناً ومَاءً بَارِداً *** حتَّى شَتَتْ همَّالةً عَيْنَاهَا{[18538]}

أي : وسقيتها ماءً ؛ وكقوله : [ مجزوء الكامل ]

يا لَيْتَ زَوْجَك قَدْ غَدَا *** مُتَقَلِّداً سَيْفاً ورُمْحَا{[18539]}

وقول الآخر : [ الوافر ]

إذَا مَا الغَانِيَاتُ يَرَزْنَ يَوْماً *** وزجَّجْنَ الحَواجِبَ والعُيُونَا{[18540]}

يريد : ومُعْتَقِلاً رمحاً ، وكحَّلنَ العُيُونا ، وقد تقدَّم أنَّ في هذه الأماكن غير هذا التخريج .

الرابع : أنه مفعولٌ معه ، أي : " مع شُركائكم " .

قال الفارسيُّ : وقد يُنْصَب الشُّرَكاء بواو " مع " ، كما قالوا : جاء البرد والطَّيالسة ، ولم يذكر الزَّمخشريُّ غير قول أبي علي .

قال الزَّجَّاج : " معناه : فأجمعُوا أمركم مع شُركائِكُم ، فلما ترك انتصب " .

قال أبو حيَّان : " وينبغي أن يكون هذا التخريجُ على أنَّه مفعولٌ معه من الفاعل ، وهو الضمير في " فأجْمِعُوا " لا من المفعول الذي هو " أمْرَكُمْ " وذلك على أشهر الاستعمالين ؛ لأنَّه يقال : " أجمع الشركاءُ أمرهم " ولا يقال : " جمع الشركاء أمرهم " إلا قليلاً " .

قال شهاب الدين : يعني : أنَّهُ إذا جعلناه مفعولاً معه من الفاعل ، كان جائزاً بلا خلافٍ ، وذلك لأنَّ من النَّحويين من اشترط في صحَّة نصب المفعول معه : أن يصلح عطفُه على ما قبله ، فإنْ لَمْ يصلح عطفه ، لم يصحَّ نصبُه مفعولاً معه ، فلو جعلناه من المفعول لم يجز على المشهور ، إذ لا يصلح عطفه على ما قبله ؛ إذ لا يقال : أجمعت شركائي ، بل جمعت .

وقرأ الزهري ، والأعمش ، والأعرج ، والجحدري{[18541]} ، وأبو رجاء ، ويعقوب ، والأصمعي عن نافع : " فاجْمَعُوا " بوصل الألف ، وفتح الميم من جمع يجْمَعُ ، و " شُرَكاءكُمْ " على هذه القراءةِ يتضح نصبه نسقاً على ما قبله ، ويجوز فيه ما تقدَّم في القراءة الأولى من الأوجه .

قال صاحبُ اللوامح : أجمعت الأمر : أي : جعلته جميعاً ، وجمعتُ الأموال جمعاً ، فكان الإجماع في الأحداث ، والجمعُ في الأعيان ، وقد يستعمل كلُّ واحدٍ مكان الآخر ، وفي التنزيل : { فَجَمَعَ كَيْدَهُ } [ طه : 60 ] وقد اختلف القراء في قوله : { فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ } [ طه : 64 ] .

فقرأ الستَّة : بقطع الهمزة ، جعلوه من " أجْمع " وهو موافق لما قيل : إنَّ " أجْمَع " في المعاني .

وقرأ أبو{[18542]} عمرو وحدهُ " فاجْمَعُوا " بوصل الألف ، وقد اتفقوا على قوله { فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أتى } [ طه : 60 ] ، فإنَّه من الثلاثي ، مع أنَّه متسلِّطٌ على معنًى ، لا عينٍ .

ومنهم من جعل للثلاثي معنى غير معنى الرُّباعي ؛ فقال في قراءة أبي عمرو : من جمع يَجْمع ضد فرَّق يفرق ، وجعل قراءة الباقين من : أجمع أمرهُ إذا أحكمه وعزم عليه ، ومنه قول الشاعر : [ الرجز ]

يَا ليتَ شِعْرِي والمُنَى لا تَنْفَعُ *** هَلْ أغْدُونْ يوماً وأمْرِي مُجْمَع ؟{[18543]}

وقيل : المعنى : فاجمعوا على كيدكم ؛ فحذف حرف الجرِّ .

وقرأ الحسن ، والسلمي ، وعيسى بن عمر ، وابن أبي إسحاق ، وسلام{[18544]} ، ويعقوب : " وشُرَكاؤكُمْ " رفعاً ، وفيه تخريجان :

أحدهما : أنَّه نسقٌ على الضَّمير المرفوع ب " أجْمِعُوا " قبله ، وجاز ذلك ؛ إذ الفصل بالمفعول سوَّغ العطف .

والثاني : أنه مبتدأ محذوف الخبر ، تقديره : وشُركاؤكُم فليُجْمِعُوا أمرهم ، وشذَّتْ فرقةٌ فقرأت{[18545]} : " وشُرَكائِكُمْ " بالخفضِ ، ووُجِّهَتْ على حذف المضاف ، وإبقاء المضاف إليه مجرُوراً على حاله ؛ كقول الشاعر :

أكُلَّ امرِئٍ تَحْسِبينَ امْرَءًا *** ونَارٍ توقَّدُ باللَّيْل نَارَا{[18546]}

أي : وكُلَّ نار ، فتقدير الآية : وأمر شركائكم ؛ فحذف الأمر ، وأبقى ما بعده على حاله ، ومن رأى برأي الكوفيين جوَّزَ عطفه على الضَّمير في " أمركم " من غير تأويل ، وقد تقدَّم ما فيه من المذاهب ، أعني : العطف على الضَّمير المجرور من غير إعادة الجارِّ في سُورة البقرة .

قوله : " غُمَّةً " يقال : غمٌّ وغُمَّةٌ ، نحو كَرْبٌ وكُربَةٌ .

قال أبو الهيثم : هو من قولهم : غمَّ علينا الهلالُ ، فهو مغمومٌ إذا التمسَ ، فلم يُرَ ؛ قال طرفةُ بن العبد : [ الطويل ]

لعَمْرُكَ ما أمْرِي عليَّ بغُمَّةٍ *** نَهَاري ولا لَيْلِي عليَّ بِسرمَدِ{[18547]}

وقال اللَّيث : يقال : هُو في غُمَّةٍ من أمره ، إذا لَمْ يتبيَّنْ لهُ .

قوله : { ثُمَّ اقضوا } مفعول " اقضوا " محذوف ، أي : اقضُوا إليَّ ذلك الأمر الذي تريدون إيقاعه بي ؛ كقوله : { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر } [ الحجر : 66 ] فعدَّاه لمفعول صريح .

وقرأ السَّري{[18548]} : " ثُمَّ أفْضُوا " بقطع الهمزة والفاء ، من أفْضى يُفضِي إذا انتهى ، يقال : أفضَيْتُ إليك ، قال تعالى : { وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ } [ النساء : 21 ] ، فالمعنى : ثُمَّ أفضُوا إليَّ سرَّكم ، أي : انتهوا به إليَّ ، وقيل : معناه : أسْرِعُوا به إليَّ ، وقيل : هو مِنْ أفْضَى ، أي : خَرَجَ إلى الفضاءِ ، أي : فأصْحِرُوا به إليَّ ، وأبرزُوه لي ؛ كقوله : [ الطويل ]

أبَى الضَّيْمَ والنُّعْمَانُ يَحْرِقُ نابهُ *** عليه فأفْضَى والسُّيُوفُ معاقِلُه{[18549]}

ولامُ الفضاءِ واوٌ ؛ لأنَّه من فضا يَفْضُو ، أي : اتَّسعَ ، والمعنى : فأحكمُوا أمركُم ، واعزِمُوا وادعُوا شُركَاءَكُم ، أي : آلهتكُم ، فاستعينوا بها لتجتمع .

وروى الأصمعي ، عن نافع : " فأجمعُوا ذوي الأمر منكم " فحذف المضاف ، وجرى على المضاف إليه ما كان يجري على المضاف لو ثبت .

قال ابن الأنباري : المرادُ من الأمر هنا : وجوه كيدهم ، ومكرهم ، والتقدير : لا تتركوا مِن أمركُم شيئاً إلا أحضرتُمُوه . والمراد من الشركاء : إما الأوثان ؛ لأنَّهم كانوا يعتقدون أنَّها تَضُرُّ وتنفعُ ، وإمَّا أن يكون المرادُ : من كان على مثل دينهم .

{ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً } أي : خفيًّا مبهماً ، من قولهم : غَمَّ الهلالُ على النَّاسِ ، أي : أشْكل عليهم ، فهو مغمومٌ إذا خفي . " ثُمَّ اقضُوا " أي : امضُوا ، " إليَّ " : بما في أنفسكم من مكروه وافرغوا منه ، يقال : قضى فلان : إذا مات ، وقضى دينه : إذا فرغ منه ، وقيل معناه : توجَّهُوا إليَّ بالقتل والمكروه ، وقيل : " فاقْضُوا ما أنتم قاضُون " كقول السَّحرة لفرعون " { فاقض مَآ أَنتَ قَاضٍ } [ طه : 72 ] .

قال القفال : ومجاز دُخُول كلمة " إلى " في هذا الموضع من قولهم : برئت إليك ، وخرجت إليك من العهد ، وفيه معنى الإخبار ؛ فكأنَّه - تعالى - قال : ثم اقضُوا إليَّ ما يستقرُّ رأيكم عليه محكماً مفروغاً منه ، ثم لا تنظرون أي : لا تمهلون ولا تُؤخِّرُون .

وقد نظَّم القاضي هذا الكلام على أحسن الوجوه ، فقال : إنه - عليه الصلاة والسلام - قال في أول الأمر : فعلى الله توكلت ؛ فإنِّي واثقٌ بوعد الله ، جازم بأنَّه لا يخلفُ الميعاد ، فلا تظُنُّوا أنَّ تهديدكم إيَّاي بالقتلِ والإيذاء يمنعني من الدُّعاء إلى الله ثم إنَّه - عليه الصلاة والسلام - أورد عليهم ما يدل على صحة دعواهُ ، فقال : { فأجمعوا أَمْرَكُمْ } كأنَّهُ يقول : اجمعوا ما تقدرُون عليه من الأشياء التي توجبُ حُصُول مطلوبكم ، ثم لم يقتصر على ذلك ، بل أمرهم أن يضُمُّوا إلى أنفسهم شركاءهم الذين كانوا يزعمون أنَّ حالهم يقوى بمكانتهم وبالتَّقَرُّب إليهم ، ثم لم يقتصر على هذين ، بل ضمَّ إليهما ثالثاً ، وهو قوله : { ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً } أراد أن يبلغوا فيه كل غايةٍ في المكاشفةِ والمجاهرة ، ثم لم يقتصر على ذلك ، بل ضمَّ إليها رابعاً ، فقال : { ثُمَّ اقضوا إِلَيَّ } والمراد : أن وجهوا كلَّ تلك الشُّرُور إليَّ ، ثم ضمَّ إلى ذلك خامساً ، وهو قوله : { لاَ تُنظِرُونَ } أي : عجِّلُوا ذلك بأشد ما تقدرون عليه من غير انتظار ، ومعلومٌ أنَّ مثل هذا الكلام يدل على أنه - عليه الصلاة والسلام - كان قد بلغ الغاية في التوكل على الله ، وأنَّه كان قاطعاً بأنَّ كيدهم لا يضرُّه ، ولا يصل إليه ، ومكرهم لا ينفذُ فيه .


[18532]:ينظر: المحرر الوجيز 3/131، البحر المحيط 5/176، الدر المصون 4/53.
[18533]:ينظر: المحرر الوجيز 3/131.
[18534]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/362) والرازي (17/109).
[18535]:البيتان لعنترة. ينظر: ديوانه (6) والبحر المحيط 5/177 والدر المصون 4/53.
[18536]:ينظر البيت في ديوانه (118) والبحر المحيط 5/177 والمنصف 3/47 وروح المعاني 11/157 والتهذيب 2/97 وشرح المعلقات للزوزني 311 وشرح القصائد السبع 452 والدر المصون 4/53.
[18537]:البيت ينسب للمؤرج ينظر: الخصائص 2/136 والهمع 1/247 ومعاني الفراء 1/473 والنوادر 133 والدرر 1/204 والبحر المحيط 5/177 والقرطبي 8/231 واللسان (جمع) وشرح القصائد السبع 452 والدر المصون 4/53.
[18538]:تقدم.
[18539]:تقدم.
[18540]:تقدم.
[18541]:ينظر: السبعة ص (328)، الحجة 4/287، إعراب القراءات 1/270، النشر 2/286، إتحاف فضلاء البشر 2/117.
[18542]:ينظر: السابق.
[18543]:تقدم.
[18544]:ينظر: إعراب القراءات 1/271، إتحاف فضلاء البشر 2/117-118، المحرر الوجيز 3/132، البحر المحيط 5/178، الدر المصون 4/55.
[18545]:ينظر: المحرر الوجيز 3/132، البحر المحيط 5/178، الدر المصون 4/55.
[18546]:تقدم.
[18547]:ينظر البيت في ديوانه (40) والبحر المحيط 5/178 والتهذيب 16/115 وشرح القصائد السبع 288 والتفسير الكبير 87/138 والقرطبي 8/232 واللسان (غمم) والدر المصون 4/55.
[18548]:ينظر: الكشاف 2/360، المحرر الوجيز 3/132، البحر المحيط 5/179، الدر المصون 4/55.
[18549]:تقدم.